جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    أحمد الشرعي مدافعا عن نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية سابقة خطيرة وتد خل في سيادة دولة إسرائيل الديمقراطية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخلفيات الفلسفية لجمالية التلقي (النظرية والمنهج)
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 01 - 2015

تعود أصول الدراسات والأبحاث النقدية التي قامت بها مدرسة كونسطانس إلى خلفية مرجعية استقت مفاهيمها و آلياتها التحليلية من المقاربة الظاهراتية عند كل من «هوسرل» و» هايدغر» و» إنغاردن» التي اعتبرت العمل الأدبي هيكلا أو خطاطة لا تكتمل إلا بتأويل المتلقي، أو متوالية من الممكنات تتيح للمتلقي الخيار بينها، ومن النظريات الجمالية التي تفرعت عن حلقة «براغ» وخصوصا تلك الأعمال التي قام بها كل من موكاروفسكي و فوديكا، كما ترجع هذه المفاهيم إلى النقد البنيوي بمختلف اتجاهاته و كذلك إلى نظرية غادامير الهيرمينوطيقية و إلى سوسيولوجيا الأدب(1) .
لقد حاولت الفلسفة الوضعية تجاوز المرحلتين الميتافيزيقية و اللاهوتية في مجال العلوم الإنسانية وذلك بالكشف عن القوانين الكامنة وراء الوقائع و المعطيات الشيء الذي حدا ببعض النقاد و دارسي الأدب إلى التأثر ببعض تصورات هذه الفلسفة في مجال مقاربة النصوص الأدبية كما هو الشأن بالنسبة «لهيبوليت تين «الذي كان يقول بالنص الوثيقة، أي ذلك النص الذي لا يدرس إلا في إطار وظيفته المرجعية التي تحيل على المرسل.
إن النص الأدبي في نظر»تين» كالمحارة لا قيمة له في حد ذاته لأنه لا يشكل إلا اقترابا من الإنسان الموجود وراء النص الأدبي،بمعنى أن هذا النص لا يوجد و لا يتحقق إلا في علاقة إحالية محددة مع الإنسان. يقول تين:»إن المحارة والوثيقة ليستا إلا فتاتا ولا قيمة لهما إلا باعتبارهما مؤشرين على الكائن الحي في كليته» (2)، ويتضح من هذا القول أن الدراسات الوضعية للأدب لم تعط أهمية كبرى للمتلقي على أساس أن الذات الشارحة أو القارئة لا تستطيع أن تدخل تاريخيتها
و لا حكمها القيمي المرتبط بهذه التاريخية مادامت تتصور النص في صيغته الأصلية وثيقة ينبغي الاقتصار على إثبات طبعاتها قبل التحليل المفصل لمراجعها و مصادرها .
وردا على الفلسفة الوضعية وضع الفيلسوف الألماني «إدموند هوسرل» منهجا فلسفيا يحاول أن يؤكد أنه على الرغم من عدم استطاعتنا التثبت من الوجود المستقل للأشياء في العالم الخارجي فإنه بالإمكان التأكد من كيفية ظهورها بشكل مباشر في وعينا، سواء كانت هذه الأشياء وهما أم حقيقة، و يعني هذا أنه بالإمكان النظر إلى الشيء لا باعتباره شيئا في حد ذاته، و لكن باعتباره شيئا يسلم به الوعي أو يقصده (3). إن «هوسرل» بهذا التحديد يستهدف تقديم صياغة جديدة لنظرية المعرفة تتجاوز ذلك التعارض القديم بين الذات والموضوع، وتجعل أشياء العالم الخارجي و موضوعاته غير منفصلة عن الذات الواعية . ويعني هذا أن العالم لا يمكن أن يتصور بمعزل عن الوعي، وأن الذات لا تعتبر منفصلة عن هذا العالم، ومن ثمة فإن فعل التفكير و موضوعه يعدان شيئين مترابطين ترابطا داخليا و متوقفين على بعضهما البعض. و إذا كانت القصدية في نظر «هوسرل» هي تلك الخصوصية المؤيدة للخبرة باعتبارها وعيا بشيء ما فإن الخبرات القصدية هي بمثابة أفعال لأنها تنطوي على جهد فعال أي ذلك القصد الذي يتوجه به الوعي نحو موضوعاته محاولا فهم ماهيتها،
و لذلك فإن الموضوعات القصدية لا تتأثر بالتغيرات التي تطرأ على مثيلاتها في العالم الخارجي إلا أنها قد تتأثر بما يطرأ على أفعال الوعي أو القصد من تعديل أو تغيير (4). و يفهم من هذا ضرورة التعامل مع الظواهر باعتبار تجلياتها في الذهن على أساس أن هذا التعامل هو المعطى الأساس الذي يجب الانطلاق منه. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن» هوسرل» لا يشتغل فقط على تلك التفاصيل الفردية العشوائية التي تحدد نوعية الظواهر بقدر ما يهتم بالنسق الذي يشكل الجواهر الكلية، وذلك على أساس أن الفلسفة الظاهراتية تعمل على تمييز كل ما يوجد في الخيال إلى أن تصل إلى الكشف عما هو ثابت فيه، و لذلك فإن إدراك الظواهر إدراكا كليا و دقيقا يتطلب بالأساس إدراك ما هو جوهري و ثابت فيها (5).
وإذا كان «هوسرل» يرى أننا لا نستطيع بلوغ الحقيقة إلا من خلال فصل أو عزل جوهر الفعل القاصد ومن خلال التعرف على الماهيات المكثفة في الوعي، فإن «هايدغر» يؤكد على ضرورة الإمساك بالوعي ليس كحالة ساكنة ولكن كعمل دينامي و يعني هذا أن العالم لا يعد موضوعا خارجيا يحلل تحليلا عقلانيا على أساس أنه شيء نوجد خارجه أو نقف إزاءه، و لكنه بمثابة واقع يحيط بالذات
و الموضوع في الآن ذاته، واقع يشكلنا مثلما نشكله تماما.
و يعني هذا أن الوجود الإنساني في نظر «هايدغر» هو حوار مع العالم، ومن ثمة فإن النشاط الأكثر حكمة هو الإنصات إلى اللغة التي لا تعد في نظره مجرد وسيلة للإتصال أو التعبير عن الأفكار بقدر ما تكمن ماهيتها في إحضار الموجودات، أي إحضار الخارج و جلبه إلى مجال اللغة. وبناء عليه فإن النص لم يعد بنية موضوعية منغلقة على ذاتها و لا تفصح عن أشياء مغايرة لمكوناتها كما يذهب البنيويون، كما أنه لم يعد متجها إلى أشياء خارجية بحيث تصبح الكلمات بمثابة دلائل أو شفرات فقدت هويتها كما يعتقد الإصطلاحيون.و إذا كانت اللغة هي التي تحدد مجال الفهم و التفسير لدى «هايدغر» فإن العالم يكشف عن ذاته من خلال اللغة أي من خلال الفهم والتفسير. ولا يعني هذا أن الإنسان يفهم اللغة و لكنه يفهم و يفسر من خلالها فقط (6).
انطلاقا من هذه المفاهيم و التصورات، عمد النقد الأدبي الظاهراتي إلى قراءة محايتة وشاملة للنصوص الأدبية بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية و ذلك عن طريق إدراك مظاهر النص الأسلوبية
و الدلالية باعتبارها مكونات عضوية من كل معقد يشكل فكر المؤلف جوهره الموحد. إن النقد الظاهراتي يهدف إلى الإمساك بالبنيات العميقة لفكر المؤلف و الولوج إلى دواخل وعيه، و الإحالة على مظاهر هذا الوعي المتجلية في عمله بناءا على موضوعية و حياد تامّين، و إذا كان هذا النقد يفترض أن الأعمال الأدبية تشكل وحدة عضوية فإنه ينبغي إيجاد مكان لكل عنصر من عناصر النص داخل كل شامل بواسطة عملية أطلق عليها «الدائرة الهيرمينوطيقية» التي تتحدد في أن الخصائص الفردية قابلة للفهم في إطار السياق الشامل، و أن السياق الشامل قابل للفهم من خلال الخصائص الفردية. و يعني هذا أنه من الصعب معرفة الكل في غياب معرفة بعض مكونات أجزائه كما أنه لا يمكن معرفة الأجزاء بدون معرفة الكل الذي يحدد وظائفه و يخصصها(7).
إن تصور النقد الظاهراتي لمفهوم النص الأدبي قد أفرز موقفين مختلفين لهذا النص: موقف مثله الهرمينوطيقي الأمريكي «هيرش» ،
و موقف آخر يمثله «كادامير»، فهيرش مثلا ? الذي لا يخفي تأثره الشديد بظاهراتية هوسرل ? يذهب إلى القول إن الرأي الذي يؤكد أن معنى عمل أدبي ما يطابق مقاصد المؤلف لا يستلزم بالضرورة القول بأن التأويل الممكن للنصوص يعد تأويلا أحادي الجانب، وذلك لإمكانية قيام التأويلات المتعددة و المختلفة للنص الواحد شريطة أن تتحرك كلها داخل نسق نمطي من التوقعات و الاحتمالات التي تلتقي مع معنى المؤلف، و يعني هذا أن «هيرش» لا ينكر أن الأعمال الأدبية قد تفيد أشياء مختلفة لدى مجموعة من القراء و في أوقات و لحظات قرائية مختلفة، غير أن هذه المسألة في نظره تتعلق عل نحو خاص بدلالة العمل أكثر مما ترتبط بمعناه، وذلك لأن دلالات النص تختلف من فترة تاريخية إلى أخرى بينما تضل معانيه ثابتة و قارة، الشيء الذي يثبت أن المؤلفين يصنعون المعاني بينما القراء يحققون الدلالات (8). وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الموقف الذي اتخذه «هيرش» من المعنى الأدبي قد تعترضه إشكالية أساسية تتمثل قي أن محاولة تحديد ما يخامر ذهن المؤلف و التأكيد على أنه هو المعنى المقصود من كتابته يعد مسألة من الصعب البرهنة عليها، لأنه يستحيل حصر كل ما يجري في ذهن المؤلف من معاني و مقاصد و نيات، و لهذا السبب عمد «هيرش» إلى اختزال كل ما يرمي إليه المؤلف فيما أطلق عليه «أنماط المعنى» وهي تلك الأنواع المرنة من المعاني التي يمكن بسطها وتحديدها ثم القيام بعملية غربلتها من لدن النقاد أو القراء، مع العلم أن المعاني
و الدلالات في أي نص من النصوص لا تعد قارة أو نهائية كما يعتقد «هيرش»، لأنها ترتبط بعملية الإنتاج التوليدي للغة الذي يتسم بكثير من المراوغة والمكر، لأن مقصدية المؤلف في حقيقتها تعتبر نصا معقدا يمكن أن يتعرض بدوره للمناقشة و الترجمة والتأويل بشكل مختلف تماما كما هو الشأن في أي نص من النصوص الإبداعية الأخرى(9). وتعتبر هذه المسألة الأخيرة منطلقا لتصورات و مقترحات «كادامير» التي حاول بلورتها من خلال الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي شغلت النظريات الحديثة للأدب نذكر منها ما يلي: ما هو معنى النص الأدبي؟ كيف يتصل هذا المعنى بقصدية المؤلف ؟ كيف يتم فهم الأعمال الأدبية الغريبة عنا ثقافيا و تاريخيا ؟إلى أي حد يعتبر الفهم الموضوعي أمرا ممكنا ؟ هل يرتبط فهم النصوص الأدبية وتأويلها بمواضيعها داخل سياقات تاريخية معينة ؟
في إطار الإجابة عن الأسئلة السابقة ذهب «كادامير « إلى أن الأعمال الأدبية لا تتقيد بمقاصد مؤلفيها، لأنه بمجرد انتقالها من سياق تاريخي أو ثقافي إلى آخر يمكن أن نستنبط منها معاني جديدة قد لا تخطر على بال مؤلفيها أو الجمهور المعاصر لها، لأن كل تأويل- في نظره ? يخضع للمقام و يتقيد بالمعايير النسبية التاريخية لثقافة معينة، ومن ثمة تنتفي إمكانية معرفة النص الأدبي كما هو، أي كما حددته مقصدية المؤلف. و يعني هذا أن دلالة العمل الأدبي تتوقف على نوعية الأسئلة التي نطرحها عليه كقراء من خلال مواقعنا التاريخية، كما يتوقف على مدى قدرتنا على إعادة بناء الأسئلة التي يعتبر العمل الأدبي جوابا عنها، ومن هنا توصف عملية الفهم لدى «كادامير « باعتبارها اندماجا لأفق القراء مع الآفاق التاريخية للأعمال الأدبية و ذلك على أساس أن الأفق هو الذي يحدد تموضعنا في العالم بشكل يجعلنا نتحرك فيه، و يتحرك معنا (10).
ويعتبر «رومان إنغاردن» من المؤثرين المباشرين في مدرسة كونسطانس بفضل أبحاثه و دراساته التي شكلت نوعا من العلاقة الرابطة بين هيرمينوطيقية هوسرل و هايدغر و بين المباحث الأدبية التي اهتمت بمفهوم العمل الأدبي، وقد تجلى هذا التأثير من خلال بعض المفاهيم التي احتضنتها نظرية جمالية التلقي، و خصوصا تلك المفاهيم التي تبناها «إيزر» كمفهوم الالتباس أو اللاتحديد، و مفهوم التعيين أو التحقق.
يذهب «إنغاردن» إلى أن العمل الأدبي هو موضوع قصدي خالص و تابع لغيره، بمعنى أن هذا العمل يعتمد أساسا على حدث الوعي لوجوده أو تحققه، و في هذا الإطار يميز بين نوعين من الموضوعات: موضوعات واقعية محددة بشكل عام، و موضوعات أخرى مثالية تتسم بالكلية وبعدم الاستقلال بذاته، ومن ثمة يرى «إنغاردن» أن الموضوعات الواقعية ينبغي فهمها أما الموضوعات المثالية فينبغي تكوينها، وفي مقابل هذا يؤكد أن العمل الفني بحكم اتسامه بالقصدية ينقصه التحديد الكامل لذلك يختلف عن النموذجين السابقين. إن مواقع اللاتحديد التي يتسم بها العمل الأدبي تجعل موضوعه القصدي مفتوحا وغير قابل للانغلاق (11).
إن ملء الفراغات أو مواقع اللاتحديد في النصوص الأدبية هي التي أعطت الانطلاق لفعل التحقق أو التعيين الذي يعتبر حسب «إنغاردن» نشاطا إدراكيا تقوم به عملية القراءة لملء المناطق غير المحددة التي تتمظهر بها الموضوعات في النص الأدبي، لكن تجدر الإشارة إلى أن فعل التعيين لا يقتصر فقط على ذاتية القارئ و إنما يمتد إلى الصلة التي يربطها بين معايشاته و بين الأهداف الوجودية المكونة بواسطة الأبنية النصية التي لا تمنع باعتبارها هياكل و مخططات إجمالية من تحويل القراءة إلى أشياء مختلفة (12).
انطلاقا من مفهومي اللاتحديد و التحقق عمد «إنغاردن» إلى وضع نظرية يمكن تلخيصها في القواعد الأربع التالية:
1 - قاعدة الكلمات/ الأصوات وهي تلك المواد الأولية للأدب حيث نجد الصوت يحمل المعاني، هذا فضلا عن تلك الإمكانات التأثيرية الجمالية الخاصة كالوزن و القافية.
2 - قاعدة الوحدات الدالة وهي تلك الوحدات السيميائية و التركيبية التي تحتضن جميع الوحدات الدلالية.
3 - قاعدة الموضوعات الممثلة التي تتكون من أهداف مشكلة و أوجه مخططة.
4 - قاعدة الجوانب المجملة التي تظهر من خلالها هذه الموضوعات.
إن هذه القواعد الأربع هي التي تشكل ما يطلق إنغاردن «البنية المجملة» التي تمثلها أبعاد و طبقات العمل الأدبي، و التي يجب استكمالها من لدن القارئ(13) ، و إذا كان الموضوع الجمالي عند «إنغاردن» يكمن في ذلك التحقق الملموس للنص الأدبي من قبل القراء فإن موكاروفسكي (14) _ أحد أقطاب البنيوية الديناميكية إلى جانب فوديكا ? يضع تمييزا واضحا بين النص المادي الذي يعتبره حدثا عارضا و بين الموضوع الجمالي الذي يتجلى في المدلول المرتبط بالنص المادي في وعي القراء.
إن أهم ما يستهدف «موكاروفسكي» الوصول إليه هو أنه إذا أردنا البحث عن الموضوع الجمالي في عمل ما فإنه ينبغي أن لا نبحث عنه في النص المادي ولكن في تحققاته و تجسيداته الدلالية التي ترتبط بفعل الإدراك، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن الدلالة في اعتبار موكاروفسكي ذات طبيعة تاريخية غير قابلة للاختزال في أي عمل متحقق ولكن يمكن اختزالها في القيمة الجمالية التي تسندها مجموعة ما إلى هذا العمل. ومن ثمة لم يعد مفهوم القيمة مفهوما مطلقا و محايتا يفترض قيما خالدة تندرج داخل العمل أو النص الأدبي، بقدر ما أصبح مفهوما علائقيا محددا بقدرة العمل على تأدية هدف معين. إن القيمة الجمالية ? حسب موكاروفسكي- تكون أكثر تساميا حينما ينقلب العمل ضد المعيار الثقافي السائد فكلما كان هناك انزياح عن هذا المعيار كلما ارتفعت القيمة الجمالية للأعمال الفنية و الأدبية، والعكس صحيح، غير أن موكاروفسكي سيتحفظ بعد ذلك ليعلن أنه حتى في الحالات القصوى يتحتم على العمل الفني أن يحترم هذا المعيار لأنه قد توجد على مستوى تطور الفن لحظات يعتبر فيها احترام المعيار الثقافي السائد مسألة لها أوليتها الواضحة بالقياس إلى تحطيم هذا المعيار.
لقد عمل فوديكا على تطوير تصورات موكاروفسكي و ذلك من خلال رصده لإشكالية التاريخ الأدبي حيث نجده يحدد للمؤرخ الأدبي ثلاث مهام أساسية يمكن اختزالها كالتالي:
- المهمة الأولى: دراسة النصوص التي اعتبرها جمهور ما أدبا في فترة معينة و التي تشكل سلسلة تاريخية لذلك ينبغي على المؤرخ الأدبي أن لا يتعامل مع النص باعتباره ظاهرة معزولة و لكن عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الخلفية التاريخية للحظة تولد النص.
- المهمة الثانية: دراسة إنتاج النص لفهم الأزمة القائمة بين العملية الإبداعية و السياق الأدبي و الاجتماعي الذي يعمل في إطاره ذلك الإنتاج، ومن ثمة يجب النظر إلى النص الأدبي باعتباره دليلا تطغى فيه الوظيفة الجمالية، و باعتباره موجها إلى جمهور محدد نسبيا في سياق ثقافي و اجتماعي معين.
- المهمة الثالثة: دراسة تلقي النصوص الأدبية و ذلك من خلال تفسير و تحليل و دراسة التغييرات التي تطرأ على نسق المعايير الأدبية التي تتبناها المجموعات المختلفة من المتلقين و القراء (15).
ويتضح من هذه المهمات الثلاث أن فوديكا قد تبنى بعض مفاهيم إنغاردن كمفهوم التحقق بعد أن خلصه من أبعاده المثالية
و ربطه بالتحققات الواقعية للمعايير الجمالية التي ترتبط بالتطور اللغوي و بظهور فرضيات أدبية جديدة، كما ترتبط بالبنيات الاجتماعية المتغيرة و بأنسقة القيم الفكرية المثالية منها و الواقعية.
و على الرغم من هذه المعطيات الأخيرة يمكن القول بشكل عام إن أبرز تأثير على نظرية جمالية التلقي يتمثل في الفلسفة الظاهراتية التي رصدت العلاقة الدينامية بين الفكر الإنساني و الأشياء، فالأنا المفكرة ? في نظر هذه الفلسفة ? لا تتحقق إلا عندما تدخل دخولا فعليا في ارتباطات و علاقات مع الأشياء، هذا بالإضافة إلى إشارة النقد الظاهراتي إلى طبيعة التوازن في الأعمال الفنية و التي تتمثل في تظافر عناصر العمل الفني أو الأدبي جميعها بنسب متساوية حول ما يسمى بمحور القوى داخل العمل، كما تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى رفض الظاهراتية للافتراضات المسبقة سواء عند الدخول في علاقات مع الأشياء أو في رصدها و تحليلها، و إلى رفضها لفرض أي منهج يؤدي إلى تثبيت هذه الأشياء، و يعطل الحركة الدينامية التي تسير في عدة اتجاهات بين العمل الفني ومن يتعامل معه بحثا و استكشافا (16).
الهوامش
1 _ أمبرطو إيكو : _ م س _ ص: 27
2 _ نظرية الأدب في القرن العشرين: ترجمة و تقديم محمد العماري _ إفريقيا الشرق (1996) ص: 7
3 _ تيري إيجلتون: _ م س_ ص: 6
4 _ سعيد توفيق: الخبرة الجمالية _ دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية _ المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع بيروت (1992) ص: 29 _ 33
5 _ تيري إيجلتون: _ م س _ ص: 6
6 _ سعيد توفيق :_ م س _ ص: 118
7 _ سعيد علوش: هيرمينوتيك النثر الأدبي _ دار الكتاب _ اللبناني _ بيروت (1985) ص: 32
8 _ تيري إيجلتون : _ م س _ ص: 8
9 _ نفسه: ص:9
10 _ روبرت سي هولب: نظرية الاستقبال _ مقدمة نقدية _ ترجمة رعد عبد الجليل جواد الطبعة 1 (1992) ص: 58 _ 59
11 _ انظر إيزر: فعل القراءة _ ترجمة حميد لحميداني و الجيلالي الكدية _ مكتبة المناهل، فاس ص: 102 _ 103
12 _ خوسيه ماريا إيفانكوس: نظرية اللغة الأدبية _ ترجمة حامد أبو أحمد _ ص: 125
13 _ نفسه _ ص: 125 _ 126
15 _ محمد العمري: نظرية الأدب في القرن العشرين _ ترجمة و تقديم _ إفريقيا الشرق(1996) ص: 3
14 _ لقد كان لموكاروفسكي و تلميذه فوديكا من مدرسة براغ تأثيرواضح على نظرية جمالية التلقي و خصوصا على ياوس الذي ركز على مراجعة التاريخ الأدبي و على نسبية القيمة التأريخية و الثقافية للأعمال الأدبية.
16 _ نبيلة إبراهيم: مجلة فصول:م_س_ ص: 102


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.