نسمع غالبًا، في معرض تفسير أسباب تراجع جماهيرية قوى اليسار المشاركة في الحكومات المتعاقبة خلال العشرين سنة الماضية، أن هذه المشاركة بالذات، هي علة العلل في هذا الواقع. والحال، أن هذا القول ليس مبنيًا إلا على فرضية لا ترقى إلى المستوى العلمي، ولا يمكن لها أن تكون بالتالي، مفتاحًا لقراءة الواقع. علاوة على كونها تقوم على فرضية ضمنية، أخرى، لا تقل عنها ابتعادا عن أي طابع علمي، ومفادها أن جماهيرية الأحزاب اليسارية الديمقراطية كانت أكثر قوةً واتساعًا عندما كانت تمارس من مواقع المعارضة. فعلى أي أساس تمت صياغة هذه الفرضية؟ لا أحد يدري حقا. هل انطلاقاً من طبيعة الخطاب المعتمد خلال فترة ممارسة العمل السياسي من موقع المعارضة؟ وهو الخطاب الذي يضع في موقع الصدارة كون اليسار هو التعبير عن أوسع فئات الشعب من حيث مصالحها وتطلعاتها؟ وإذا كان هذا ما يميز الخطاب، فهل ينعكس دعمًا فعليًا من قبل أوسع فئات الشعب لمواقف وبرامج اليسار؟ وهل تمت ترجمة ذلك بشكل ملموس في مختلف الاستشارات الانتخابية التي عرفتها البلاد؟ وهل هناك مقياس آخر تقاس به جماهيرية الأحزاب غير المقاييس المعتمدة في مختلف البلدان الديمقراطية أو التي تتوفر على مساحة ما تمارس فيها الأساليب الديمقراطية؟ وفي الواقع، ليس هناك ما يدل على ذلك على المستوى الفعلي خاصة متى تم الاحتكام إلى النتائج الانتخابية التي كانت من نصيب تلك القوى، وخاصة منذ انخراطها في مختلف العمليات الانتخابية التي عرفتها البلاد منذ عام 1976. صحيح أن هذه القوى قد اشتكت كثيرًا من عمليات التزوير التي كانت تميز تلك الاستشارات الشعبية. وصحيح، أيضًا، أنها كانت تؤاخذ الإدارة على عدم تدخلها لقمع استعمال المال للتأثير في العمليات الانتخابية والدفع بها إلى الوصول إلى النتائج المرغوب فيها، على المستوى المركزي، وهو ما اعتبر نوعًا من منع القوى الوطنية اليسارية الديمقراطية من الاستفادة من شروط التنافس الحر مع الأحزاب التي تمتلك قدرات مالية لا حدود لها وتزج بها في المعارك الانتخابية بغاية ربحها دون منازع، إلى حدود تشكيل حكومة التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وكان هذا واقع الحال فعلًا ولو بطريقة إجمالية، غير أن الملاحظ هو كون نسبة المقاعد البرلمانية التي يتم الطعن فيها لا تشكل النسبة الكافية لترجيح كفة قوى اليسار الديمقراطي داخل المؤسسة التشريعية على سبيل المثال. أما مسألة الانتخابات البلدية والقروية، فإنها تخضع، في الواقع، لمنطق آخر تمامًا له علاقة بطبيعة تطور المجتمع المغربي والانتماءات التي تؤثر في الاختيارات قبل كل عامل آخر بما في ذلك عامل المال. وعلى العموم، فإن فرضية أن الاقتراب من السلطة يعادل فقدان الجماهيرية غير ذات مضمون، إلا بالنسبة لنخبة النخبة التي يمكن اعتبار موقفها موقفًا «مبدئيًا» وغير قابل للتغير، في حين أن موقف الجماهير قابل للتغيير بين فترة وأخرى، وليس يخضع لمثل هذا المنطق على كل حال. فالجمهور الواسع ميال إلى مساندة السلطة والأحزاب التي لديها موقف إيجابي من السلطة ، خاصة إذا كانت قادرة على تلبية عدد من حاجاتها المادية والمعنوية. المعضلة الأساسية ربما تكمن في كون بعض الأحزاب تقدم وعودًا غير قابلة للتنفيذ، وهذا ما يتسبب في إحباط المؤيدين لها ويساهم في إبعاد الناس عنها. وعليه، فإن تفسير ابتعاد أوسع الجماهير عن أحزاب اليسار بكونها قد ساهمت، أو تساهم، في تدبير الشأن العام من موقع حكومي، أو من موقع المؤسسات المنتخبة، لا يستقيم أمام احتفاظ عدد من الأحزاب المصنفة يمينا بقاعدتها «الجماهيرية» وربما باستقطاب فئات أخرى رغم كونها مرتبطة ارتباطًا عضويا بتسيير الشأن العام من موقع الحكومة ومن موقع المؤسسات المحلية والجهوية والوطنية المختلفة، دون توقف، في بعض الأحيان، بل وربما بسبب ذلك بالذات، على اعتبار أن الجماهير تميل إلى ترجيح كفة من تعتقد أن بإمكانه تحقيق بعض من مصالحها سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات. ولست ممن يعتقدون أن فرضية شراء الذمم كافية لتفسير هذا الواقع، وإلا انتهينا إلى استنتاج أن الشعب ليس في مستوى تحمل مسؤولية الدفاع عن مصالحه العليا. وهذا ما لا يستطيع أي حزب يساري الجهر به، إذا كان هذا ما يعتقده فعلًا لأن العادة قد جرت أن يخطب جميعها ود الشعب بصدق أو عن مراوغة. والحال، أن هذا الواقع يفرض على اليسار التفكير في عوامل تفسيرية أخرى ينبغي أن تنطلق من تنظيماته ذاتها وسلوكها السياسي في مختلف الميادين. إذ هناك حقيقة ليس يمكن نفيها وهي نزوع الإنسان عادة إلى الاستقرار يدفعه إلى تأييد من يعتبرهم ذوي أدوار في تحقيق الاستقرار. وإذا كان هناك ما يميز المؤسسات، بما في ذلك الحكومات، في مختلف البلدان، وخلال الظروف العادية، فهو استقرارها ونزوعها نحو تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار. أي إن الحالات الثورية حالات استثنائية، ولا يمكن لها أن تلغي القاعدة في هذا المجال، خصوصًا أن البراغماتية التلقائية، لأوسع فئات المجتمع، تقضي بتأييد من يعتقد أنه يملك بعضًا من مفاتيح السلطة، لإدراك ضمني أو صريح بأن معاكسة مركز السلطة لا يؤدي إلا إلى هزات سياسية لا يرجى منها شيء. وعلاوة على هذا وذاك، فلا يمكن لأي تنظيم سياسي أن يكون حزبًا حقيقيًا ما لم يتطلع إلى تبوء منصب المسؤوليات التدبيرية. وعلى ماذا يعتمد في التطلع هو الذي يميز حزبًا عن آخر. فهناك أحزاب تعتقد أن قربها من مواقع السلطة المركزية في البلاد، هو ضامن فعاليتها في الحياة العامة، وبالتالي، فهي لا تتردد في تبرير كل الممارسات التي تصدر عن المركز حتى عندما تكون متعارضة، بهذا القدر أو ذاك، مع ما سطرته من مبادئ وبرامج، لأنها، بكل بساطة، تنطلق من كونها أحزابًا وظيفية ليس إلا. وهذا ما ينطبق على الأحزاب التي كانت تنعت بالأحزاب الإدارية، خاصة عند تأسيسها حيث ليس هناك ما يميزها عن البرامج الحكومية، بل إن المؤسسات التشريعية التي تكون تحتل فيها الأغلبية ليست غير وليدة إرادة المركز والحكومة التي تعبر عنه، وما الانتخابات التشريعية التي يتم تنظيمها، في مثل تلك الظروف، غير الآلية التي بها يتم إضفاء المشروعية على البعد الوظيفي لتلك الأحزاب التي لا تستطيع القيام بدور الرقابة الذي هو دورها الدستوري تجاه هيئة تنفيذية هي التي يعود إليها الفضل في إيصالها إلى ذلك الموقع. فهي مدينة لها بكل شيء وليس بإمكانها القيام بما يمكن أن يخل بمقتضيات هذا الواقع والعمل على ديمومته ما كان ذلك ممكنا. ولأن هناك من يفسر واقع اليسار الراهن باختلال في توازن القوى بين مكونات الائتلاف الحكومي لصالح قوى اليمين، فما هي القدرة التفسيرية لهذا العامل؟