في ندوة « أزمة التشريع بالمغرب بين مطلب الحكامة وغياب الفاعلية على ضوء مشاريع القوانين الجديدة « يستلزم الامر تحديد مفهوم التشريع. لنخلص إلى البحث عن حقيقة وجود ازمة في فيه بين مطلب الحكامة وغياب الفاعلية بخصوص نموذج مشاريع القوانين الجديدة. ان التشريع هو ذلك التصور المجتمعي الذي يتبلور من مخاض سياسي وفكري متنوع او متضاد. ينتهي فيه افراد المجتمع الى خلاصات إما في شكل توافق او توافقات. او في شكل قرار تعسفي تتخذه اغلبية الأصوات وتفرضه على الأقلية التي ترضخ اليه. والخلاصة التي ينتهي لها هذا المخاض الفكري والسياسي يترجم في شكل « القانون». الذي تخضع به الأغلبية الأقلية. وهو القانون الذي يعطى له رقما وتاريخا. ويتم نشره للمجتمع ليلتزم به. وهذا القانون بعد صدوره يمكن ان يكون متسما بالشرعية والمشروعية معا. ويمكن يكون متسما بالشرعية لكنه فاقدا للمشروعية. ويمكن يكون متسما بالمشروعية لكنه فاقد للشرعية. إذ الشرعية هي استناد السلطة او الحكومة فيما تصدره من قوانين على قانون عام يتفق عليه المجتمع بكامله في تنظيم قضاياه الكبرى و توابته التي المتراضى عليها و المؤسسة لذلك المجتمع. ويسمى في كل الدول والمجتمعات ب « الدستور». يحدد الحقوق والحريات التي يجب على القانون الا يخل بها. أما الشرعية فهي مدى تطابق نص القانون الذي تصدره سلطة لحكومية معينة مع إرادة ورضى افراد مجتمع معين بتلك السلطة الحكومية. ولهذا قد يصدر قانون متسم بالشرعية عن حكومة معينة لكن غير متسم بالشرعية. لأنه صارد عن حكومة استولت على السلطة بالانقلاب. وقد يصدر قانون متسما بالمشروعية لكنه فاقد للشرعية. كالقوانين التي تصدر عن ثورة يقوم بها مجتمع بعد استيلائها على السلطة وتلغي جميع المؤسسات. لكن يقبل بها المجتمع. فالأزمة التي يشير اليها عنوان الندوة سبق للجنة المكلف بإعداد النموذج التنموي ان وقفت عليها في تقريرها الختامي. والذي اعتبرت ان عدم تدقيق القوانين ودورة القضاء هما العائق الرابع للتنمية. إذ ورد في تلك الخلاصة توصيفا جد صعب وجد قاس ترجم نظرة أعضاء تلك اللجنة للقانون وللقضاء في بلادنا. وهو التوصيف الذي ذكرته تلك اللجنة في الفقرة الأولى من الصفحة 32 منه. إذ ورد في الفقرة الأولى ما يلي: «يتعلق العائق الرابع بالشعور بضعف الحماية وعدم القدرة على التوقع الذي يحد من «المبادرات بسبب الهوة ما بين بعض القوانين التي تخللها مناطق رمادية والواقع «الاجتماعي، وقضاء يعاني من انعدام الثقة إضافة إلى ثقل البيروقراطية وتعثر سبل الانتصاف. كما ورد في الفقرة الثالثة من نفس الصفحة 32 منه ما يلي: «أن الاعتقاد السائد بكون العدالة غير فعالة يسهم في كبح الطاقات. وعلى الرغم من «الاصلاحات التي تم إطلاقها لضمان استقلالية القضاء وتعزيز فعاليته والثقة فيه، فإن «إحراز النتائج يعرف بعض التأخر: آجال طويلة للبث في الملفات، عدم القدرة على «توقع الاحكام، نقص في الكفاءات، ضعف في الشفافية، وقصور على مستوى السلوك «والاخلاقيات. إن الممارسات التعسفية، وإن كانت معزولة، وعدم دقة بعض النصوص «القانونية وتفاوتها مع الواقع والممارسة يقوي تصور المواطنين والفاعلين بخصوص «مخاطر عدم الاطمئنان والتعرض للتعسف في منظومة العدالة. وينظر المواطنون إلى «بعض حالات عدم الدقة في الصياغة القانونية على كونها هوامش لتوظيف القانون «لأغراض معينة الذي قد يمس ممارسة الحريات العامة والفردية، مما يجعلها بذلك تحد «من حرية تعبير المواطنين ومشاركتهم كفاعلين. وسيحاول في هذا العرض مقاربة الجواب على تساؤل عنوان الندوة من حول مقاربة لمفهوم القانون على ضوء دستور 2011 . وذلك بإبداء بعض المقدمات الضرورية لتلك المقاربة ولتحديد التأطير الفكري القانوني الذي اعتقد انه يجب ان ينهل منه الجواب على التساؤل المذكور ويؤسس له. إذ من المعلوم أن الجواب على أي سؤال فلسفي , او مجتمعي, او سياسي, او اقتصادي, او قانوني, إذا لم يكن يستند إلى منطلق أو الى أرضية أو الى مرجع سيكون ذلك الجواب, كلاما مرسلا. أي لا بدون شرعية. لهذا ارتأيت أن أقدم لهذا الموضوع بالمقدمات التالية: المقدمة الأولى: ان البحث عن جواب على سؤال هذا العرض لابد له ان يستحضر تجادب وتلازم ما بين ما هو سياسي وما هو قانوني. ولقد استعملت كلمة « تجادب « وكلمة « تلازم» بالجمع بينمهما, وليس بالتخيير بينهما. إذ لا حياة لما هو سياسي بدون ما هو قانوني والعكس اصح. هذا التجاذب والتلازم يطرح ويجيب في نفس الوقت, على سؤال الأولوية او سؤال التبعية. أي هل ما هو سياسي هو الذي يجب ان يتبع لما هو قانوني. أم ان ما هو قانوني هو الذي يجب يتبع لما هو سياسي. وبوضوح أكثر هل الفعل السياسي هو الذي يتحكم في الفعل القانوني. ام أن الفعل القانوني هو الذي يتحكم في الفعل السياسي. قد يظهر الجواب اليوم سهلا للقول بكون السياسي هو الذي يتحكم في القانون. أي أن الفعل السياسي يستخدم القانون لتطبيق ما يخلص اليه من تصورات لتدبير المجتمع. باعتبار ان القانون هو آلية العنف المشروع. أي الية الزام غير القابلة للممانعة في الخضوع لها. ذلك العنف المشروع الذي يتمدد ما بين النص على إبطال تصرف مدني لفرد في خصومته مع فرد آخر في قضاياهم الخاصة التي لا تأثير لها على المجتمع مباشرة. الى الحكم بإعدام شخص في خصومته مع المجتمع. المقدمة الثانية: وهي متعلق بالجواب على السؤال التالي هل وظيفة القانون هي انه يعكس سلوك المجتمع. أم ان وظيفة القانون هي تغيير سلوك ذلك المجتمع. علما أن الأصل في تاريخ المجتمعات الإنسانية، أن القانون لا يتدخل إلا بعدما يستقر المجتمع على سلوك معين. فيأتي القانون ليضفي عليه صبغة القانون. ويكرس ذلك السلوك بمقتضى قواعد تصبح ملزمة للجميع. أي ان المجتمع كان يحممه العرف أي ما تواتر الناس على القبول به وعلى عدم الاعتراض عليه في سلوكيات افراده. وهو الموقف الذي لا زال البعض يدافع عليه بقوة مثلا بلد كبريطانيا. بينما الاتجاه العام اليوم هو أن القانون لم يبق ينتظر أن يغير المجتمع سلوكه ليتدخل هو في آخر المطاف ليقنن ذلك التغيير. بل أصبح القانون أداة لتدخل السلطة او الحكومة ليغير سلوكا قائما في المجتمع. كأن يحدث حقوقا جديدة. أو ينزع حقوقا كانت موجودة. سواء بصفة دائمة أو مؤقتة. وعندما استقر العالم اليوم على هيمنة ما هو سياسي على ما هو قانوني اصبح تدخل السلطة او الحكومة لا يقتصر على تقنين مت تعارف الناس عليه من سلوك. بل اصبح تدخلها يرمي الى تغيير سلوك قائم. وهذا التدخل لم يكن بدون مستند شرعي. بل هو تدخل مستند إلى شرعية تولدت من كون السياسة التي تباشرها الحكومات أصبحت هي سياسات معبرة على سيادة الأمة. وهي السيادة التي فوضتها لممثليها عن طريق الانتخاب سواء كان مباشر او غير مباشر. المقدمة الثالثة: هي مستمدة من القواعد التي تتحكم في سريان الكون. ومن بينها القاعدة المركزية في علم الفيزياء القائلة بوجود تداول وتناوب بين الثابت والمتحول. وهي قاعدة موجودة في علم الفيزياء، كما هي قاعدة موجودة في العلوم الإنسانية على رأسها علم الاجتماع وما يتفرع عنه من علوم إنسانية أخرى يدخل فيها علوم القانون. فالقانون خضع هو كذلك لهذه القاعدة الكونية. إذ أنه انتقل في المغرب من وضعية الثابت باعتبار كان يصدر عن المؤسسة الملكية. إلى وضعية المتحول لأنه أصبح يصدر عن الحكومة والبرلمان. وهما معا يخضعان للتغيير بحكم ضرورة تجديدهما بدورة الانتخابات. هذه المقدمات ستساعد على فهم خلفيات مقاربة الجواب على السؤال موضوع هذا العرض الذي وهو سؤال: القانون على ضوء دستور 2011. سنحاول تناول هذه المقاربة من المداخيل الاربعة التالية: المدخل الأول: تاريخ مصدر القانون في المغرب: المتتبع للحراك الذي عرفه المغرب مباشرة بعد التحولات التي وقعت بالأساس في كل من تونس ومصر، سيلاحظ أن المجال السياسي المغربي طبعته لحظات ستسجل كمحطات اثرت في تاريخ المغرب واسست للتحول الدستوري الذي عرفه بلادنا. وللتحول من أجل بناء الدولة المغربية الديموقراطية الحديثة. تلك المحطات التي يمكن تحديدها في: – محطة الخطاب الملكي ل 9 مارس. – محطة انخراط واجماع المجتمع السياسي والمجتمع المدني والشعبي في مبادرة مراجعة الدستور. – محطة الخطاب الملكي ل 17-06-2011. وهذه محطات هي بمثابة تحكيم قام به جلالة الملك. وهو ما اسميه بالتحكيم الملكي الثالث. ذلك انه منذ تولي جلالة الملك مهامه كملك للبلاد قام بثلاثة أنواع من التحكيم: التحكيم الاول: يمكن وصفه بتحكيم بين الدولة والمجتمع. والمتمثل في إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة. وهي الهيئة التي فتحت ملف الزمن الذي عرف بزمن الجمر والرصاص. وهي الهيئة التي وقفت على مسؤولية الدولة فيما تعرض له أبناء وطننا في الماضي. وهي التجربة التي عجزت عن القيام بمثلها عدة دول في المحيط الإقليمي للمغرب. التحكيم الثاني: يمكن وصفه بتحكيم بين المجتمع والمجتمع. والمتمثل في الخلاف الذي كاد ان يعصف بالمجتمع المتعلق بمبادرة حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي السابقة في فتح مجالات أخرى للمرأة بتعديل قانون الأحوال الشخصية وقادها بكل عزيم السيد الوزير سعيد السعدي. فووجهت تلك المبادرة بمقاومة لذلك التعديل. مما دفع الى تدخل جلالة الملك عندما عرض مدونة الأسرة لأول مرة في تاريخ المغرب على البرلمان. تلك المدونة التي شكلت ثورة في المجتمع المغربي وشهد بذلك العالم كله, وأعاد فتج النقاش مجددا حول تطوريها لتلائم المستجدات التي يعيشها مجتمعنا في خطابه الأخير. التحكيم الثالث: يمكن وصفه بتحكيم بين الدولة والدولة. وهو الذي يهمنا في هذا المقال, هو المتمثل سن دستور 2011. وهو الدستور الذي تخلي فيه جلالة الملك على عدد من صلاحيته التي كانت تنص عليها الدساتير السابقة منذ دستور 1962 الى دستور 1996. إن اية قراءة لدستور 2011 لن تكون موفقة إذا لم تقرأ قراءة متكاملة مع خطاب 9-03-2011 وخطاب 17-06-2011. إذ بقدر ما كان خطاب 9-03-2011 محددا للإطار العام والقواعد الأساسية لمشروع الدستور الجديد بقدر ما كان خطاب 17-06-2011 مفسرا لما اتى به الدستور في القضايا الجد حساسة. كتلك التي تتعلق بتخلي الملك على عدد من صلاحياته في سبيل تطوير الدولة الحديثة. ومن بينها صلاحية اصدار القانون. بعدما وسعت اختصاصات البرلمان. وهو القانون الذي يهمنا في هذا العرض. وكما هو معلوم لدى فقهاء القانون الدستوري، فإن المهمة الأساسية والمركزية لكل دستور هي الجواب على سؤالين: الأول: هو تحديد مصدر السلطات. الثاني: هو توزيع تلك السلطات توزيعا يأخذ في الاعتبار مصدر السلطات. ومن الضروري التدقيق بكون توزيع السلط الذي يهمنا في هذا المجال، ليس ذلك التوزيع الذي يمركز كل السلطات بين يدي الأجهزة التنفيذية المختلفة، فهذا النوع من التوزيع لا يعتبره الفكر السياسي والفقه الدستوري الحديث مترجما لدولة ديموقراطية وإن كان لها دستور. إن توزيع السلطات المعني في هذا المقال هو ذلك التوزيع الذي يضمن للسلطات، تنفيذية وتشريعية وقضائية توازنها وتعاونها واستقلالها لما فيه خدمة مشروع مجتمعي هدفه ضمان كرامة المواطن بكل حمولاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبعد هذا التدقيق سنحاول تقديم أجوية على السؤالين المذكورين أعلاه. يتبع