لعل الكتابة عن سيرة فنانة ذات ريادة زمنية وريادة فنية،اختلف الناس في أمرها، لشخصها وشخصيتها وإنجازاتها التي ذاع صيتها في الآفاق، حتى أصبحت المعارض العامة الدولية تخطب ودها وتتمنى أن تحتضن لوحاتها العجيبة ، تقتضي اعتماد مصادر ومراجع وطنية أو دولية موثوق بها، غير أنه، للأمانة، لا نتوفر سوى على مصدر واحد ووحيد غير مستقل وغير محايد، ألا وهو ابنها الفنان الحسين طلال، الذي لا يقدم إلا ما يلوكه مرارا وتكرارا عن سيرة الشعيبية لوسائل الإعلام أو بعض الباحثين، من غير إضافات مميزة أو إضاءات مثيرة تسعف في الوقوف على هويتها، منجزها التشكيلي وخصوصياتها الجمالية وإسهاماتها في الحركة التشكيلية العالمية. سنحاول في هاته الحلقات تسليط الضوء-قدر الإمكان- على مسار الشعيبية الذاكرة الفردية، الذاكرة الجمعية ترحما عليها، واعترافا بأياديها البيضاء في سبيل جعل راية المغرب خفاقة في المحافل العالمية، وإسهاماتها في إثراء المكتبة الفنية الوطنية والدولية.
رأت الشعيبية في المنام، السماء زرقاءَ صافية الأديم، وأغرابا لم تتبين ملامح وجوههم، على مراكبَ تحركها الرياح والأشرعة، يدنون منها ليسلموا لها أوراقا وأقلاما ملونة.” وفي رواية أخرى، احتلمت “أنها بداخل غرفة نومها، وكان الباب مفتوحا، فأبصرت شموعا مشتعلة، الواحدة خلف الأخرى حتى حديقة المنزل. وكانت كل ألوان قوس قزح والأضواء والأشعة تظهر بسماء كلها زرقاء، وبينما هي كذلك، إذ دخل عليها رجال شديدو بياض الثياب، يحملون أقمشة وفرشات رسم، وقالوا لها هذا هو مورد رزقك”. وفي رواية ثالثة، رأت ملاكا يقف عليها في الحلم، ويقول”الشعيبية: هيا قومي ولوّني القصر”. لاغَرْو أن لهذا الحلم أبعادا نفسية، وأن تكراره يدل على أن الشعيبية لها استعداد نفسي قبلي ورغبة جامحة لتكون الفُضلى، لدخول مرحلة أكثر نضجا وخطرا، فهي تفهم ذاتها وتخبُر قدَرها وتعرف قدْرها وقدراتها، وتدرك محيطها، وكأنما لسان حالها يقول مع الشاعر.وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لاتستطعه الأوائل..وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام. تقصّدت الشعيبية من وراء تكرار الحلم إياه على المسامع، بالصوت الخافت الباعث على الرهبة لدى من يصغي إلى “قصة الحلم”، وبالكلمة المؤثرة(الرياح-الأشرعة-أغراب-الملاك) وعبارة غريبة وصورة تكتم الأنفاس، أن تضفي هالة من الهيبة والعجائبي والعظمة، على حلمها لتبدو مختارة، من قوة خارقة لدخول عالم الرسم والتشكيل. من يتتبع رحلة الحياة التي قطعتها الشعيبية، يسهل عليه فك شيفرة حلمها. فالشعيبية منذ صغرها بوهيمية عصية مستعصية تعصب رأسها وجيدها بالورود والزهورعلى اختلاف ألوانها وأشكالها، وتختال كأميرة في الحقول بين الفراشات والطيور. كبر معها هذا الإحساس بالزهو والعُجب، وغذته معاناتها كيتيمة وخادمة وأم تجرؤ على أن تقف موقف الند إزاء الزمان، لتجد نفسها من بعدُ وقد شحذت التجارب عزيمتها واشتد عودها وتقوت لديها الأنا وحب الإتيان بما لا يقدر عليه النساء والرجال على السواء. كان لابد للحلم أن يتحقق. ففي اليوم الموالي، قامت الشعيبية تقتني صباغة زرقاء من دكان عقاقير من “المدينة القديمة” التي تُدعى باب مراكش،بمدينة الدارالبيضاء. في البيت، شرعت الشعيبية ترسم ما خطر ببالها .. على إزار لها أبيض.. وقف ابنها الفنان الحسين طلال يبتسم مدهوشا لِما رأى منها وقد تلطخت يداها وبقَّعت الإزار وترششت الصباغة على ملابسها. سألها ما الأمر؟ وهو يبتسم في عجب، طرقت رأسها ونظرت إليه وقالت أنا أيضا أرسم مثلك.و بعد خمسة عشر يوما، بعد تشجيع من ابنها ووضع مرسمه ولوازم رسمه بين يديها، اجترأت على الرسم وملاعبة الألوان باليد المجردة، تفرغ العلب من الصباغة وتستخدمها مباشرة من غير خلطها، وتلطّخ وتبقّع أطرافا من الكارطون والألواح.. سبق أن حضرتُ معرض الفنان الدكالي أندري الباز برواق باب الاحد. ووقفت أتأمل وأتملى لوحاته الرائعة، وكان يرمقني من بعيد.اقترب مني. تعارفنا، وتجاذبنا أطراف الحديث حول منجزاته التعبيرية..وحول الحركة التشكيلية بالمغرب..ومدارس الفن التشكيلي، وأتينا على ذكر الشعيبية وفنها الفطري وصيتها الذائع في الآفاق.عندها رأيت الفنان أندري الباز يقطّب جبينه ويتنهد..وشرع يحدثني أنه دكالي مثل الشعيبية، وأنه كان يراها فنانة واعدة.ولذلك خصها بالعناية والرعاية هي وابنها.وما حكايتها (أن ملاكا وقف عليها في الحلم، وقال لها الشعيبية، هيا قومي ولوّني القصر”، إلا من أجل القول إن موهبتها اكتشفتها السماء قبل أن يكتشفها أي مخلوق. ويردف الباز أن “ذلك الملاك في حكاية الحلم، ليس سوى أنا في الواقع ، فيشهد لله أني مددتها بمستلزمات الرسم والصباغة..كنت أتابع بداياتها باستمرار، وأبين لها كيف تبدأ وكيف لا تخشى الأدوات أو ما يتفتّق عن بقعاتها ولطخاتها وبصماتها..كنت أبعث لها بمستلزمات الرسم من لندن، وفوق هذا أنا الذي اقتنيت أعمالها الأولى وهي في حوزتي وليست في حوزة ابنها الحسين طلال الذي قدمت له هو الآخر مساعداتي وعملت على تنظيم معارضَ له في باريس،وأنا- الدكالي الذي جعلت معارفي من منظمي المعارض بفرنسا وانجلترا يقبلون على أعمال الشعيبية الدكالية ،حتى اشتُهرت وأصبحت أكثر مبيعا. وماضرّني، وما حز في نفسي، بعد كل هذا الصنيع،وبعد أن أصبحتْ من مستوى الفنانين التشكيليين الذين لهم تأثير ملحوظ في القرن العشرين على شاكلة أميديو موديلياني وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي وفنسنت فان غوخ وكلود مونيه وميكيلانجيلو بوناروتي، ورامبرانت، تتنكر لي إذ تتغاضى عن ذكر اسمي وفضلي، وتصر على أن الناقد الفني والكاتب ومحافظ متحف الفن المعاصر بباريس الفرنسي بيير كوديبير، هو من له الفضل في اكتشاف موهبتها، لماذا؟ لماذا؟ ألأني مغربي يهودي؟”.