صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الحسيمة : ملتقي المقاولة يناقش الانتقال الرقمي والسياحة المستدامة (الفيديو)    تعيين مدير جديد للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بتطوان    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    لمدة 10 سنوات... المغرب يسعى لتوريد 7.5 ملايين طن من الكبريت من قطر    الأرصاد الجوية تحذر من هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    الدرك الملكي بتارجيست يضبط سيارة محملة ب130 كيلوغرامًا من مخدر الشيرا    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    هل يستغني "الفيفا" عن تقنية "الفار" قريباً؟    مصرع شخص وإصابة اثنين في حادث انقلاب سيارة بأزيلال    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    بعد ورود اسمه ضمن لائحة المتغيبين عن جلسة للبرلمان .. مضيان يوضح    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين تسلم "بطاقة الملاعب" للصحافيين المهنيين    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    صيدليات المغرب تكشف عن السكري    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة        معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    مركز إفريقي يوصي باعتماد "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    الدولة الفلسطينية وشلَل المنظومة الدولية    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    عواصف جديدة في إسبانيا تتسبب في إغلاق المدارس وتعليق رحلات القطارات بعد فيضانات مدمرة    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    إسرائيل تقصف مناطق يسيطر عليها حزب الله في بيروت وجنوب لبنان لليوم الثالث    الجيش الملكي يمدد عقد اللاعب أمين زحزوح    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    ترامب يعين ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية الأمريكي    غينيا الاستوائية والكوت ديفوار يتأهلان إلى نهائيات "كان المغرب 2025"    غارة جديدة تطال الضاحية الجنوبية لبيروت    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سبيلا، صيرورات الحداثة وممانعات التقليد
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 08 - 2021

غاص المفكر والفيلسوف المغربي الراحل محمد سبيلا، على امتداد نصف قرن من التفكير والبحث والكتابة، في أسئلة الحداثة والتحديث والهوية والثقافة، دون أن ينجر إلى إسقاط المفاهيم الغربية على قضايا الفكر العربي التي لها سياقاتها وخصوصياتها، وهي السياقات التي حاول الراحل تشريحها لفهم أسباب تعثر المشروع الحداثي بالعالم العربي وبالمغرب على وجه الخصوص، وهو ما دفعه الى مجاورة ومحاورة العديد من مفكري الحداثة الغربيين دون أن يكتفي، في ترجماته، بدور الناقل المستنسخ بل حاول ربط هذه المفاهيم بالتربة المحلية وقضاياها الشائكة، مؤمنا بأن الحداثة هي مساءلة مستمرة وتخط لذاتها وتجديد مع مراعاة القطائع والخطوط الحمراء للتمييز بينها وبين التقليد.
لقد اختار فقيد الفكر والفلسفة المغربيين، النفاذ الى قضايا مجتمعه (الاجتماعية والسياسية والثقافية) من بوابة «الحداثة»، المفهوم الذي شكل عصب مشروعه الفكري والفلسفي. فقد انشغل واشتغل على المفهوم معتبرا إياه الرهان الحقيقي للانتقال إلى مجتمع التقنية بإخضاع الفكر أيضا للتحديث عبر المساءلة والنقد، وتفكيك اليقينيات والوثوقيات، وهي المهمة التي أداها، طيلة مساره الفكري والنضالي، بكل اقتدار وأمانة، مهمة المثقف غير التقليدي وغير الرسمي الذي يُخضع كل البنى المجتمعية للنقد والتشريح كسبيل وحيد للانتقال الى مجتمع الحداثة لهذا بنى الراحل مشروعه الفكري عبر ملامسة والاقتراب من هذا المفهوم من زوايا نظرية عديدة ، بدءا بعلم الاجتماع والتاريخ وانتهاء بالفلسفة، تلك الفلسفة التي أسس، رفقة عدد من المنارات الفكرية المغربية أمثال محمد عابد الجابري، محمد عزيز الحبابي، سالم يفوت، محمد وقيدي، عبد السلام بنعبد العالي… صرحها وجعلها مدرسة فلسفية قائمة الذات، بمرجعياتها وأسئلتها ورهاناتها التي لم تنفصل عن المجتمع وأسئلته السياسية والاجتماعية. وقد تمكن في هذا الصدد من مراكمة منجز فلسفي ثرّ كان ناظمه خيط الحداثة وما بعدها.
إكراما لروح فقيدنا، وعطائه الفكري والفلسفي، نقدم لقرائنا هذا الملف الذي يضيء على بعض جوانب من اهتمامات الراحل ومداراته الفكرية، وأهم الانشغالات الفلسفية التي أطرت وأثْرت مشروعه الذي كان وسيظل فارقا في المنجز الفلسفي والفكري العربي والمغربي.

مع موت بن رشد بمراكش، في العاشر من دجنبر سنة 1198م، انقطع حبل التفكير الفلسفي، واستغرقه سبات شتوي طويل لم يستفق منه إلا في العقد الخامس من القرن العشرين. حيث مثل صدور كتاب «من الكائن إلى الشخص» للفيلسوف الراحل محمد عزيز الحبابي سنة 1954، إيذانا بانبعاث جديد، وولادة أخرى للفلسفة بالمغرب.ولم يَجْرِ الاحتفاء بهذا الكتاب بوصفه منجزا تدشينيا للفكر الفلسفي بالمغرب الثقافي المعاصر فحسب، بل أيضا لأنه شكل انعطافة فلسفية تعد واحدة من فلتات زمانه. يشهد على ذلك الاهتمام الكبير الذي أحيط به من طرف كوكبة من الفلاسفة الفرنسيين المرموقين من طينة بيير ماكسيم شول وجان فال وغيرهما.
استند محمد عزيز الحبابي في كتابه «من الكائن إلى الشخص» على مرجعية فلسفية، وجودية وشخصانية بآن، حيث عضد معجمه الأنطولوجي بكتابات شارل رينوفييه وجان لاكروا وإيمانويل مونييه ومارتن هايدغر وجان بول سارتر. لكن، بالرغم من اتكائه على مرجعية فلسفية حداثية، إلا أنه ظل قريبا من نبض التراث، مشدودا إلى مظانه، متعلقا بمؤدياته. وظل الحبابي حريصا على الانضباط لقاعدة التخاصب بين السجلات والإبدالات التراثية والحداثية.وهي القاعدة عينها التي جعلته لا يستنكف عن الحديث عن شخصانية إسلامية أو عن فلسفة غدية أو ثالثية في أفق إسلامي.
والحق، أن المفكرين المغاربة الذين جايلوا الحبابي أو جاؤوا بعده، لم يحيدوا بدورهم عن إشكالية التراث والحداثة، بل جعلوا منها مناط تفكيرهم ومدار أنظارهم . إلى حد أننا لا نكاد نلفي مصنفا من مصنفاتهم إلا ويتضمن إلماعة إليها. هكذا، فبعد ثلاثة عشر سنة من ظهور كتاب «من الكائن إلى الشخص»، أصدر عبد لله العروي كتابه الفارق «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» الذي باشر فيه ضربا من الحفر الأركيولوجي النقدي في التشكيلات الإيديولوجية التي تكونت عربيا بشأن أزواج ضدية مزمنة من قبيل الأنا والآخر، والماضي والحاضر، والتراث والحداثة. وانصرف عبد لله العروي في سائر مصنفاته وكتاباته اللاحقة إلى تشخيص معاطب الواقع العربي، وإبراز عوائق تخلفه عن الشرط الحداثي؛ جاعلا من هاتيك المصنفات والكتابات «فصولا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة « كما صرح بذلك في مقدمة كتابه «مفهوم العقل». وفي هذه الفصول الخصبة من مدونته الفلسفية المائزة أعرب العروي عن انتصاره اللامشروط لمنطق الحداثة ولأقانيمها الرئيسة(العقلانية، الفردانية، الحرية…)، ولم يخف تبرمه من مفاعيل التقليد، ومن طاقته السالبة المكبلة للوعي والوجدان والحس المشترك، بل ذهب إلى حد الدعوة إلى التحلل من إسار التراث و»الحسم معه اجتماعيا وسياسيا وفكريا». وكان مستنده في ذلك مرجعيته الفلسفية التاريخانية التي تتنافى والمطلقات، والتي تحتفي بالمتغيرات التاريخية ضدا على الثوابت الترنسندنتالية، وتحتكم إلى صيرورة الزمن التاريخي في شرعنة القيم والأفكار والمؤسسات، وفي الحكم على البنيات والذهنيات والمنظومات. ولم يَحِدْ محمد عابد الجابري بدوره عن نفس الأبعاد الأنطولوجية والإبيستمولوجية والإيديولوجية التي تطرحها مشكلة الحداثة والتراث. وبالرغم من احتفاء الجابري بالحداثة وانتصاره لفتوحاتها وأطروحاتها إلا أنه لم يصنع بالتراث صنيع العروي، ولم يدع إلى القطع معه والتحلل منه. لأن الاشتغال بالتراث، عنده، هو جزء من تمكين الحداثة وتوطينها أو تبيئتها وتأصيلها. يقول محمد عابد الجابري في الصفحات الأولى من كتابه التراث والحداثة: «إن الحاجة إلى الاشتغال بالتراث تمليها الحاجة إلى تحديث كيفية تعاملنا معه خدمة للحداثة وتأصيلا لها.وهذه وجهة نظر عبرنا عنها منذ بداية اشتغالنا بالتراث مع منتصف السبعينات». فالانصراف إلى الحداثة، ليس في عرفه انصرافا عن التراث، والانكباب على قضايا التراث وأسئلته ليس مهرباً من الحداثة أو بديلا عنها. ولئن كان الطريق الوحيد إلى العصر هو الحداثة، فإن المختبر الإبيسمولوجي للحداثة في نظره هو التراث. هكذا، وخلافا للتصور القطائعي للحداثة، عند عبد لله العروي، يدعونا الجابري إلى رؤية تأصيلية، كما يدعونا في ذات الآن إلى فهم حداثي للتراث ضدا على «الفهم التراثي أو التقليداني للتراث»: يقول محمد عابد الجابري في كتابه «التراث والحداثة» إن «الذين يلغون التراث ،بجرة قلم أو بشطحة فكرية هم واهمون. لأن إلغاء التراث لا يمكن أن يتم إلا بتحقيقه. والذين يطالبون بتحقيق التراث ،هكذا بجرة قلم أو بموعظة حسنة واهمون أيضا ، لأن تحقيق التراث لا يتم إلا بإلغائه».
لكن إذا كان عبد لله العروي يمثل الموقف القطائعي من إشکالية التراث والحداثة، وكان الجابري يعكس التصور الجدلي النقدي، فقد عمل عبد الكبير الخطيبي من جهته على تناول حدي التراث والحداثة تناولاً تفكيكياً، وأجرى عليهما نقداً مزدوجاً «ينصب علينا كما ينصب على الغرب؛ ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا»، وفي مقاربته الجنيالوجية هذه حاول الكشف عن الماهية الميتافيزيقية الثاوية خلف كل من التراث والحداثة: هذه الماهية الميتافيزيقية التي تجعل التراث يطالعنا على هيأة أصل متعال، وكل متجانس، واحد ومطابق لذاته في كل زمان ومكان، كما تجعل الحداثة تَفِدُ علينا في صورة موغلة في النزوع الواحدي والرؤية التقنوية والمركزية الإثنية الأوروبية.
في نفس السياق الفلسفي التفكيكي لبنية الحداثة ولماهيتها الميتافيزيقية يعتبر الراحل الكبير المفكر محمد سبيلا أن مفهوم الحداثة لا يرتد بنا إلى كل متجانس، ولا يعطانا في صورة أحادية وبديهية. ولأن الحداثة، عنده، هي محط التباس وهي معتاصة على التعريف والتصنيف، متأبية على التطويق والتحقيق، فإنها تقوم بالإقتضاء على ما ينعته محمد سبيلا «بالتعددية الخرائطية». مما يقضي بوجود حداثات بصيغة المتعدد لا المفرد، وعلى مقياس المتبدل المختلف لا على قاعدة القار المؤتلف. من ثمة لا يتعين، في تصوره، النظر إلى الحداثة كماهية ميتا – تاريخية أو ككيان جوهراني يقع من التراث موقع الضد النقيض من الضد المناقض.إن الحداثة لا تكف عن التشغيب على التقليد ومراودته على نفسه، مما يجعلها تنأى عنه لتدلف منه، تتربص به كما يتربص بها وتمكر به مثلما يمكر بها، وتجعله في خدمتها مثلما يجعلها في خدمته، تغازله وتنازله، تحيط به لتستأصل جذوره، لكنها تتحوط منه لئلا يجفف مواردها: لأنه «إذا كان التقليد راسخا وقويا وضاربا بجذوره في أعماق التاريخ والنفوس والمتخيل، فإن الحداثة أيضا لها، كما يقول سي محمد سبيلا، مظاهر قوتها وآلياتها الاستدماجية والتكييفية وقدراتها الإغرائية». إن الحداثة لا يمكن أن تتخلص من التراث المركوز في الوجدان والأذهان بجرة قلم أو بقرار شخصي منفرد، لأن معركة الحداثة ضد التقليد بالغة الشراسة، حامية الوطيس وطويلة الأمد. لكن منازلة الحداثة للتقليد ليست أهون من منازلتها لذاتها؛ إذ أنها لا تواجه التراث التليد ولا تحارب التقليد الماضوي فحسب، إنما تواجه نفسها أيضا متى تحولت بدورها إلى تقليد، أو متى استحالت إلى أنموذج معياري ثابت أو تحنطت على هيأة مأثور مرجعي. تعمل الحداثة، كما يقول محمد سبيلا، على تقويض منظومات التقليد، كما لاتكف، في نفس الوقت، عن تطويع التراث « ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه». وبقدر ما تعمل الحداثة على تقويض هياكل التقليد، وخلخلخة المطلقات، فإنها ترنو في ذات الآن إلى تقفي الجديد بشكل مستجدّ وصناعة المستقبل بصورة موصولة، و»تحويل الجواهر إلى علاقات، والماهيات إلى سيرورات، والغايات إلى وسائل، مدهرنة كل ما هو مقدس، ومؤرخنة كل ما هو أبدي، ومبخرة كل ما هو صلب «.ولعل هذا ما قاد محمد سبيلا في سياقات متعددة إلى الامتناع عن النظر إلى الحداثة كماهية ميتا-تاريخية أو ككيان جوهراني يقع من التراث موقع الضد من شدّه الجدليّ السالب.
هذا هو الدرس الفلسفي والاستراتيجي التي تأدى إليه أستاذنا محمد سبيلا بعد حفر أركيولوجي عميق في طوبوغرافيات الحداثة.
وعليه، لا يدلف فقيدنا العزيز من التراث إلا باعتباره مفكر الحداثة بلا منازع، وفيلسوف الصيرورة الخلاقة بلا ممانع أو مدافع. لذلك، فكل احتفاء بالأستاذ محمد سبيلا، هو في الجوهر احتفاء بالحداثة، واحتفال بفتوحاتها وانتصاراتها. ولئن كانت الحداثة تقوم من إشكالات الفكر الفلسفي المغربي المعاصر مقام الموضوعة الأثيرة، فإن مفكرها الأكثر بروزاً ومنظرها الاستراتيجي والكارتوغرافي الأشد سطوعا يظل بلا ريب هو الأستاذ الدكتور محمد سبيلا. فهو لم يجعل من الحداثة محض بديل براديغمي يُلغي التقليد ويَجُبُّ التراث كما ينجابُ الظلام بفعل النور، بل اتخذها ورشاً لإستشكال الثوابت والأقانيم المكرسة، وجعل منها مختبرا لمساءلة البنيات والذهنيات والمؤسسات الضالعة في التقليدانية، كما حولها إلى معادل موضوعي للصيرورة والخلق والجدة والتجديد والتحديث. ومهما يبدو الدكتور محمد سبيلا مهتما حد الانهمام بقضايا فكرية مختلفة ومتشعبة ،سياسية وتحليلية نفسية وسوسيو-تاريخية وبيو إثيقية وسواها.فإن قضيته الفصل وإشكاليته الأصل ،تظل في المبدأ والمعاد هي قضية الحداثة وأواليات التحديث. وسي محمد سبيلا نفسه يقر بذلك في غير ما مقام، إذ يعتبر أن موضوع الحداثة هو الموضوع الذي «يستجمع روح وكافة اهتماماته».
إن التفكير في الحداثة هون بالماهية، تفكير ضد كل شكل من أشكال توثين التراث وأسطرته، والاضطلاع بديناميات التحديث هو حلحلة للتقليد وشل لفاعليته الأنطولوجية والسوسيولوجية.
لذلك، يعتبر الأستاذ محمد سبيلا أن الحداثة لا يمكن أن ترتد إلى ذاتها كماهية قارة، وإلا استحالت إلى مأثور قار أو تقليد ثابت، إنها كما يقول في مداراته، «انتقال من بنية فكرية إلى أخرى ،وخروج من المغلق إلى المنفتح، ومن المتناهي إلى اللامتناهي». إنها تتلبس لبوس الحركة الدائمة الدائبة، حركة عقلنة للعالم وخلع لميسمه السحري، وحركة تحرير للإنسان ولطاقاته الإبداعية الثاوية، وحركة دمقرطة للمؤسسات والعلاقات، وحركة دهرنة لنظم الحكم وبناء لدولة الحرية والحق والقانون، وحركة «تنظيم للحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية تنظيما عقلانيا»، وحركة انتقال من الرؤية الخلاصية والغائية إلى الرؤية التاريخانية التقدمية، ومن سطوة الجماعة إلى استقلال الفرد العقلاني الحر والمسؤول ، في مجتمع ينشدُّ إلى المستقبل أكثر ما يزْوَرُّ بناظره إلى الماضي، «ويعلي من قيم المردودية والفاعلية على حساب قيم الصدق والنية». وعبر هذه الحركية الدائبة لا تنزاح الحداثة ولا تنماز عن التقليد فحسب، بل تنماز وتنزاح عن ذاتها أيضا. وعلى هذا النحو، تأبى الحداثة أن تستحيل إلى بديل براديغمي ،يستعاد ويستنسخ كما لو أنه تقليد مرجعي. يقول الدكتور محمد سبيلا: «الحداثة لا تقوم على أفراد يستنسخون الماضي ويستنسخون التجارب الماضية القديمة العتيقة، ويخضعون لحكم الأموات»، لكنها في ذات الآن لا توثن ذاتها ولا تجعل من فتوحاتها وانتصاراتها موضوع استنساخ أو موضوع تقليد. يقول سي محمد سبيلا: «إن الحداثة توتر زمني يتجاوز ذاته باستمرار لا عن طريق نفي ماضيه وأزمنته السحيقة، بل عن طريق صوغها وإعادة عجنها ضمن تركيبة جديدة يمثلها المستقبل». لهذا، فطريق الحداثة، كما يقول الأستاذ، يمر عبر قناة النار أي عبر مطهر النقد المستدام، وعبر نقد النقد ذاته. ما يجعل «انتقال منظومة ثقافية تقليدية إلى الحداثة هو في الغالب انتقال عسير مليء بالصدمات الكوسمولوجية والجراح البيولوجية أو الخدوش السيكولوجية للإنسان».
لا ريب أن الحداثة قد دشنت انعطافة جذرية في نمط وجود الإنسان الغربي، وخلخلت أنساقه المعرفية والمعيارية وعلاقته بالعالم وبالآخرين، كما أحدثت تصدعات ملحوظة في البنيات الذهنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية للشعوب والأمم الأخرى غير الأوروبية، مما استكرهها على التورط في طوبوغرافيات ومنحنيات وجودية لم تنخرط فيها طوعا. فقد عرفت الشعوب الثالثية الحداثة قسراً وصدمت بأمواجها العاتية أثناء فترات المد الكولونيالي والأمبريالي الغربي، ما تولد عنه «شروخ في الوعي وتشوهات في رؤية الذات والآخر، وتخرمات في الواقع نفسه» على حد تعبير المفكر محمد سبيلا. وبما أن تحولات الحداثة هي تحولات بنيوية مفصلية خلخلت الأنطولوجيات التقليدية وأفضت إلى «تحويل نظرة الإنسان من الأعلى إلى الأسفل.. ونزعت عن هذه النظرة ملمحها السحري»، فإن الحضارات التقليدانية التي أدركتها الحداثة لم تستطع أن تساوق دينامية التقويض الحداثية الشاملة وأوقعتها آليات الممانعة في ضرب من «البين» بين»، ما جعلها تقتات كما يقول الإيراني داريوش شايغان، على ثقافة ما قبل غاليلية، لكنها تعيش في عالم ما بعد هيجلي «وبين الإثنين نجد في نظره ثلماً وسعياً يتعين سده على نحن من الأنحاء، وهذا الثلم هو ما يخلق تمزقاً في الوعي». على خطوات شايغان ينعت محمد سبيلا هذا التمزق الأنطولوجي بنعوت متعددة مستعارة من معجم تحليلي نفسي من قبيل «الشرخ» و«الجرح» و«الانجراح» و«الخدش» و«الندب» وما إليها. ويقول محمد سبيلا في نفس المقام: «عندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنها تُولِّد تمزقات وتخلق تشهوات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم». وهذا التوليف المصطنع بين «براديغمين متنابذين» يطلق عليه شايغان اسم التصفيح أو التلبيس le placage وهو «عملية غالبا ما لا تكون واعية وعن طريقها يجري الربط كما يقول شايغان بين عالمين زائحين عن بعضهما، بغية استدماجهما في كل معرفي متسق».
إن التصفيح بين هذين الإبيستميين أو تلبس أحدهما بالآخر لا يجريان بقرار اختياري واعٍ، بل يشيان بمكر كل من الحداثة والتقليد بالآخر، واستكراه أحدهما للآخر، الأمر الذي يولِّدُ بين الإبيستميين المتنائيين كما يقول محمد سبيلا «تلاقحا لُغزياً وملتبساً واختلاطاً على كافة المستويات». وهذه الوضعية الشائهة بين التقليد والحداثة تنتج فكراً مدخولا، معلولا، هجينا وخلاسيا، لا هو تقليدي بصورة خالصة ولا هو حداثي على نحو كلي، «فكراً يقتات كما يقول شايغان، خارج مداره المرجعي»، ويقتات على تفاريق وأمشاج مخلوطة، مستعارة من مظان وبراديغمات قيمية متنابذة، عصرية طوراً وماضوية أطواراً أخرى. الأمر الذي يقتضي ممن ينتدب نفسه للمنافحة عن مشروع الحداثة، الوعي بضرورة استماتته ضد مكر التقليد، وضد ممانعاته وتلوناته الفصامية بتلاوين العصر وتصاريف الراهن، والوعي في ذات الآن بأنه يعيش في وضع إبيستمي بيني تشف فيه الحدود وتتشوش الفواصل وتندمغ الهويات وتتداخل السجلات المرجعية الأكثر ثنائياً.
على المنافح عن أفق الحداثة أن يعي بشكل استراتيجي أن الحداثة لا تجُبُّ بيُسر ما قبلها من البنيات والذهنيات المشدودة إلى التقليد والمحكومة بتأثيراته ومأثوراته، وليس بمقدورها أن تمحو الماضي وتنفي ميتافيزيقا التراث، كما أن التقليد من جهة أخرى لا يستطيع صدَّ جاذبية الحداثة وحركتها السيالة المندلقة التي تغمر القيم والسلوكات، وتنخر أنحاء التفكير والوجود. يقول محمد سبيلا شارحاً هذا الصراع الإبيستمي البيني الطويل والمتلون بين براديغمي التقليد والحداثة: «أفترض مبدئيا أنه صراع متعثر، مرة تنتصر الحداثة والتحديث، ومرة ينتصر التقليد، ومرات ينتصر التقليد، ومرات ينتصر مكر التاريخ بتلوناته وتشابكاته، حيث تلبس الحداثة لبوسا تقليديا ويتلبس التقليد لباسا حداثيا، ويتشابك المنظر على المرء، فلا يتبين أي العنصرين يحقق الظفر. ولكن مبدئيا، للتاريخ اتجاه ومحددات وحتميات وأقدار إلى حد ما. فإذا كان التقليد راسخا وقويا وضاربا بجذوره في أعماق التاريخ والنفوس والمتخيل، فإن الحداثة أيضا لها مظاهر قوتها وآلياتها الاستدماجية والتكييفية وقدراتها الإغرائية».
هكذا، فإن الحرب بين الحداثيين والتقليدانيين، حسب محمد سبيلا، هي حرب دوارة لا تنتهي، ولا تلقي أوزارها، مما يجعل كلا منهما ملزماً ببلورة استراتيجيته الهجومية الخاصة وآلاته الحربية وخططه في الكرِّ والفرّ وفي المدافعة والمرافعةِ: فللحداثة استراتيجيتها الهجومية القصوى المتمثلة في تحويل الجواهر إلى علاقات، والماهيات إلى سيرورات بدَنْيَوَةَ المقّدس ودَهرَنة المتعالي وتحويل الثابت وتنسيب المُطلق. وكذلك للتقليد خططه الدفاعية، ومقاوماته الشرسة لرياح التغيير ولتيارات التنوير. على أنه قد يعمد – في مناوراته ومعاركه ضد الأنوار – إلى التلبس بلبوس الحداثة، لنزع فتيلها والالتفاف عليها واحتواء قوتها التقويضية الضاربة وترويض ممانعاتها، إنه يعمل كما يقول سبيلا على «استحصال آلية الحداثة مع لفظ نواتها الفكرية»، كما يعمل على روحنتها وتهذيب ملمحها الأكسيولوجي الجريء، وتطويع ماهيتها التقدمية لفائدة زمنيته التكرارية، واستثمار فتوحاتها التقنية لصالح دعواه التقليدانية وقيمه التراثية ومروياته الماضوية.
إن الحداثة تنتدب نفسها لتكون علامة على أفق حيوي متجدد، وعلى أقاليم أنطولوجية غير مطروقة، ضداً على التقليد الذي ليس في النهاية غير تأبيد للمأثور أو تواتر لتراث الموتى في الحاضر وائتمار للأحياء بأوامر الأموات. وبما أن الحداثة كما يؤكد محمد سبيلا هي «طاقة أو قوة كونية فاعلة» مناطها النقد وجدل السلب، فإن صراعها ضد التقليد لا يفتر ولا ينتهي، بل إنها قد تعلن الحرب ضد نفسها متى صارت «تقليدا للجديد» أو تكريسا له. لهذا فلا وجود لما بعد الحداثة أو تخطّ لعتبة الحداثة، بل هناك وبصورة دائمة حداثة للحداثة أو حداثة لا تني تراجع مروياتها، وتشتبه في وثوقياتها. وما يطلق عليه جان فرانسوا ليوطار الوضع ما بعد الحداثي ليس في ماهيته غير وضع ثان للحداثة، أو بتعبير محمد سبيلا «لحظة أعمق من الحداثة»، لحظة مغايرة اتخذت فيها الحداثة لبوساً جديداً، ليس بالنظر إلى التقليد الماضوي فحسب، ولكن أيضا بالنظر إلى التقليد الحداثي الذي بات ينظر إلى العقل والتقدم والحرية، واستقلال الذات عن السلط الدهرية والمتعالية… بوصفها مرويات كبرى ومطلقات دوكسولوجية.
(*) أستاذ تأويليات الخطاب
جامعة محمد الخامس – الرباط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.