كل كتاب يُعاني من نقص ما، وإلا لما استمرت الكتابة بجميع أنواعها، منذ نشأتها وحتى يومنا هذا. وقال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني (1135–1200) “إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”. ولهذا السبب أبدى كثير من الشعراء رغبتهم في تنقيح قصائدهم، ومجموعاتهم القديمة؛ حذفا وزيادة. ومنهم من قام بذلك فعلا. لكن الرواية تختلف في ذلك، فهل يجوز تنقيح رواية، ليس تصحيحا فحسب، بعد صدورها وقراءتها من القراء؟ الرواية ابنة زمنها فكرة التنقيح يصرح الروائي السوري فواز حداد لم تراوده البتة، ربما لأنه “لا يجوز – برأيي- التدخل في الرواية بعد النشر. لقد كُتبت ومرة واحدة، في زمن كان الوقت ملكا لي. أنظر إليها كفرصة أتيحت لي مرة واحدة. بعدها بات على الرواية التواجد والاستمرار وحدها من دون مساعدة أو مساندة من الكاتب”. وأضاف حداد أنه كلما أعاد طباعة رواية من رواياته، لا يُقصر في تصويب الأخطاء المطبعية والإملائية والنحوية، الناجمة عن السهو، و”ربما بعض التشذيب وتصحيحات ضئيلة جدا، ولا أسمح بأكثر”. يرى صاحب رواية “صورة الروائي” أن الرواية في أحد وجوهها ابنة زمانها، أي لها علاقة بالزمن الذي كتبت فيه، “أي أن نفس القصة لو كتبت بعد سنوات لكتبت بشكل مختلف، لذلك يُنصح بألا يبتعد الكاتب عما يكتبه، والمستحسن البقاء على اتصال به، ويتجنب الانقطاعات الطويلة عنه”. ويستطرد صاحب رواية “السوريون الأعداء” أنه قد ينصرف الظن إلى أنها مخاوف لا أساس لها، ويجد أن هذه المخاوف لا تقتصر على الزمن بقدر ما تتعداه إلى “المعمار الروائي؛ فالتدخل فيها سيحدث خللا في بنائها، إذ يستحيل استعادة زمن الكتابة، والحالة التي كتبت فيها، أي استعادة “أنا الكاتب الروائي” في الزمن الذي كتبت خلاله الرواية. لا أقصد أن الرواية ذهب زمانها، وإنما على الرواية وحدها أن تتجاوز زمنها، وتعبر العصر، وربما أكثر من عصر”. ويرى حداد أنه من النادر أن يخاطر كاتب بهذا الفعل، وإن حدث، فتصبح غالبا رواية أخرى، تشبه ما سبقتها لكنها ليست هي. ولم نقرأ عن رواية أعاد روائي طباعتها مع عبارة مألوفة “مزيدة ومنقحة”. ويعتبر الروائي فواز حداد أن النص الروائي “يُعتبر منجزا في حال صدوره في كتاب، والقول صحيح إنه ينفصل عن كاتبه، إلى حد القول إنه يصبح للرواية منطقها، وأيضا ملك لعالم الرواية”. النص يبحث عن ثقوبه ليكتمل بها من جانبه، الروائي المصري وحيد الطويلة يرى أنه “لا نص كاملا إلا داخل دائرته. النص يبحث في الأساس عن ثقوبه، عن اكتماله بها. نشير إلى ثقوب ما وآراء مختلفة، لكنه الاختلاف أو الثقوب التي تسمح باكتمال النص”. وبهذا المعنى يجد أن أي كاتب حقيقي لن يرضى عن نصه؛ “أحيانا يقول لي صديق جملة يتمنى لو كانت بشكل مغاير، فأكملها له، فيقول بدهشة: هل تحفظ روايتك؟!” يوضح صاحب رواية “حذاء فلليني” فكرته “نحن نقول كلاما كبيرا وكثيرا على القارئ الذي يملأ فراغات النص. الذي نترك له مساحة يمتلك من خلالها النص. وإن كان هذا القارئ أحيانا لا يُقدّر هذا، ويحاسبنا حساب الملكين على هدايانا له”. يشعر الطويلة بأنه يكتب كل رواية بلغة أو “أكتب كل رواية بلغتها”، لذا تبدو رواياته للبعض كأن مَن كتبها ليس الكاتب نفسه. ويستطرد أنه كتب رواية “ألعاب الهوى” بلغة من “نسيج أرضها، برائحة شخوصها. قال لي (الروائي) بهاء طاهر أن العامية الموجودة في صفحة واحدة كانت تكفي الرواية كلها. لم أحزن لأن (الشاعر) عبد المنعم رمضان، الحاذق والقارئ النهم للروايات، قال إن النص لم يكن له غير هذا القالب”. في هذه الرواية تمنى الطويلة فقط لو أنه خفّف ليس من العامية الدالة الجارحة، بل “أن أخفّف من عامية شمال مصر، التي قد تبدو غير مفهومة حتى للمصريين، فما بالك بالعالم العربي. وإن كنت أقطع بأنها عامية كلها ذات أصل فصيح. فقد كتبتُ في إحدى الصفحات أن فلانا “أرشل” وهو لفظ يعني أنه شديد الشؤم. وقررّتُ في طبعة جديدة أن أحذفها. وحين كنت أراجع هوامش المقريزي وجدت اللفظ حاضرا بقوة عند المماليك”. لكن في طبعة جديدة سوف “أغير هذه الألفاظ فقط”. يعترف الطويلة بأنه كان مهووسا بتحويل الشفاهي إلى كتابي، إلى “شكل أبعد أو مختلف عما فعله خيري شلبي، الذي ترك اللغة بشكلها الشفاهي، وليس فقط بحمولتها”، مضيفا أن كل كاتب، بعد أن ينهي نصه وينشره، يتمنى لو أنه كتبه بشكل أفضل. يتفهم وحيد الطويلة، القارئ ” لأنه مدلل، وطماع لا بحب التجريب قدر ما يحب الحكاية. يحب أن يستمتع دون أن يفكر أو ينتبه. “ستقول لي أفعل ما تحب. نعم أنا أفعل ما أحب. وكنت أعرف أنني سأواجه هذا، لكنني فعلت ما أحب. وما أقوله الآن ليس معناه أن النص لو عاد لي سأغيّره. لكنها شهوة الحصول على منتهى الإعجاب”. “فكرتُ أن أغير عنوان رواية “باب الليل” إلى “بنات الأحد” أو “هل تحب الفانتا”، لكنني تجنّبت ذلك، وارتحت لقراري؛ خاصة أن عنوان “باب الليل” أعجب كثيرين. وهكذا يجد الطويلة أنه “لولا أن رواية (ليس للكولونيل من يكاتبه) نجحت نجاحا كبيرا لربما فكر ماركيز نفسه أن يُعيد كتابتها”. يختتم الطويلة كلامه بأنه يكتب مسودة وحيدة يُنقحها طوال الوقت، و”ليست لدي القدرة على إعادة كتابتها. ولكنني أكذب عليك وعليّ، فأنا أتمنى أن أعيد كتابة (ألعاب الهوى) مرة أخرى”. نؤذي نصنا، حين نعدّل فيه الروائيّة السورية مها حسن تعترف أنهه أتيحت لها الرغبة في إعادة العمل على كتاب لها سبق نشره، من خلال تجربتها عند إعادة طباعة روايتين لها، أي أن الفرصة صارت متاحة أمامها.ففي روايتها “اللامتناهي”، وهي روايتها الأولى الصادرة عام 1995 في سوريا، صرحت “لم أغيّر في الطبعة الثانية، الصادرة العام الفائت سوى الإهداء، ولأسباب شخصية”. أما النصّ فقد ظل تماما كما هو؛ بمعنى أنها تحررت من فكرة “الكمال”. وتستطرد مها حسن بأنها رغبت في أن يعود نصّها السابق إلى الحياة، كما كان تماما في صيغته الأولى، وذلك حرصا منها على أن “أحتفظ دائما بالشكل الأول الذي خرج به النص، لأنه – رغم عثراته- أو رغم الرغبة في تعديله، أشعر بأننا نؤذي نصّنا، حين نعدّل فيه”. تشبه الروائية مها حسن الرغبة في تنقيح عمل روائي بعمليات التجميل التي يلجأ إليها الناس اليوم، بينما ترى أن هناك جماليات، حتى في أخطاء الصيغة الأولى، وتحب الاحتفاظ بها. أما في روايتها الثانية “حبل سري” الصادرة أيضا في طبعة جديدة، بعد تسع سنوات من طبعتها الأولى، فقد قامت بالاتفاق مع الناشر “على حذف بعض المقاطع التي شعرت بأنها تثقل على النص، لكنني لم أضف، ولم أعدل”. ورغم هذا انتابها شعور أنها “جمّلت” نصّها الأول، وإحساس “ببعض الخيانة للشكل السابق”. تعتقد مها حسن أن هاجس الكمال يسيطر على أغلب الكتّاب، ولهذا صارت اليوم أكثر حرصا على التأني في النشر، حتى لا تدخل في هذه تجربة الرغبة أو التفكير بالتدخل في النص لاحقا أو تعديله. وتختتم حسن كلامها بأن هذا الخوف يبقى قائما؛ “إننا لم نقل ما نرغبه كما نريد، أو قلنا ما لا نريد، ونخرج غالبا غير راضين عن أنفسنا، وهذا الإحساس -بالنسبة لي- لا أستطيع تجاوزه في جميع رواياتي، وفي الوقت نفسه، لا أسمح لنفسي -بعد نشر العمل- بمحاولة التبديل، وإن كانت الرغبة موجودة دائما في الرأس، تشبه تماما رغبة امتلاك قوام خال من العيوب، وهذا ضرب من المحال، لأنه ببساطة لا كمال للإنسان، كما لا كمال للنص، ولا اكتمال”.