“الحركات الما بعدية تستمد وجودها من الركون إلى الشيء السابق والمختلف، مما يجعلها بمثابة مرحلة وسط بين السابق القديم و بين المستقبل الذي لم يلد بعد بصورته النهائية.”1 ما هو واقع ومآل المسرح في ظل العولمة؟هو السؤال الذي أصبح يشغل بال المهتمين بالمسرح في العالم بأسره، سؤال اختلفت صيغه، وتعددت اللغات التي جاء بها، وهو دون شك يكتسب مشروعيته ويجد مبرراته خصوصا مع تزايد القلق و الخوف على واقع المسرح ومستقبله في ظل عصر الثورة الرقمية والتكنولوجية، وما خلفته من تغيرات وتطورات على مستوى الاتصال والتواصل، بل وظهور ما أصبح يسمى بالفن الرقمي. إن الانشغال بسؤال ملامح مسرح الالفية الجديدة لا يعني أننا مطالبون بالبحث عن نظريات مسرحية جديدة، بقدر ما سيجرنا لا محالة للحديث عن أهم ما يميز هذه المرحلة، وأقصد هنا “مابعد الحداثة”، هذه الأخيرة التي تلزمنا بتقويض كل المقولات الكبرى، وبالتمرد على كل مقولات الحداثة وقيمها ورفضها. لا جرم أن ما بعد الحداثة والحركات الما بعدية عموما تقذف بنا مباشرة إلى الما قبل، وتعيدنا إلى الأصول، وهو تماما ما حدث مثلا مع نيتشه حين أصدر كتابه مولد التراجيديا. فالرجوع إلى الأصول هو ما يفسر لنا – ربما- سبب اللجوء إلى التراث في المسرح العالمي. وكيف أن هذا الاختيار كان بمثابة ضرورة تحتمها مرحلة مابعد الحداثة. لأن كل ما يحدث الآن أو سيحدث في المستقبل لا بد وأن يكون له أصل في الماضي. وبما أن الفن عموما والمسرح على وجه الخصوص “كمنتَج فني جمالي، ومنتج للفكر الإنساني، وحامل له من خلال الكلمة والرموز والدلالات التي تحملها عناصر العرض المسرحي لا يمكن أن نتصوره منفصلا عن الواقع في مختلف جوانبه الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية.” وهكذا ارتفعت أصوات كبار المخرجين والمؤلفين المسرحيين الغربيين منادية بإلغاء المنصة واحياء اللقاءات الحميمية التي طبعت بدايات المسرح وشكلت على مر العصور جوهره الثابت. فرأينا بذلك كيف استفاد بريخت من سحر الفرجات الشرقية، في الوقت الذي توجه بيتر بروك نحو الفرجات الافريقية، أما أوجينيو باربا فقد خاض مغامرته الخاصة من خلال تجربة مسرح الأودن، بحثا لا فقط عن جماليات جديدة، وإنما عن أشكال مسرحية مهجورة و منسية. ليس هذا فحسب بل هناك تجارب أخرى عديدة عالمية وجدت ضالتها في أشكال فرجوية قديمة مثل مسرح النو والكوميديا دي لارتي… ولم تكن التجارب العربية استثناء في هذا الباب، وذلك من خلال اللجوء الى التراث العربي الكلاسيكي كالمقامات وبعض الحكايات والرسائل، أو من خلال الفرجات الشعبية المتمثلة على سبيل المثال في المداح، والحكواتي، والحلقة والبساط وغيرهما في المغرب مثلا. لا شك أن هذا الرجوع إلى التراث في المسرح العربي – في أغلب تجاربه – كان مرتبطا بالأساس بمسألتي التأصيل والتأسيس للمسرح العربي، لاسيما مع الاعتقاد السائد بأن المسرح كفن هو دخيل على الثقافة العربية، وأن تجربة النقاش تعد بداية التأريخ لفن المسرح عند العرب. وهنا يحق لنا أن نتساءل إذا كانت الحركات الما بعدية هي نوع من الارتداد إلى الماقبل، فعن أي ما قبل سنتحدث في المسرح العربي؟ هنا تحديدا تبرز أمامنا الفرضية الثانية التي ترى أن العرب عرفوا أشكالا متنوعة من الفرجات على مر التاريخ، وذلك تماشيا مع المقولة التي ترى أن “حركة المسرح هي حركة الحياة نفسها، ذلك لأن حركة المسرح وما اعتراه في الشكل والمضمون وفي أشكال التعبير كانت موازية لحركة الحياة، ولحركة الفكر وبحث النفس الإنسانية عن اكتشاف ذاتها، وعن توق الانسان الدائم إلى الخروج من السكون إلى الحركة، واكتشاف مواطن جديدة للجمال الفني”.هذه االمسيرة المتواصلة والمستمرة،التي شهدت العديد من التطورات والنقلات، ما نتج عنه ظاهرة مسرحية في أشكال وصيغ متعددة، يمتح كل شكل من صوت الثقافة السائد في عصره، وما المسرح الاغريقي إلا شكل من هذه الأشكال المتطورة للظاهرة المسرحية التي تعد ظاهرة إنسانية لم تكن أبدا حكرا على أمة أو شعب دون غيرهم. إن هذه التطورات والنقلات التي عرفها المسرح سواء في الشكل أو المضمون لم تنل من جوهره شيئا وهو الشيء الوحيد الذي لا اختلاف حوله. هذا الجوهر الذي عبر عنه ( بيتر بروك) في كتابه المساحة الفارغة قائلا: أن فن المسرح يؤدى من قبل ممثلين لمؤدى لهم (الجمهور) في مساحة فارغة إلا مما يؤدى أي الحكاية أو المسرحية، ويؤكد بذلك أنه يستطيع “أن ياخذ أي فضاء فارغ ويسميه مسرحا أجرد (ويكفي )وجود أي شخص يسير عبر هذا الفضاء الفارغ، بينما يراقبه شخص آخر، هو كل ما يتطلب من أجل القيام بحدث مسرحي.” إن هذا الجوهر الثابت للمسرح كان ومايزال حاضرا بقوة في تلك الأشكال القديمة المقدمة الآن وهنا في لقاء حميمي، وهي الأشكال التي يطلق عليها اليوم الشبه مسرحية أو الما قبل مسرحية أو الظواهر المسرحية، فمهما اختلفت التسميات فتبقى الحقيقة واحدة وهي أن العرب كانت لهم فرجاتهم التي تؤثث ساحاتهم وأسواقهم. وهي التي تشكل ذلك الماقبل الذي نفتش عنه، ونحاول جاهدين اعادة احيائه وبعثه تحت مسميات جديدة كالعودة إلى الاحتفالية، وما بعد الدراما أو عودة السرد للمسرح… طالما “بإمكاننا أن نقول أن الخشبة يمكن أن تمثل بأي فسحة حقيقية، أو بمعنى آخر، الخشبة ممكن أيضا أن تكون بنية أو ساحة بلدة محاطة بالمتفرجين.” إن الاعتقاد السائد بأن العرب لم يعرفوا المسرح إلا مع تجربة النقاش، حرمنا من تعرف شكل مسرحنا العربي الأول، فإذا ما نحن تأملنا جيدا في تلك الفرجات وجدنا أنها تتوفر على كل مقومات المسرح، وأن الفرق الوحيد بينها وبين تجربة النقاش المسرحية بشكلها الايطالي تتجلى أساسا في اختلاف فضاء اللعب. لا شك أن تلك الفرجات كانت تؤدى في الهواء الطلق، أي في مسارح مكشوفة لا بناء فيها وهو ما كان يعرف بالمرسح، في حين أن أداء المسرحيات بشكلها الايطالي رافقه تحول هذه المراسح الذي نجده بمعنى مكان التنفيس والترويح واللعب إلى مسارح ببناء الجدران، رغم أن المعنى الذي نجده في جذر سرح بعيد عن ذلك القصد الذي يأتي من أجله هنا. من هنا أولا تم الانتقال من تسمية المرسح إلى المسرح. هذه الفكرة التي تجد تأكيدها أثناء العودة إلى الأصول او الجذور الأولى للمسرح العربي. فحين حاول المسرحيون المغاربة العودة إلى تراثهم المسرحي بحثا عن الذات والهوية العربية أولا، ورغبة في استعادة الاحتفالية والحميمية المفتقدتين، لم يجدوا أمامهم غير تلك الفرجات، بل صرنا نرى بعضهم يحاول التخلص من تلك الجدران المسرحية وأداء عروضه إما في خيمات أو الهواء الطلق على غرار المراسح الاولى التي مازالت أثارها قائمة في العديد من مدننا العربية، معلنة بذلك العودة إلى المرسح. هذه العودة التي لا ينبغي أن تفهم هنا على أنها عودة للتسمية، بل هي عودة للأشكال والصيغ التي عرفها المسرح خلال مسيرته الطويلة والموغلة في القدم قدم الانسانية ذاتها. و ختاما أحب أن أعود إلى سؤال ملامح مسرح الألفية الثالثة ، وهل فعلا نستطيع أن نتبين ملامحه الآن، ونستشرف مستقبله، رغم اختلافنا حول ماضيه وبداياته؟ تلك البداية التي يقول عنها أمير اسكندر: “أحقا كانت البداية خاطئة؟ وهل ترانا نعيش منذ عشرات السنين سلسلة متصلة الحلقات من النتائج غير الصحيحة، لأن المقدمة نفسها لم تكن صحيحة بالمرة؟. وما عسانا نصنع الآن؟ أينبغي أن نرفض كل التصورات التي استقرت في عقولنا على مر الزمن، ونعيد النظر في النقطة التي بدأنا منها، وأن نبدأ كل شيء من جديد؟ ولم لا؟ ولماذا نصر على الخطأ، إذا كان بوسعنا أن نعود إلى الصواب؟ … أجل، هناك أشكال قديمة من المسرح موجودة في تراثنا. وهي أشكال من “الفرجة”. وماذا يكون المسرح بدون فرجة ؟” ما أشبه اليوم بالبارحة! فإذا كان سؤال التأصيل وهاجس التأسيس لمسرح عربي خالص ومن خلاله ملامح مسرح مغربي حديث قد شغلت الرواد الاوائل للمسرح، فإن هذا السؤال يبقى سؤالا مطروحا أمامنا اليوم لكن بعد أن غير جلدته، ليصبح سؤالا حول ملامح مسرح الألفية الجديدة، لكن الفارق بين الأمس و اليوم يكمن في أننا قد استطعنا مراكمة عدة تجارب على امتداد ما يناهز القرن من الزمن، رافقتها دون شك حركة واسعة من التنظير والنقد المسرحيين إن على مستوى الكم أو الكيف. وفي ظل هذه الوضعية الراهنة، تأتي هذه الورقة لتسلط الضوء على بعض الأشكال أو المظاهر التي عرفها المسرح العربي ومعه المسرح المغربي عبر رحلتهما الطويلة، والتي هي نفسها رحلة الانسان. هذه الفرجات الماضوية التي بقدر ما ستقربنا من التعرف على ماضينا المسرحي المشترك، ستجعلنا كذلك نتلمس بعض ملامح مسرحنا الآن، ولم لا استشراف مستقبله الآتي. وهنا سنكون أمام خيار وحيد، إذ لا مناص إذن من تقييم وقراءة حصيلة المسرح المغربي قراءة سليمة تمكن من فهم حاجاته ومتطلباته هنا والآن في ظل عالم معولم، كما تمكن من امكانية استشراف مستقبله لاسيما مع تزايد المنافسة بينه وبين التلفزة والسينما من جهة أولى، أما من جهة ثانية فكيف يمكن للمسرح أن يصمد في وجه العالم الرقمي الذي أصبح يحقق انتشارا واسعا لبقية الفنون على حساب المسرح؟ بل وظهور فنون أخرى جديدة. إن التحدي الذي يواجهه المسرح ورجالاته اليوم يعد مصيريا، إذا يحمل في ثناياه صراعا مركبا، إذ عليه أن يثبت قدرته على مسايرة العصر من خلال احتوائه للتقنيات الوسائطية الحديثة دون المساس بجوهره، ليبرهن مرة أخرى أن المسرح بامكانه أن يتصرف بجميع الأساليب الفنية والتقنية المعروفة في عصر معين، فهل سنخوض التحدي أم نؤجله إلى أجل غير مسمى، ونبقى في انتظار غودو…