أشار الباحث البلاغي الدكتور محمد الولي إلى أن البلاغة شكلت، على امتداد التاريخ عنصر غواية للمتلقي وإثارة له، وجعلته يهش لفتنتها وبهائها، واضعا ذائقته الجمالية رهن إشارتها، وأضاف ذات المتحدث الذي كان يحاضر حول تاريخ البلاغة في إطار الدرس الافتتاحي لمختبر البحث في علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة نهاية الاسبوع الماضي، أضاف أن ما تعانيه البلاغة حاليا في المغرب منبعه من القسم، فالبلاغة ذبحت على أعتاب المؤسسة التعليمية التي تبتعد مقرراتها الدراسية بهذا الصدد عن الممارسة العلمية، وتسقط في أتون الممارسة الأيديولوجية التي تزكي الوضع القائم، مما يجعلها بعيدة عن أن تكون مؤسسة للتفكير العلمي والنقدي الذي يضطلع بدور مراجعة الثقافة السائدة أو الموروثة، الأمر الذي يفضي إلى نمطية قاتلة تجعل المدرس مجرد مردد، وبطريقة آلية جامدة لما يُراد له أن يُردَّدَ، يقول ما يقبله التلاميذ، وما يقبله المفتش، وما يمكن أن يقبله زملاؤه في تدريس المادة، وما يمكن أن يُقْبَلَ في امتحانات نهاية السنة، مشيرا إلى أنه ذاق مرارة الإجهاز على البلاغة واستبعادها في تحليل النصوص الأدبية حينما كان مدرسا في السلك الثانوي، مما جعله يتألم وهو يلاحظ التفكك واللا انسجام السمة المميزة لمنهاج اللغة العربية، وأشعره بضغط، دفعه إلى إلقاء معرفة المؤسسة جانبا، وتنقيح مادة تحليل النصوص بجعل البلاغة ركيزتها الأساس، لأنه من غير المقبول أن تُحَلَّلَ النصوص وتُهْمَلَ البلاغة، في هذه الحال، كل ما يمكن أن يقال لن يخرج عن نطاق الكذب، لكن هاجس الامتحان كان يخلق لديه ألما مضاعفا، فالتلاميذ في آخر المطاف يُمتحنون في المادة كما تريدها المؤسسة، لا كما يريدها المدرس. من جانب آخر، وفي معرض استعراضه لمسار البلاغة التاريخي، قال الدكتور محمد الولي إن قصة البلاغة تبدأ بالنسبة إليه من أفلاطون الذي لا مكانة في حاضرته للخطابة وللشعر، لاعتقاده أن الذي ينبغي أن يسود هو الفلسفة، ولذلك قرر في الجمهورية طرد الشعراء والفنانين والمنشدين، وأظهر احتقارا ظاهرا للعامة، مُعِدًّا إياهم شرا دائما، محتفظا للملك الفيلسوف، أو للفيلسوف الملك بسلطة تدبير شؤون الحاضرة بالعقل والعلم والفكر والفلسفة، وما على العامة إلا أن توافق وتخضع لتوجهاته وتشريعاته بشكل مطلق، وهذا ما عارضه أرسطو الذي كان مؤمنا بضرورة استشارة العامة في كل ما يتعلق بالتدبير السياسي، لتفادي الاصطدامات والثورات التي يمكن أن تحدثها هذه الفئة في حال استثنائها وتجاوزها، لذلك حث على وجوب التفاهم والجلوس معها، والاستماع إلى رأيها في كل شيء، وذهب إلى أن هناك فلسفة ثانية تكمل الفلسفة الأولى التي وضعها أفلاطون هي الفلسفة العملية التي تتكفل بعملية التدبير السياسي، هذه الفلسفة تهتم بالقانون والتشريع والقضاء، وبتدبير الحاضرة، وهي تحتاج إلى بعض الممارسات اللوغوسية المساعدة، لأنك حينما تستشير العامة، فإنك تحتاج إلى أن تخاطبها، وأن تعطيها الكلمة، وأن تستمع إلى اقتراحاتها في التشريع، وفي تدبير الحاضرة. وهنا ربط الدكتور محمد الولي بين إيمان أرسطو بضرورة مخاطبة العامة وممارسة الخطابة، مشيرا إلى وضعه ترسانة تتعلق بأجناس الخطابة الثلاث: الخطابة الاستشارية أو التداولية، والخطابة القضائية، والخطابة الاحتفالية التي يتوفر كل واحد منها على تقنية خاصة للإقناع، في الخطابة الاستشارية يحضر الشاهد، وفي الخطابة القضائية يأتي القياس المضمر، وفي الخطابة الاحتفالية يحضر التفخيم، ومن هذه الأجناس تولدت بلاغة المحسنات التي ترتبط بالمباحث المتعلقة بالاستعارة والكناية والتوازي والعبارات التورية والسجع والنعت والتقابل والتناسخ والمبالغة والتشبيه والصورة والأوزان والإيقاع. واللافت، حسب الباحث، أن مسألة الأسلوب لم تحظ بعناية أرسطو في الشعرية، وكذلك الأمر في الخطابة، فأرسطو أقصى من بؤرة اهتمامه المقومات الأسلوبية التي ستلقى اهتماما لافتا مع اللاتينيين أمثال ديمتريوس، وسيسرون، وكونتليان الذين انتهت جهودهم باستعادة بلاغة المحسنات أوالصور، وأصبحت كلمة البلاغة بفضلهم تعني بلاغة المحسنات التي طورت المواد اللغوية التي وردت عند أرسطو في الشعرية، وبشكل خاص في الخطابة، ورتبتها في أجناس بعد أن تخلصت بشكل ملحوظ من عبء الملامح الشعرية الحكائية والملامح الخطابية الإقناعية، وهنا نوه الباحث البلاغي محمد الولي إلى تهميش الثلاثة للإقناع، واهتمامهم بالأسلوب الذي مكن الخطابة من الازدهار، مستفيدة في ذلك من الحرية السياسية، بعد أن أصبح مباحا مناقشة أي شيء. وفي إطار هذا العرض التاريخي عرج الدكتور محمد الولي على القرن التاسع عشر، فأشار إلى جهود فونتاني في مجال بلاغة المحسنات وترتيبها وتوسيعها، وإلى دوره الكبير في تقريب البلاغة من الشعر، قبل أن ينتقل إلى العصر الحديث مع جماعة «لييج» التي اهتمت ببلاغة المحسنات، واستثمرت الجهود البلاغية السابقة التي أرساها ديمتريوس، وكونتليان، وسيسرون، وغيرهم، واستثمرت بشكل قوي اللسانيات والصوتيات والمنطق ونظرية السرد. وقبل أن ينتقل إلى القطب الثاني المتمثل في بلاغة الحجاج ، أشار الباحث محمد الولي إلى أن بلاغة المحسنات قد رسمت حدود قواعدها على أربعة مباحث كبرى هي محسنات الألفاظ؛ أي كل المقومات البديعية اللفظية، الجناسية بصفة خاصة، ومحسنات المعنى؛ أي المجاز المرسل والكناية والاستعارة، ومحسنات الترتيب من تقديم وتأخير، وتوازٍ، وما إلى ذلك، ومحسنات الأفكار التي تضم كل صور المجاز العقلي، وهنا خلص الباحث إلى البلاغة الحجاجية التي يتزعمها البلجيكي بيرلمان وشريكته تتيكا، مشيرا إلى أن هناك شيئا أساسيا في البلاغة البيرلمانية يتمثل في التشديد على الحجج، والتركيز على مباحث الإيجاد، والامتناع عن التسيج ضمن الأجناس الخطابية الثلاث: القضائية والاستشارية والاحتفالية، والعمل بالمقابل على توسيع دائرة الأجناس التي جعلها تحيط بكل أجناس الخطاب التي تستعصي على المعالجة العلمية الدقيقة، يقول بيرلمان: «إن الحياة اليومية والعائلية والسياسية توفر لنا كما هائلا من أمثلة الحجاج البلاغي، إن أهمية هذه الأمثلة المنتمية إلى الحياة اليومية تكمن في التقارب الذي تسمح به، مع الأمثلة التي يوفرها الحجاج الأكثر سموا عند الفلاسفة القانونيين». مضيفا بأن بيرلمان يهتم بكل الخطابات التي يتعذر تحليلها من وجهة نظر علمية، ويوسع دائرة المتلقين توسيعا مهولا، ويستعين بالجدل الذي ضمه إلى الخطابة، وبهذا الضم وسمت خطابته بالجديدة، وهي تتميز بِعَدِّ التأثير في المتلقي الغاية النهائية ، وهو ما جعلها لا تحتفظ من كل الترسانة البلاغية إلا بما يمكن من أداء هذا الدور، بل ربما بالغ رائدها بيرلمان في الأمر حينما لم يحتفظ إلا بالحجج اللوغوسية، وقبل أن يختم محاضرته عبر الدكتور محمد الولي عن عميق شكره وتقديره للدكتورة لطيفة الأزرق، رئيسة مختبر البحث في علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية، على اهتمامها وحرصها على نشر الثقافة البلاغية، كما عبر عن إعجابه بقراءات طلبة ماستر البلاغة والخطاب، وطلبة الدكتوراه لمنجزه البلاغي. بدورها شددت الدكتورة لطيفة الأزرق على القيمة العلمية لضيف المختبر الدكتور محمد الولي، مؤكدة أنها تحرص على تتبع صيته الشامخ، معتبرة إياه من الباحثين البلاغيين المتميزين على الصعيد العربي الذين يتجاوزون الاشتغال بالبلاغة إلى الوقوف على قضاياها وإشكالياتها الحقيقية، وهي الشهادة التي زكاها مسير الدرس الافتتاحي الدكتور محمد فوزي حينما اعتبره علما كبيرا من أعلام النقد والبلاغة في الجامعة المغربية، وصاحب مشروع بلاغي متجدد، يحتل مكانا متفردا في البحث العلمي، مستدلا على قيمته العلمية بشهادة باحث جزائري في حقه، وهو يصنفه ضمن جهابذة البلاغة وفرسانها، والأمر نفسه أكدته عضو المختبر الدكتورة نعيمة الواجيدي، ومسير الجلسة الصباحية الأستاذ توفيق استيتي. يشار إلى أن مختبر البحث في علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية التابع لشعبة اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة دأب منذ تأسيسه قبل سنة على تنظيم أنشطة متنوعة شملت البلاغة واللسانيات والنقد الأدبي في الشعر والرواية والمسرح.