شك لت مواقع التواصل الاجتماعي صوتا لحركة الاحتجاج الشعبي ضد النظام الجزائري المتواصلة منذ سنة، وساهمت في حشد التعبئة في مواجهة خطاب رسمي يتجاهل حجم المعارضة التي يمثلها الحراك. وتقول الصحافية الجزائرية المستقلة زهرة رحموني لوكالة فرانس برس “شبكات التواصل الاجتماعي مكنت من متابعة الحراك بشكل مستمر وفي الوقت الفعلي، في أماكن مختلفة في وقت واحد”، و”كشفت قمع الشرطة، وأسقطت الأحكام المسبقة وأحبطت خطاب ا” هدفه تقويض التعبئة، كما ساعدت في بداية الحركة على حشد التعبئة في صفوف المتظاهرين. طيلة العام الفائت، نشرت زهرة رحموني معلومات مباشرة لمتابعيها على مواقع “فيسبوك” و”تويتر” و”انستغرام”، استقتها هي من هذه المنصات نفسها. وكانت شبكات التواصل الاجتماعي التي شكلت فضاء للتعبير عن الاحتجاج مساحة لتداول لنداءات التظاهر، ومختبرات الشعارات في كل مسيرة أسبوعية، والضامنة لسلمية الحراك. في بلد يبلغ عدد سكانه 42 مليون نسمة، 23 مليون مستخدم ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، وفق ا لتقرير 2019 الصادر عن منصة التواصل الاجتماعي “هوتسويت”، والوكالة الرقمية “وي آر سوشل”. “لا للعهدة (الولاية) الخامسة”، “تروحو قع” (ترحلوا جميعا)، “جزائر حرة.. ديموقراطية”، “أنا من الحراك”، “الحراك مستمر”، “أنت لست رئيسي”… شعارات انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي وتجلت هتافات في الشارع. وكما في الشارع، فإن التعبئة في العالم الافتراضي متباينة ومشتتة، بدون قيادة، ولكن متنوعة الأجيال، منتظمة ومرئية في جميع أنحاء الوطن. ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر شريف دريس لوكالة فرنس برس “إذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي سمحت للجزائريين بالتعبير عن شكل من أشكال المشاركة السياسية المحظورة في الأماكن العامة، فقد أصبحت بديلا فعلي ا للفراغ الذي خلفه العديد من وسائل الإعلام”. وفي مواجهة تعتيم وسائل الإعلام من قنوات خاصة وتلفزيون حكومي التي تغاضت تقريب ا أو غطت بشكل محدود جدا، التظاهرات التي عم ت الجزائر، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مصدر ا للمعلومات. وبرأي شريف دريس، فإن مواقع التواصل الاجتماعي “شاركت في إضفاء شرعية على الحراك وفي تفكيك الخطاب الرسمي” من خلال تقديم صورة للواقع على الأرض في مناطق مختلفة من البلاد. وعلى الرغم من أن المعلومات المتوافرة على شبكات التواصل الاجتماعي ملوثة بتضليل هائل، إلا أن ما ثبت صحته يحمل ذاكرة جماعية للحراك. وأطلقت مجموعة من الباحثين الشباب منذ فبراير 2019 مبادرة لجمع أرشيف “الحراك”، حرصا منها على الحفاظ على جزء من الكم الهائل من المعلومات. ويتم جمع الصور ومقاطع الفيديو والبيانات الصحافية والإعلانات المنتجة تباعا مع تطور الحركة الاحتجاجية، خصوصا تلك الموجودة على شبكات التواصل الاجتماعي. وتشكل صفحات “فيسبوك” الخاصة بمنظمات مثل اللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين أوصفحات مجهولة الهوبة أو تابعة لمجموعات تم إنشاؤها على عجل لإثارة النقاش، قاعدة بيانات لهؤلاء الباحثين. وتقول سارة عاجل، وهي من مؤسسي مشروع “الجزائر: مبادرة للأرشيف الجماعي” إنه “من خلال صور الشعارات التي تم جمعها، يمكننا أن نلاحظ تطور المطالب”. وتقول طالبة الدكتوراه في التاريخ “إن تحرير الكلمة الذي تم التعبير عنه على شبكات التواصل الاجتماعي كان رائع ا”، وبالتالي، فإن هذا الأرشيف ضمان ضد أي “محاولة لتزوير التاريخ”. على المدى الطويل ، الهدف من المشروع، بحسب قولها، إتاحة الإطلاع على الوثائق للجزائريين. من جانب السلطات، بعد محاولات تعطيل الإنترنت خلال مسيرات الاحتجاج الأولى، تم إنشاء حسابات موالية للنظام على مواقع “فيسبوك” و”تويتر” لمهاجمة الحسابات المعارضة. ودفع العديد من النشطاء ثمن حرية التعبير على شبكات التواصل الاجتماعي، فتمت ملاحقتهم قضائيا بتهم مثل “المساس بوحدة الوطن أو المساس بالأشخاص” بسبب منشورات على “فيسبوك”، وفق ا للجنة الافراج عن المعتقلين. ودانت منظمة “هيومن رايتس ووتش ” مؤخرا توجيه الاتهام الى كاتب روائي ب “إهانة رئيس الجمهورية” و”المساس بأمن الدولة” بسبب منشوراته على فيسبوك التي تسخر من الرئيس الجديد عبد المجيد تبون. استعادة التاريخ في 27 ديسمبر 1957، تم اغتيال “مهندس الثورة” الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي عبان رمضان، في تصفية حسابات بين الأشقاء داخل جبهة التحرير الوطني التي قادت حرب الاستقلال. وكان عبان رمضان من طرح في آغشت 1956 تبني مبدأ “أولوية” السلطة المدنية على الجناح العسكري، خلال مؤتمر عقدته جبهة التحرير الوطني في وادي الصومام في منطقة القبائل. وكل يوم جمعة، ترد د المسيرات الشعار الأبرز للحراك “دولة مدنية ماشي (وليس) عسكرية”، وهو اختصار لأغنية ألفها المحتجون مطلعها “اسمعوا اسمعوا يا ناس عبان رمضان ترك وصية دولة مدنية ماشي عسكرية” . كانت تلك “وصية” بطل الكفاح من أجل استقلال بلاده، لكن النظام الذي استحوذ على السلطة عام 1962 خانه وأصبح مجموعة من الضباط يتحكمون في اختيار الرؤساء ويفرضون عليهم النهج الذي يت بعونه. ورأى الكاتب والصحافي الجزائري أكرم بلقايد أن “رفع صور عبان رمضان الذي قتل على يد إخوانه هو رسالة واضحة: لقد خان قتلته الشعب الجزائري”. وتابع “استخدم النظام وأساء استخدام الخطاب حول شرعيته الثورية. وكان حتميا أن يقول الجزائريون يوم ا ما أن تاريخ حرب الاستقلال هو تاريخهم أيض ا”. وقال “إنهم يذك رون الحكام الحاليين بأن النظام الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال خان مبادئ الثورة”. وخلال عام من الاحتجاجات لم يكف “الحراكيون” عن المطالبة بتفكيك “النظام” ورحيل رموزه، باسم الوعود بالديمقراطية لحرب التحرير الوطني والتي لم يتم الالتزام بها. وذكرت داليا غانم، طالبة دكتوراه في العلوم السياسية في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، أن”الغالبية العظمى من الجزائريين يقولون (لحكامهم): + لقد جلبتم الخزي لنا ولشهدائنا، بتبنيكم النضال من أجل الاستقلال، لينتهي بكم الأمر عارضين صورة رئيس غير قادر على مخاطبة شعبه”. وتشير الباحثة بكلامها هذا إلى مشهد أحس الجزائريون أنه ألحق بهم إهانة كبرى. فأثناء تجمع سياسي لأنصار الرئيس غاب عنه عبد العزيز بوتفليقة، المشلول والفاقد القدرة على الكلام، خاطب قادة الحزب صورته له. ومن خلال استعادة الرموز التاريخية للكفاح ضد الاستعمار، مثل عبان رمضان أو مصالي الحاج، رائد النضال من أجل الاستقلال، “أظهر الشعب الجزائري أن لديه قدرة كبيرة على استعادة تاريخه والقتال للحفاظ على ذاكرته”، برأي المؤرخ المتخصص في تاريخ الجزائر بنجامين ستورا. وأضاف صاحب كتاب “عودة التاريخ” الذي يتحدث فيه عن مراحل متعددة من تاريخ الجزائر، أن ” هذه حادثة غير مسبوقة: تاريخ ي صنع من خلال استعادة تاريخ سابق”. والواقع أن هذا الماضي الم صادر لم يختف يوما، بل انتقل بفضل الثقافة الشفهية المتجذرة لدى الجزائريين. وأشار المؤرخ المتخصص في المغرب العربي المعاصر بيار فيرميرن إلى ان “ذاكرة أحداث القرن العشرين ما زالت تامة وحية في أدمغة الجزائريين. ونقلها يتم داخل العائلة ومع الأصدقاء”. وقال “لا حاجة للدولة التي تسهم بالتأكيد في تغذية هذه الذاكرة، لكنها تبني تاريخا وطنيا رسمي ا ذا صبغة أيديولوجية”. وتنتقل اليوم الذاكرة بواسطة وسائل الإعلام الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي التي يستخدمها أكثر من نصف مليون الجزائريين البالغ عددهم 42 مليون نسمة، وهي تنقل صدى هذه الحركة الأولى من نوعها، التعددية وغير العنيفة. ولفت أكرم بلقايد إلى أن “هناك اليوم إعادة تمل ك بصورة عامة في الجزائر. استعادة الماضي والذاكرة. وتعزز ذلك وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي”. ولأول مرة في تاريخ البلاد، لا ينتمي الرئيس عبد المجيد تبون ولا رئيس أركان الجيش الجديد (بالنيابة) سعيد شنقريحة، إلى صفوف “المجاهدين” الذين شاركوا في حرب الاستقلال، ولا يمكنهما بالتالي التست ر خلف هذه “الشرعية التاريخية”. وبالنسبة للمؤرخة المتخصصة في المغرب العربي المعاصر كريمة ديريش “تم استنفاد خطاب شرعية المشاركة في الحرب ولم يعد هناك من يقيم اعتبارا لذلك”. وأشارت إلى أنه داخل الحراك، هناك أيض ا “استعادة (…) لأبطال الحرب الذين قضوا في سن مبكرة جدا، مثل حسيبة بن بوعلي التي ق تلت في سن 19 عام ا، وهذا ما يذكر بالشباب المشارك في الحراك”. وحذر بنجامين ستورا بأن “بناء أمة قوية وتعددية” هو الآن “المهمة الصعبة للجيل القادم”.