الثورة التونسية دخلت سنتها الخامسة منذ شهر ونصف. وخلال هذه الفترة من الزمن عرفت تونس، شعبا وسياسة وحضارة ومجتمعا، تحولات عاصفة ستكون مادة ثرية للدراسات التاريخية والاجتماعية والنفسية وكذلك السياسية في العقود المقبلة. وبعد أن مرت تونس بكبوات كثيرة بسبب استقواء التيارات الرجعية المتشددة، كان للقوى المدنية فيها دور المنقذ بفضل حسها المجتمعي ووعيها الشعبي المنفتح على سيرورة التاريخ المعاصر. وقد بلغت تونس، أخيرا، مرحلة الانتخابات الشعبية التي آلت إلى حكومة رشحها الحزب الأغلبي وحلفاؤه لتحكم تونس طيلة خمس سنوات وتخرجها من مرحلة المؤقت الهش إلى المستقر الدائم. نالت الحكومة التونسيةالجديدة التي يرأسها الحبيب الصيد الثقة من مجلس نواب الشعب منذ 4 فبراير الماضي بأغلبية 167 من جملة 217. وهي أغلبية كبيرة لم تحظ بها أكبر الحكومات في أعتى الديمقراطيات في العالم. والحقيقة أن هذا ما كان يطمح إليه الحزب الأغلبي «نداء تونس» من وراء تحالفه في الحكم مع غريمه الأيديولوجي والسياسي حزب حركة النهضة الإسلامي. ولكن تحقّق الأغلبية البرلمانية التي تضمن نيل الحكومة للثقة اللازمة لممارسة الحكم لا يعني نجاحا مسبقا في التعاطي مع الملفات المعقدة التي توارثها الشعب التونسي عن نظام بن علي. ومن صدف السياسة أنّ ما أجّله الباجي قائد السبسي، لما اختاره الرئيس المؤقت بعد هروب بن علي فؤاد المبزع ليكون رئيس الحكومة بعد استقالة محمد الغنوشي، يجده أمامه اليوم وهو رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الحاكم المطالب بمواجهة هذه الملفات. قبل ذلك، هل جاءت هذه الحكومة لتدير الشأن التونسي أم لتعالجه؟ الفرق بين الإدارة والمعالجة كبير، فأن تدير يعني أن تحافظ على الوضع القائم في أقصى الحالات. وأن تعالجه فذلك معناه أن تكون هناك استراتيجية وخطة وبرنامج. والحقيقة أنّ فكرة المعالجة صعبة على الهضم في الحالة التونسية بالنظر إلى الارتجالية في تشكيل الحكومة وفي اختيار مكوّناتها وحلفائها وأعضائها، وفي تغيير بعضهم بغيرهم بشكل ارتجالي في آخر لحظة. ومع ذلك، ولو اعتبرنا حسن النية، إذا اختارت الحكومة التونسيةالجديدة معالجة الشأن فمن أين ستبدأ؟ هناك سبعة ملفات معقدة تعاني منها تونس يؤدي أحدها إلى الآخر ويحيل عليه، وهي ملفات الفيضانات والإرهاب والجريمة والإضرابات والاحتجاجات والتنمية والتشغيل. ملفات لا تخضع لأي ترتيب في سلم أولويات أي حكومة لو كانت وطنية. فكلها ملفات حارقة ذات أولوية باعتبارها تستهدف المواطن التونسي مباشرة. ملف الفيضانات يفتح قضية البنية التحتية المعطوبة التي وضع أسسها الاستعمار الفرنسي في المدن الكبرى وعجزت دولة الاستقلال عن الإتيان بأفضل منها. فالمجهودات الوطنية التي بذلتها دولة الاستقلال الوطنية في تعهد البنية التحتية بالصيانة والمتابعة بددها نظام بن علي. ففي 23 سنة عمّت الرشوة انتدابات المهندسين في إدارات التجهيز والبلديات. والراشون تحولوا جدليا إلى مرتشين. وظهرت فئة من الأثرياء من موظفي الدولة طيلة العقود القادمة ولازالت من المهندسين لم يسائلها أحد إلى اليوم من أين لك هذا؟ والنتيجة فظيعة، فمواطنون تونسيون لا يقضّون ليالي الشتاء في بيوتهم أمام المدفأة بل على الأسطح خوفا من السيول الهادرة، وأطفال محرومون من ارتياد مدارسهم التي غمرتها وغمرت طرقاتها مياه الأودية والأنهار الفائضة. بقيت الإشارة إلى أن مشكلة الفيضانات في تونس ذات وجهين؛ وجه جهوي ووجه طبقي. الوجه الجهوي مؤداه أن النظام التونسي من بورقيبة إلى اليوم يعتبر أنّ سكان الشمال الغربي مواطنون من الدرجة الثانية، وأما الوجه الطبقي فإن تونس طيلة تاريخها المعاصر كانت تأكل من سواعد عمال الشمال الغربي الغني بالمياه والثروات الفلاحية والمفتقر إلى العدالة الاجتماعية. أما ملف الإرهاب فهو الملف المربك للتونسيين بما يجعلهم يستمرون في إضاعة البوصلة المميزة بين الحق في العدالة، والحق في الأمن. فكلما تحركت الآلة النقابية الوطنية لتعديل التفاوت الطبقي والدفاع عن حقوق العمال، تحركت ألغام الغدر الإرهابي وبنادقه في جبال الشعانبي والمدن المجاورة، وأي صدفة لاسيما أن بعضا من أحبة الشعانبي قريبون من السلطة الشرعية الحاكمة. بقي أنّ الشعب التونسي اليوم يعيش حالة من التطبيع مع الجريمة. فجرائم دموية كبيرة كانت لتزلزل أي مجتمع مستقر يحترم حقوق مواطنيه، إذ الطرف الأكثر عرضة للاعتداء اليوم في تونس هم الأطفال الذين يقعون ضحايا جرائم التحرش والاغتصاب والقتل والعنف والإهمال. لاشك في أن لهذه الجرائم رواسب نفسية واجتماعية رأسها الفقر وبابها التهميش، والسؤال الأكبر هو كيف ستعالجها السلطات التونسية الرخوة؟ وليست الإضرابات القطاعية المسترسلة إلا نتيجة لتفاوت في الثروة فاق كل الممكنات التاريخية. فنسبة الفقر في تونس فاقت 33 بالمئة حسب إحصائيات رسمية. وهو ما يجعل الدفاع الاجتماعي يكون على شكلين، القطاعات المهيكلة المنظمة تمارس الإضراب المكفول دستوريا وتلوي عنق السلطة المتحالفة مع رأس المال، بينما القطاعات الهامشية تركب موجة الاحتجاجات الشعبية على خلفية غياب المشاريع التنموية التي يمكن أن تخلق مواطن الشغل وتخفف حدة التوتر المجتمعي الذي يوظفه أعداء العدالة الاجتماعية ومريدو التشدد وسماسرة الإرهاب المغلف بغلاف الجهاد توظيفا يتجاوز حدود تونس. هذه نماذج من الملفات المعقدة التي تواجهها الحكومة التونسية المتعاضدة برلمانيا. ولكن التعاضد البرلماني لا يخفي عن التونسيين سعي حركة النهضة ومن معها إلى سحب البساط من تحت قدمي حليفها في الحكم حزب نداء تونس. والدلائل على ذلك كثيرة لاسيما احتجاجات الجنوب التونسي المحاذي للحدود الليبية، وتواجد قادة سياسيين قريبين من النهضة هناك، وتدخلهم السافر في توجيه السياسة الخارجية التونسية نحو الاعتراف بميليشيات فجر ليبيا الإخوانية، وهو ما أربك الدبلوماسية التونسية ودفعها إلى الاعتراف بحكومتين في ليبيا؛ واحدة منتخبة في طبرق، والثانية غير شرعية في طرابلس.