تعد تجربة فاطمة بن فضيلة من التجارب الشعرية اللافتة ، بدءا من إصدارها الأول الموسوم ب «هل يخيفك عريي» الذي كان فتحا شعريا مبينا ، مرورا بروايتها « رواه العاشقان « وانتهاء بديوانها « أرض الفطام « الذي صدر عن الدار التونسية للنشر في 132صفحة من القطع المتوسط ، ويشتمل على25 قصيدة تتباين موضوعاتها وأنفاسها التي تراوح بين القصيدة الطويلة والقصيد الموجز الوامض. فماذا عن هذه الباقة الشعرية لفاطمة بن فضيلة ؟ وما أراضيها الشعرية ؟ وما التقنيات الجمالية التي توسلت بها الشاعرة لتصيد القارئ والوصول إلى ذائقته ؟ لعل أول ما يثير الانتباه في هذا المنجز الشعري هو حضور ذات الشاعرة حضورا لافتا وبكل ثقلها وعبر تجليات مختلفة، حيث إنصات الشاعرة لأناها وذاكرتها، وحتى القصيدة تفسح لها الشاعرة فسحات لتأمل ذاتها في مراياها . وعليه، تبتكر ذات الشاعرة ذاكرتها مصدرا لفاتحتها الشعرية ّ أيقونة الأعمى» لتتحول القصيدة إلى فضاء رحب لاستحضار المنسي، تبعا لقدرة الشاعرة على التذكر، وبهذا الغوص في ذاكرة الشاعرة نصادف أمكنة موغلة في العتاقة والقدامة ولا تقبل المحو « سور المدرسة، البلاد البعيدة، المكان القصي ، الجامعة ..» كما نصادف شخصيات بدورها لا تسعف الاندثار « الرفاق، علي، الأب، الأصدقاء، العاشقين، العاشقات، الشاعر …» : : « أبعثر ألبوم أفكاري والأجندة القديمة وأوراق دفترنا المهترئ أجد صور العائلة والرفاق وشعر أبي الأشيب وسور مدرستي المرتفع و»أنستي» ولكنة الراء فوق شفاه علي وضحكاتنا « وفي سياق استحضار هذه الذاكرة لمخزونها، تحضر أمكنة الطفولة القابعة في أعماق وخوابي الذاكرة والتي ترفض النسيان وتصر على الحضور، تعويضا لخواء الحاضر وفقدانه لما امتلكه بالأمس : « أظلل أيقونة العمر أحفظها في المكان القصي أرى بيتنا، باب مدرستي والسياج والطريق القديمة وصبارى العاشقين وبنتا بفستان عرس» وبهذا التذكر للإنسان والمكان، تكون فاطمة بن فضيلة قد دعمت حاضرها بذكريات تجدها قابلة للامتداد في الحياة والتحول إلى أحلام في زمن رابع تبتدعه الشاعرة، وبذلك تكون ذاكرة الذات في تمام عريها، تروي أمكنتها وأزمنتها ومخلوقاتها، مستندة إلى ما رأته وعايشته مستوعبة تفاصيله ومقتفية خطواته، ومن ثم تحويله إلى مشاهد من الدهشة والاندهاش . في قصيدتها «قبل مسافة الضوء قليلا « ، تكتب فاطمة بن فضيلة شعرا على الشعر أو قصيدة على قصيدة، وهذا ما يحل على مصطلح « الميتاشعرية»، حيث الشاعرة في بعض من قصائدها تتحول إلى ناقدة ومنظرة ، والشعر مجرد قالب لهذا التنظير النقدي . وهكذا تضع الشاعرة نفسها وقصيدتها تحت المجهر، لتقربنا من مفهومها للشعر، فهو الانفلاتة الخاطفة والخصوبة الوفيرة أحيانا، و المخاض الموجع والعصي والعسير أحيانا أخرى : لا تسلني كيف انتبذ القصيدة لست أذكر ربما تأتي انفلاتات قصيدة ثم تعصف كالمخاض لم أجربه ولكن ربما كالموت « إنه طريق المسافات البعيدة، وشهادة واستشهاد من أجل حياة القصيدة، لكن هذا هذا لن يتحقق إلا باستحضار عين الحذر من الانزلاق وانجراف الجنون : « الشعر أن تهب القصيدة قلبك فازرع دماءك في الغمام» « واحذر من الشعر المجفف احذر جنون الانزلاق « وعليه، نرى الشاعرة تتفحص قصيدتها مجهريا، تقلبها وتقشرها من أجل القبض على تعريف للشعر، والدافع لكل هذا ، الوعي الثاقب بأسرار الكتابة وخفاياها ، ومن ثم إمكانية التجريب والإلحاح على تجديد القصيدة ومواقفها واختياراتها والذي لن يتأتى إلا بتبني مشاريع شعرية جديدة تبتعد بالشعر إلى أراض جديدة . وفي الوقت الذي تحضر فيه أنا الشاعرة ، يحضر معها الحب بكامل قوته في قصائد الديوان ، لتمجيده تارة، والبوح يأسراره واللعب والشغب معه، ومن ثم الكشف عن علاقة هذه الأنا بالآخر في وصاله وانفصاله، وتدل على ذلك ألفاظ وعبارات من قبيل « ابك، إني أحبك ، متداخلان كزهرة وأريجها ، القلب، أشتهي مقام العاشقين، حبيبتان، أهوى ، طريقنا متنافر متعانق، الفم، يؤثث المكان عاشقان ….» ، غير أن موضوعة الحب هاته ، تنزاح عن المعنى المتداول الذي رسخته أشعار الأولين، حيث نتعرف على العاشق من بكائياته وأوجاعه وجنونه ، إذ نقف في ديوان ّ أرض الفطام ّ على شاعرة متحكمة في خيوط لعبة الحب وواعية بهذا الشغب : « أنا أحبك إني أموت على وقع هذا الرذاذ العنيف « ويحدث أن تمضي الشاعرة في رسم سيناريو وخارطة طريق لهذا وفق لعبة الوصال والانفصال : « لا شيء يوقف رغبتنا الوصال سأرتاح من حبك قليلا ثم أعود يا حبيبيّ « هكذا يبدو الحب في هذا الشاهد لعبيا ولذيذا ومتحكما فيه، وكما لو أن الأمر متعلق بأرجوحة اسمها الحب، ودوما تكون نهاية اللعبة كما لو مباراة حبية تنتصر فيها الشاعرة دوما وبأكثر من إصابة حب . ومجمل القول إن « أرض الفطام «منجز شعري ينضاف إلى المشهد الشعري التونسي بصيغة المؤنث ، ويعلن عن استمرارية تجربة شعرية تقبض على وردة نار القصيدة، لكون الشاعرة تؤمن بجدوى الشعر وانتصاره للحياة .