لا يجمع بين السودان واليابان إلا وجود الألف والنون في آخر اسميهما، واحدة منهما في آسيا والأخرى في أفريقيا، واليابان من أوائل دول العالم المتقدم، والسودان من بلدان العالم المسمى مجازاً بدول العالم الثالث، لا تجد يابانياً لاجئاً، ونجد الملايين من السودانيين يعيشون في خيام مهترئة عند وداخل دول الجوار السوداني. اليابان لا تملك موارد طبيعية على الإطلاق وليس لديها متسع من الأراضي للزراعة الكثيفة، أما السودان فهو بلد الأنهار العريضة الغزيرة وقادرٌ على إطعام ربع سكان العالم تقريباً، لكنه جائع في نفس الوقت وللغرابة. اليابان منذ عشرين عاماً تعاقب على إدارة شؤونها ثلاثون رئيس وزراء تقريباً، وجرت فيها عشرات الانتخابات البرلمانية والبلدية وغيرها، أما السودان فيحكمه طرف واحد منذ التاريخ نفسه وحتى الآن، ولم يُجرَ فيه انتخاب إلا انتخاب مجالس إدارة الأندية الرياضية وبعض النقابات الفنية. اليابان بعد حروبها العالمية المهلكة تعيش في سلام مع جيرانها، وميزانية الدفاع فيها تأخذ 1 في المئة من الميزانية العامة: أما السودان فهو في حالة حرب مع بعض الجيران، وميزانية الدفاع والأمن تلتهم 60 في المئة من الميزانية العامة. اليابان لم يُعرف عنها أنها احتضنت -رسمياً- مطلوباً للعدالة الدولية، أما السودان فيكفي أن نقول إن أكثر مطلوبَين في العالم (بن لادن وكارلوس) عاشا على أراضيها ردحاً من الزمن إلى أن قررت العدالة السودانية تسليم أحدهما في آخر الليل لبلد أوروبي، ونصحت الآخر بالمغادرة إلى بلد مضطرب آخر. كل تلك الفروقات ليست كافية لتبيان الهوة التي تفصل بين اليابان والسودان، هناك نقائض أخرى استرجعتها ذاكرتي وأنا أقرأ كتاباً عن اليابان الحديثة والمعاصرة. الكتاب يوضح تلك العقيدة الراسخة في نفوس اليابانيين لفداء بلدهم، ولتلك العقيدة أشكال متعددة: من ذلك اتجاه الطائرات اليابانية في الحرب العالمية الأولى والثانية بتوجيه وبقصد من طياريها صوب السفن الحربية المعادية من أجل إلحاق أكبر تدمير فيها ومقتل من عليها، وبالطبع فإن أول الضحايا هم الطيارون اليابانيون أنفسهم، ومقابل ذلك هناك توقيع الإمبراطور الياباني السابق "هيروهيتو" لمرسوم موجه لعموم اليابانيين بأنه ليس ابن إله الشمس الذي يؤمنون به وبها، وليست له صفة غير إنسانية! عندما كان يفعل هذا الإمبراطور الراحل، كان يعلم أنه تحت حراب الأمريكان المنتصرين لكنه كان يفتدي قدس الأقداس الذي يمثله، ويعتبره لا شيء، وكل ذلك من أجل يابان أقل جُرحاً وأقل نزفاً للكرامة الوطنية، لم يكابر الرجل لأن اليابان فوق الجميع وفوق المعتقدات السابقة التي نسفت مع قنابل هيروشيما وناجازاكي. تحكي صفحات الكتاب كذلك عن رئيس الطيران المدني الياباني الذي -ولدهشة الجميع- استل مُسدساً من جيبه وهو يعقد مؤتمراً صحفياً يشرح فيه ما حدث للمسافرين على إحدى طائرات الخطوط الوطنية اليابانية من تسمم في الأكل ودخول الكثيرين منهم للمستشفى لقضاء بضع ساعات فقط، وكان المقابل هو وضع المسدس في صدغ رئيس الطيران وإطلاقه النار على نفسه لأنه ألحق الضرر بمسافريه وألحق الضرر بسمعة اليابان! هذا الإحساس والمشاعر المستقرة بشدة في نفوس اليابانيين نرى النقيض لها -للأسف- في نفوس العرب جميعاً. دارفور تشهد مؤخراً زيارات لم تكن معهودة على الإطلاق من قبل المسؤولين السودانيين، بالرغم من أن الفواجع الإنسانية في هذه المقاطعة كانت حاضرة من خلال التقارير الرسمية والأمنية على طاولات بعض المسؤولين أنفسهم. الجولات المكوكية بين العاصمة والجنوب، والعاصمة وأقصى الغرب لن تغير من الأمر شيئاً حتى ولو اقترن كل ذلك بإطلاق سراح هذا السجين السياسي أو ذاك، أو القول بأن مشروع عقد اجتماعي جديد سيظهر (قريباً) في كل أنحاء السودان. ما تم حتى الآن هو في الحقيقة من توابع الزلزال، وكان جديراً بمن يطلقون التهديد حيناً والوعود حيناً آخر، أن تكون تلك المبادرات قبل الحدث. الشعور بأن أخطاء كبرى قد حدثت في السودان -كما في كل بلاد العرب- ومحاولة إصلاحها منذ البداية، كان يمكن أن يغني عن تدخل الغرباء في شؤوننا. أما الاستمرار في عملية توالد الأخطاء الكبرى المهلكة والقول إن ذلك مؤامرة على بلداننا ولماذا لم تُفعَّل العدالة هنا وهناك، فهو إضاعة وقت هو مضاع بالفعل ودعوة للتدخل أكثر في شؤوننا التي تمزق جلدها. إطلاق الوعود وتهديد الفرقاء الآخرين، والأخطاء الكبرى التي تقترف في حق أوطاننا ستؤدي إلى تفتيت وحدة هذه الأوطان وزيادة معاناتها وجعلها لُقمة سائغة للطامعين. كاتب سعودي