في هذا الحوار يجيب جان لوي كالفي عن مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالعديد من القضايا ذات الصلة بالتنوع اللغوي: اللغات والحدود بينها ومدى تطابقها مع الحدود السياسية والجغرافية، الكلمات الرحالة ودورها في التفاعل اللغوي، الهوية واللغة، التنوع اللغوي والترجمة ومدى قدرتها على قهر الحواجز القائمة بين اللغات، كراهية الآخر التي تؤدي إلى كراهية لغته ونبذها، اللغة باعتبارها أداة سلم أو حرب، اللغة والإنترنيت…عن كل هذه الأسئلة وعن غيرها، يقدم كالفي أجوبة تنِم عن تفكير هادئ وعمق علمي رصين.. تييري باكو: هل توجد فكرة «الحدود» في كل اللغات؟ لوي جان كالفي: هذا سؤال شاسع، ثم إنني لا أعرف «كل اللغات». لكن المشكلة لا تكمن في هذه المصطلحات، إذ يمكن لجميع اللغات التعبير تقريبا عن كل الأشياء. لقد عمدَت كل المجتمعات البشرية إلى توظيف لغاتها لتسمية الحدود2 بمجرد ترسيمها لها. ويتحتم علينا هنا أن نقف عند أصل الكلمة الاشتقاقي. تنحدر كلمة (frontière) وكلمة (front)، في اللغات الرومانية على سبيل المثال، من الأصل الاشتقاقي نفسه، حيث تتخذ كلمة (front) في تعابير مثل «المواجهة» أو» الصد» أو «الوقوف سدا منيعا « (faire front)، المعنى نفسَه تماما كما الحال في المجال العسكري. لدينا إذن معنى أول: الحدود ذات صبغة عدائية، ولن يثير هذا الأمر استغراب أي فرد … لقد استعارت اللغة الإنجليزية هذين المصطلحين الرومانيين، أي الحدود والجبهة، حيث تشير كلمة (front)، في هذه اللغة إلى واجهة منزل أو قصر، أي إلى ما يتبدى لنا من الخارج. نجد أنفسنا إذن، في خضم كل هذا، أمام حقل دلالي مثير للاهتمام: تُرى الحدود من الخارج، كما نرى حدود الآخرين ويرى الآخرون حدودنا. لكن ليست كل هذه الصياغات سوى تعابير مجازية، لأننا نادراً ما نرى الحدود التي يتم تجسيدها، في بعض الأحيان، بواسطة جدار أو أسلاك شائكة («إسرائيل» / فلسطين، الولاياتالمتحدة / المكسيك) أو بواسطة مظهر جغرافي (نهر)، لكنها حدود مادية قائمة في معظم الأحيان. أما بالنسبة إلى اللغات، فمن الصعب دائما ترسيم الحدود بينها، كما أنها لا تتطابق مع الحدود السياسية. إذا كنتَ تسير بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط من مدينة نيس إلى مدينة سان ريمو، فما اللحظة بالضبط التي يمكنك فيها تغيير اللغة؟ وإذا نظرت إلى خريطة إفريقيا، بحدودها الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، فإنك ستدرك، مع بعض الاستثناءات النادرة (رواندا، بوروندي)، بأن اللغات، في معظمها، عابرة للحدود، إذ سنجد أن اللغة السواحلية ولغة اللينغالا ولغة الماندينغ واللغة الولوفية واللغة الهوسية3، والعديد من اللغات الأخرى يتم التحدث بها في العديد من البلدان. وسنرى، في أوروبا بالقرب منا، أن اللغة الفرنسية تحضر في فرنسا بالطبع، ولكن في لوكسمبورغ أيضا، وفي جزء من بلجيكا وسويسرا، وجزء صغير من إيطاليا، وفي غيرها من البلدان الأخرى. نلاحظ مرة أخرى عدم تطابق الحدود اللغوية مع الحدود السياسية. وتبدو الأمور، في بعض الأحيان، معقدة للغاية. لنأخذ حالة المغرب، حيث الحدود السياسية مرسومة بدقة تقريبا. لغويا، تنقسم البلاد إلى قسمين: جزء من السكان يتحدث الأمازيغية بوصفها اللغة الأم (في الريف، الأطلس، سوس)، والجزء الآخر يتحدث اللغة العربية المغربية الدارجة (بهدف التبسيط، سأترك جانبا مشكلة اللغة الرسمية؛ أي العربية الفصحى4). ويعيش هؤلاء السكان بالطبع متآلفين مع بعضهم في المدن. وتُضاف، إلى هذه الازدواجية اللغوية، لغتان؛ ويتعلق الأمر باللغة الفرنسية المنتشرة في معظم أنحاء البلاد، وكذا الإسبانية في الشمال. تعتبر حالة طنجة، المدينة التي لم تصبح رسميا مغربية إلا منذ عام 1956، أنموذجا مثاليا عن هذا الوضع. المدينة التي ظلت تحت سيطرة الإنجليز منذ سنة 1856، ثم أصبحت منطقة دولية تقع على حدود الريف «الإسباني» بين سنتي 1912 و1956، ليحتلها الإسبان في الفترة الممتدة من عام 1936 إلى عام 1945. للمدينة إذن تاريخ مُبهم تتبدى آثاره في التفريعات اللغوية السائدة، حيث نتحدث في هذه المدينة تاريفيت (شكل ريفي للأمازيغية) والدارجة العربية المغربية والإسبانية وقليل من الفرنسية والإنجليزية، وغيرها من اللغات. يتلاشى إذن مفهوم الحدود في ظل هذه الممارسات اللغوية المتعددة، ولا يواجه السائحون الإسبان أية مشاكل في التواصل (يتحدث التجار لغتهم)، وعلى الجانب الآخر من مضيق جبل طارق، في إسبانيا، جَلب العديد من المهاجرين المغاربة لغاتهم. تييري باكو: هل تعد الترجمة الوسيلة الوحيدة لعبور الحدود اللغوية؟ لوي جان كالفي: أقول بالأحرى الحواجز اللغوية. يوجد في العالم اليوم ما يقرب من سبعة آلاف لغة، وحتى لو تم تقليص هذا العدد بشكل كبير، فلن يتمكن أحد من التحدث بكل هذه اللغات. لذلك، فإننا لا نتوفر على حلول عديدة. من ناحية، يتجلى الحل الأول في فكرة وجود لغة عالمية للتواصل المشترك، ونقصد بها الإنجليزية، لكن مع هدر كبير للطاقات على مستوى التعبير والتنوع اللغوي. بطبيعة الحال، يفكر البعض في الحل البديل باعتماد الإسبرانتو5: يستمر كل واحد في التحدث بلغته، ويتعلم أيضا لغة دولية لن تكون لغة أي طرف، ولا لغة أي نزعة إمبريالية. إنها فكرة ملهِمة، لكنها أثبتت، بعد إطلاقها لأكثر من قرن، عدم فعاليتها ولاواقعيتها. ويتبدى الحل الآخر في تبني مسألة الفهم الداخلي المتبادل. إنه من السهل على سبيل المثال والسريع جدا، تلقينُ أحد المتحدثين بلغة رومانية كيفية فهم متحدثين آخرين. هكذا، يمكن للإيطالي والبرتغالي والإسباني فهم بعضهم بعضا بسهولة حتى إن تحدث كل واحد منهم بلغته الخاصة. لقد درَّست شخصيا منذ بضع سنوات في البرازيل، وبما أن البرتغالية لم تكن كافية لإنجاز مهمتي، فإني درَّست باللغة الإسبانية، وكان جميع الطلاب يفهمون ما أقول، كما كنت أفهم الأسئلة التي كانوا يطرحونها علي باللغة البرتغالية. نلاحظ، بالإضافة إلى هذين الحلين، ظهور حلول مناسبة على الحدود، أذكر على سبيل المثال لغة البُّورتينو، وهي عبارة عن لغة تمزج بين البرتغالية والإسبانية، وتنتشر على الحدود بين الأرجنتين والبرازيل. وينطبق ما قلته عن الفهم الداخلي المتبادل بين اللغات الرومانية، على الفهم الداخلي المتبادل بين اللغات الجرمانية أو السلافية أو السامية أو البانتو: يلزمنا فقط بدْل القليل من الجهد، ووضع تصور لطرائق العمل… تبقى الترجمة والترجمة الفورية، اللتان يعود إليهما الفضل في احترام التنوع، الإجابتين الأكثر ورودا، وهو الأمر الذي لن يمنعنا، مع ذلك، من الدعوة إلى تلقين التلاميذ لغتين أجنبيتين على الأقل في جميع النظم المدرسية. لكن الترجمات تطرح مشكلا آخر، أو بالأحرى تلقننا شيئا آخر. قال إنجلز إن الدليل على وجود الحلوى هو أننا نأكلها. يمكننا القول إن الدليل على وجود اللغات هو كونها تُترجَم. والحال أننا نرى في السنوات الأخيرة عبارات مكتوبة على المؤلفات المترجمة، مثل: «مُترجَم عن الإنجليزية الأمريكية»، «مُترجَم عن الإنجليزية (أمريكا)»، وحتى «مُترجَم عن الأمريكية والأسترالية»، وبالنسبة إلى الإسبانية، «مُترجَم عن الإسبانية (الأرجنتين أو كوبا)»، وحتى «عن الأرجنتينية، المكسيكية، الكوبية، إلخ..». إننا لا نسمي بشكل مختلف الأشياء التي نعتبرها متشابهة، وتكمن إذن، خلف هذه التعبيرات، فكرة كون هذه اللغات هي في طريقها إلى أن تتخذ أشكالا مختلفة في أركان العالم الأربعة. نميز في اللسانيات بين ما نسميه «المتغيِّر»، العنصر الذي يمكنه أن يتغير، وبين «المتغيِّرات»، أي مختلف التحققات الملموسة للمُتغيِّر. يمكن أن نعتبر، من وجهة النظر هذه، اللغةَ «الكوبية» أو «المكسيكية» أو «الكولومبية» متغيرات للمتغيرة الإسبانية، كما يمكن اعتبار اللغة «اللبنانية»، «التونسية»، «المغربية» متغيرات للمتغيرة العربية، واعتبار «البريطانية» و»الأمريكية» متغيرتين للمتغيرة الإنجليزية، واللغة «البلجيكية»، «الكيبيكية»، «السويسرية»، «السنغالية» أو «الشكل اللغوي المحرَّف للفرنسية» مُتغيراتٍ للمتغيرة الفرنسية. تكمن المشكلة في معرفة إلى أي مدى يمكن لهذه المتغيرات أن تستقل وتصبح بدورها لغات جديدة. توضح لنا هذه المسألة أن الحدود اللغوية تتحرك باستمرار وتتغير. تييري باكو: كيف تتم الترجَمة بين لغات تمتلك أشكال كتابة مختلفة تماما، على سبيل المثال ترجمة لغة أبجدية إلى أخرى تصويرية؟ لوي جان كالفي: دعونا ننسى للحظة أنظمة الكتابة. يستطيع المترجم الفوري أن يترجم بسهولة خطابا باللغة العربية أو الصينية إلى اللغة الفرنسية أو الروسية. لا تمتلك هذه اللغات نظام الكتابة نفسه، إذ نحن أمام ثلاث أبجديات مختلفة وكتابة تصويرية واحدة؛ غير أنها، في شكلها المنطوق، قابلة لأن تترجم إلى بعضها بشكل مثالي. إذن، ما الذي يغيره الانتقال إلى الكتابة؟ لا يغير الانتقال إلى الكتابة الشيء الكثير. توجد بالطبع، في جميع اللغات المكتوبة، استعارات تستند إلى نظام رسم الحروف، على سبيل المثال تعبير (de A à Z / من الألف إلى الياء) أو تعبير (mettre les points sur les i / وضع النقط على الحروف)، ولكننا نعثر على تعبيرات مشابهة في لغات أخرى. تزداد الأمور تعقيدا بالنسبة إلى اللغة الصينية، وبخاصة في الشعر الكلاسيكي، حيث يمكن للحروف أن تتضمن معنى ضمنيا يستند فقط إلى شكل رسمها، في غياب أي نظير شفهي. وقد أوضح فرانسوا تشينغ هذه المسألة بإسهاب في كتابه عن الشعر الصيني الكلاسيكي. نحن نلج إذن مجالا تكون فيه الترجمة صعبة، لكن الأمر يتعلق بوقائع ذات حضور جد باهت للغاية. تييري باكو: بصرف النظر عن بلجيكا، هل توجد دول أخرى تُقسمها اللغة؟ لوي جان كالفي: نعم، هناك الكثير من الدول. توضح لنا مقاربة إحصائية بسيطة أن التعدد اللغوي منتشر بشكل كبير في العالم: هناك حوالي مائتي دولة، وما يقرب من سبعة آلاف لغة، وهذا يعطينا في المتوسط خمسا وثلاثين لغة لكل بلد. بالطبع ليست هذه النسب سوى نسب متوسطة فقط. ولكن، كما هو الحال بالنسبة إلى بلجيكا، يوجد في العديد من الدول تعدد لغوي ذو صبغة محلية: سويسرا بطبيعة الحال، أو كندا، وأيضا الهند، والعديد من البلدان الإفريقية، وغيرها. ينتج عموما، عن هذا المظهر الجهوي للتعدد اللغوي، ظاهرة التواصل المشترك، وتتمثل في اللغة التي سنعتمدها في التواصل عندما لا نمتلك نفس اللغة الأم: الملايو في إندونيسيا، والسواحيلية في شرق إفريقيا، وغيرهما. في مثل هذه الحالات، تكون لبعض اللغات وظيفة هوياتية – لغات الأصول، والأسرة، والبيئة المباشرة – وتكون بعض اللغات الأخرى لغات تواصل مشترك أو لغات تنحصر وظيفتها في تصريف الأمور اليومية. لكن الهويات ليست مجرد ألعاب لا طائل من ورائها، فنحن لا نخسر هوية باختيارنا للأخرى. يمكن للمرء أن يكون بريتونيا وفرنسيا في الآن نفسه، وجرمانيا وسويسريا أيضا، وتعكس اللغات هذه الهويات المتعددة.
تييري باكو: هل ندرك لماذا ترحل بعض الكلمات؟ وكيف؟
لوي جان كالفي: صحيح أنه في عدد مخصص لمفهوم الحدود6، تعد الكلمات-الرحالة موضوعا جميلا، بما أن هذه الكلمات تتخطى الحدود. وغالبا ما نطلق عليها الكلمات المقترَضة، لكن المصطلح غير مناسب إلى حد ما، بما أنه لا يتم سدادها أو إرجاعها … ولنتحدث بجدية أكثر، نقول إن الكلمات التي ترحل هي شاهدة دائما على العلاقات القائمة بين التجمعات البشرية. يمكننا إذن أن نقرأ في المعجم الإسباني التعايشَ الطويلَ لهذه اللغة مع اللغة العربية (العديد من الكلمات الإسبانية التي تبدأ ب «a» هي من أصل عربي)، ويمكن للمرء أيضا أن يقرأ في المفردات السياسية والإدارية والتقنية للغات إفريقيا الناطقة بالفرنسية أثرَ علاقات الهيمنة خلال الحقبة الاستعمارية. كما يمكن قراءة المكانة البارزة التي كانت تحتلها بريطانيا في تاريخ الرياضة خلال القرن التاسع عشر في المفردات الرياضية الفرنسية أو الإيطالية. ويمكننا أيضا رسم خرائط لهذه الكلمات المهاجرة، كلمة (café / قهوة) أو (abricot / مشمش)، كلتاهما قادمتان من العربية، إحداهما عبر اللغة التركية وتركيا، والأخرى عبر اللغة الإسبانية وإسبانيا. ونلحظ هنا حضور توازٍ بين المَسِير الذي تسلكه هذه الكلمات-الرحالة وبين الهجرات البشرية، توازٍ يتجاوز حدود الاستعارة البسيطة. الكلمات تهاجر مثل البشر. وأحيانا يتصدى القانون لهذه الهجرات. وهكذا، يحاول قانون توبون في فرنسا ولِجانُ المصطلحات في الوزارات المختلفة إقامةَ سد منيع لصد الكلمات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية منها. نحاول إيقاف الكلمات، ونحن نُوقف المهاجرين في جبل طارق أو في إيطاليا أو في جزر الكناري. لكن، إذا تمكن وزيرٌ للداخلية من استئجار طائرات وحشدها بالماليين، فمن الصعب تخيل طائرات لحشد الكلمات. تييري باكو: كيف تفسر التباين القائم بين استعمال كلمة وبين رسمها في القاموس؟ لوي جان كالفي: يعد القاموس بمثابة ثلاجة، غرفة باردة، يُسجِّل ويَصون الاستعمال الشفهي، واللغة لا تتحرك وتتطور وتتحول إلا ضمن الاستعمال الشفهي، وفي خضم الممارسات الاجتماعية، والقاموس يلاحق هذه التحولات. دعنا نقول إنه يسجل حالة من حالات اللغة، وإنه متخلف دائما عن التطور. هذا لا يعني مع ذلك أن جميع الابتكارات الشفهية ستستمر في المستقبل، كما أنها ستبقى موجودة في اللغة. بعضها يحيا حياة الورود أو الفراشات لفترة قصيرة، وبعضها يتقادم مع الزمن، ويصبح بعضها الآخر جزءاً من المشهد اللغوي على المدى الطويل. هذه الأخيرة هي التي تدخل القواميس بشكل عام، لكنها تتقادم هي الأخرى أيضا. يقوم قاموس لوبوتي روبير أو لاروس بِمد الصحافة، كلَّ عام، بقائمة الكلمات الجديدة التي تم تضمينها. ولكن بما أن القاموسين يحافظان على الحجم نفسه، فإن هناك كلمات تخرج كل عام من القاموس، كما يتم عبور الغرفة الباردة، هي الأخرى، بواسطة الحركة والتاريخ. تييري باكو: ماذا نعني ب «إيكولوجيا اللغات»؟ لوي جان كالفي: إنها تعني مقاربة اللغات بأخذ بيئتها بعين الاعتبار. في الإيكولوجيا، يُعتبر العش، الذي يتكون من مجال حيوي للحياة ومن الأنواع التي تعيش وسطة، بيئة معيشية حرفيا. أعتبر من جهتي وضعيةً اجتماعية، وكذا اللغات التي يُتحدث بها ضمنها، عشا إيكولوجيا. لا توجد اللغات خارج العلاقات التاريخية والاجتماعية، فهي نتاج ممارسات اجتماعية. وتعد فكرة «العش» الإيكولوجي ضرورية لإدراك تعايشها وتفاعلاتها. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد اللغات بمعزل عن المتحدثين بها، كما تحتفظ معهم بعلاقة من نمط العلاقة بين المضيف والطفيلي، حيث تكون اللغات، بطبيعة الحال، هي الطفيليات: لن تكون هناك لغات بدون متحدثين، ويعد هذا من الأمور البدهية. وبالطريقة نفسها لن يكون هناك وجود للهَدال7 بدون أشجار التفاح التي يعلق بها. أخيرا، ترتبط اللغات فيما بينها بعلاقات من نوع العلاقة بين الفريسة والمفترِس، وهو ما أسميته ذات مرة تجلطَ الدم. ثم نتحدث عن علاقة أخرى تتجسد في الحرب بين اللغات: تفرض بعض اللغات نفسها على بعضها الآخر، بل تجعلها تختفي في بعض الأحيان. يقودنا كل هذا إذن إلى أن ننظر إلى آلاف اللغات الموجودة في هذا العالم من وجهة نظر داروينية – ومن هنا جاءت فكرة إيكولوجيا اللغات. ويترتب عن هذه المقاربة العديد من النتائج التي أُوردها بالتفصيل في «من أجل إيكولوجيا لغات العالم» أو في» كانت ذات مرة سبعة آلاف لغة»، حيث أُثيرُ ظواهر تأقلم اللغات مع بعضها في عش معين، وكذا ظواهر المنافسة بينها. لا توجد، على سبيل المثال، لغة فرنسية واحدة، ولكن لغات فرنسية، متأقلمة مع مختلف الفضاءات التي انتشرت فيها، في الشمال (فرنسا، بلجيكا، كندا، إلخ)، كما في الجنوب (في المستعمرات القديمة، في إفريقيا). اكتسبت اللغة الفرنسية، من جهة، ألوانا محلية (نتحدث إضافة إلى ذلك عن لغة فرنسية كيبيكية أو لغة فرنسية سنغالية)، ومن جهة أخرى، يتم إدراجها في سيرورة الانتقاء الطبيعي في مواجهة لغات أخرى: الإنجليزية في كندا، البامبارا في مالي، اللينغالا في الكونغو، إلخ. دعونا نقول إنه يمكننا، مع مراعاة ما يلزم من تغيير، أن نطبق على اللغات في الحياة الاجتماعية، ما شرحه داروين بالنسبة إلى الأنواع (إن هذا ليس، مع ذلك، مجرد حشو: اللغات موجودة دائما في الحياة الاجتماعية، بل إن هذه الحياة هي المكان الوحيد لتواجدها والمجال الأنسب لوصفها ودراستها). تييري باكو: ما الجوانب التي تستخدم فيها الدول اللغات بمثابة أسلحة حرب؟ لوي جان كالفي: هناك قصة مثيرة للاهتمام في الكتاب المقدس، لحظة من لحظات التاريخ المقدسة، والتي هي أصل فكرة» شيبوليت»، هذه الفخاخ اللغوية التي يمكنها أن تكون، كما سنرى، قاتلة في بعض الأحيان. يتعلق الأمر بحرب بين قبيلتين إسرائيليتين. قبيلة «جلعاد» التي هزمت قبيلة «إفرايم». والحال إن الكلمة التي تعني بالعبرية «أذن» لم يتم نطقها بالطريقة نفسها من قبل أفراد القبيلتين، الأمر الذي كان سيسمح بالتعرف عليهما. هذا هو مقطع الكتاب المقدس الذي يسرد ما سيحدث: «ثم استحوذت قبيلة «جلعاد» على معابر الأردن باتجاه قبيلة «إفرايم». لذلك عندما قال أحد الهاربين من قبيلة «إفرايم»، «أريد أن أعْبُر! قال له رجال قبيلة «جلعاد»: «هل أنت من قبيلة «إفرايم»؟ وإذ قال: لا! قالوا له: قل «شبوليث!» «، فنطق «سيبوليت»، لأنه لم يتوفق في نطقها بشكل صحيح. ثم احتُجز وذُبح على معابر الأردن. وفي ذلك الوقت سقط اثنان وأربعون ألف رجل من قبيلة «إفرايم». (القضاة، الثاني عشر، 5-6) لقد تسبب هذا الحدث في الكثير من الوفيات بسبب اختلاف بسيط في النطق، السين»» s أو الشين « « ch .لكن هذه الحكاية تعلمنا مع ذلك الكثير. بداية، تعلمنا هذه الحكاية، وقبل زمن طويل من وضع النمذجة الصوتية، بحضور الوعي بوجود طرائق وأساليب مختلفة للتعبير. وتوضح لنا ثانيا أن رفض استخدام التنوع في مواجهة تنوع الاستعمالات ليس مسألة حديثة. وتبين لنا أخيرا أن السلطة القائمة يمكنها أن تذهب إلى أبعد الحدود في هذا الرفض. تُعد «شيبوليت»، من وجهة النظر هذه، شهادة على التباين، على مراعاته وأخذه بعين الاعتبار، وكذلك على الاستعمال الاجتماعي لهذا المُتغيِّر. لم تكن لأفراد قبيلة «جلعاد»، بالطبع، أكاديمية للغة العبرية، لكن هذا لم يمنعهم من أن يذبحوا ببرودة دم أولئك الذين لم ينطقوا مثلهم. من الواضح أن هذه قصة أسطورية، لكن الأساطير تتوفر على الكثير لتخبرنا به. اللغات لا تصنع الحرب وليست «أسلحة حرب»، ولكن لها دور في النزاعات الاجتماعية. يمكننا هنا استحضار الإنجليزية السوداء في الولاياتالمتحدة8، وأيضا الشرخ اللغوي الذي كانت تعرفه فرنسا، الشرخ بين لغة المناطق الجميلة ولغة الضواحي، شرخ لغوي نحن الذين ندفع فاتورته الاجتماعية. تييري باكو: هل يعد تنوع اللغات مصدر سلم أم مصدر حرب؟ لوي جان كالفي: هذا الكلام مجرد حشو. إن اللغات، أولاً وقبل كل شيء، مصدر للتنوع. وهذا التنوع يمكن أن يؤدي إلى تعايش سلمي، وهو ما يشكل الوضعية المرغوب فيها بشكل كبير. ولقد أدركت اليونيسكو هذا الأمر جيدا، حيث تربطه، في إعلانها عن التنوع الثقافي، بالتنوع اللغوي، مقترحة «المحافظة على التراث اللغوي الإنساني ودعم التعبير والإبداع والنشر بأكبر عدد ممكن من اللغات» و» تشجيع التنوع اللغوي – مع احترام اللغة الأم – في جميع مستويات التعليم كلما كان ذلك ممكنا، وحفز تعلم اللغات في سن مبكرة.» لكن تنوع اللغات يمكنه أن يلعب أيضا دورا في النزاعات التي لا تكتسي طابعا لغويا؛ ويشكل، من ثمة، المظهرَ اللغوي للنزاعات العرقية أو السياسية. يمكن أن تتجلى كراهية الآخر في كراهية لغته. يكفي أن نذكر بلجيكا والصراع بين «الفلامان « و «الوالون». ويمكن أيضا أن تؤدي هذه الرغبة في نفي الآخر ولغته إلى ابتكار لغات أخرى، لنجد أنفسنا هنا أمام مسألة الحدود من جديد. لقد أدت الصراعات بين الهندوس والمسلمين في الهند إلى إنشاء بلد جديد، ونقصد به الباكستان، ولكن أيضا إلى انتشار لغة: الهندية من جانب، والأردية من جانب آخر، بأحرف أبجدية مختلفة، ومعجم مختلف أيضا: ظهور حدود، ومن ثمة ظهور لغات جديدة. وقد حدث الشيء نفسه في يوغوسلافيا السابقة: كانت اللغة الذي يُتحدث بها هناك هي «اللغة الصربُ-كرواتية»، الآن هناك حدود، وبلدان جديدة، ولكن لغات جديدة أيضا: الصربية، البوسنية، الكرواتية، إلخ. تييري باكو: كيف تؤثر الإنترنت على وزن اللغات؟ لوي جان كالفي: إنه سؤال مثير جدا للاهتمام. حين ابتكار الإنترنت، كان كثير من الناس يقولون:» حسنا، هذا «شيء» ابتكره الأمريكيون، ولن يعتمد الأميركيون على لغة أخرى سوى الإنجليزية.» وصحيح أنه في البداية، كانت الإنترنت إنجليزية بنسبة 100٪. ولقد تغيرت الأمور، منذ ذلك الحين، بشكل مذهل. نقول، دون الخوض في التفاصيل، إنه بين عامي 1998 و2005، انخفض استعمال الإنجليزية من 75 ٪ إلى 45٪، في حين شهدت لغات أخرى زيادة «حصتها في السوق». نذكر، على سبيل المثال، أنه في الوقت التي شهدت فيه الإنجليزية بين عامي 2003 و2005 انخفاضا من 49 ٪ إلى 45 ٪ على مستوى حضورها على صفحات الويب، انتقلت الفرنسية من 4.32 ٪ إلى 4.93 ٪، والإيطالية من 2.59 ٪ إلى 3.05 ٪. ٪. ومازالت اللغة الإنجليزية تتراجع اليوم- بالنسبة المئوية بالطبع، وليس بالقيمة المطلقة- في الوقت الذي تشهد فيه الصينية ارتفاعا. هكذا، لا يغير الإنترنت من وزن اللغات فحسب، بل أصبح فضاءً للتنافس والحرية. يمكن لأي شخص، على سبيل المثال، أن يكتب بلغته مقالا صغيرا للغاية في ويكيبيديا، يعبر «الحدود» ويمكن أن يقرأه شخص يتحدث اللغة نفسها ويعيش في الطرف الآخر من العالم حتى وإن كانت اللغة التي كتب بها لا تحتل مكانة كبرى، ولا يتحدث بها الكثير من الناس. إنه من المستحيل اليوم التفكير في التنوع اللغوي، والتفكير في السياسات اللغوية، دون اعتبار الوضع العالمي بوصفه المظهر اللغوي للعولمة. (هوامش) 1 العنوان الأصلي لهذا الحوار: Louis-Jean Calvet Université de Provence Aix-Marseille 1 Des frontières et des langues Entretien avec Thierry Paquot HERMÈS 63, 2012, p.51à56. 2 آثرنا ترجمة هذه الكلمة بصيغة الجمع تفاديا للخلط الذي قد يحصل حين ترجمتها بالمفرد، حيث يعني حد الشيء تعريفه… (المترجم). 3 Le swahili, le lingala, le mandingue, le wolof, le hausa هذه مجموعة من اللغات المنتشرة بمختلف بلدان القارة الإفريقية، وهي عبارة عن مزيج من عدة لغات محلية ووافدة تفاعلت مع بعضها بفعل الاحتكاك عن طريق التجارة أو الترحال أو الاستعمار. (المترجم). 4 والأمازيغية التي تم ترسيمها في دستور 2011. (المترجم). 5 l'espéranto لغة مصطنعة، الهدف من إنشائها وضع لغة دولية سهلة لتيسير التواصل بين مختلف سكان المعمور بغرض قهر التعدد اللغوي الذي يمنع، من منظور معين، انسيابية التواصل بين الأفراد من مختلف الأنظمة اللغوية.(المترجم). 6 يقصد هذا العدد من المجلة، والمخصص لمطارحة الموضوع نفسه. (المترجم). 7 (Gui الهَدال أو الدبق هو نبات طفيلي يقتات من أغصان بعض الأشجار المثمرة. (المترجم). 8 لغة الأمريكيين السود ذوي الأصول الإفريقية. (المترجم).