الإعلام والتواصل في علاقتهما بالذاكرة التاريخية الوطنية والهوية الوطنية، هو موضوع المحاضرة التي تم إعدادها لإلقائها في الدرس الافتتاحي للمعهد العالي للإعلام والصحافة بالدار البيضاء الذي كان مبرمجا يوم 31 أكتوبر 2014. إلا أن إدارة المؤسسة تلكأت في آخر لحظة، ولم تف بالتزامها بتنظيم الدرس الافتتاحي المتفق عليه، ومن ثم حرمت طلبتها وجمهور المتلقين من الاستفادة من مطارحة فكرية نابعة من تحليل واقع تعامل الإعلام الوطني مع الذاكرة التاريخية الوطنية وتداوله لمضامينها وقيمها وعبرها. وتعميما للفائدة، ارتأى معدها نشرها على أعمدة صحيفة وطنية ملتزمة بالخط النضالي، تحمل نفس الهم وتذود عن رسالة صيانة الذاكرة الوطنية وإشاعتها في نفوس وأذهان الناشئة والأجيال الجديدة والمتعاقبة لتظل متشبعة بواجب الاعتزاز بالوطن ومتمسكة بنضالات وتضحيات الأسلاف المجاهدين للعمل الوطني والتحريري. يحاول هذا البحث مقاربة علاقة وسائل الإعلام ووسائطه بالذاكرة التاريخية الوطنية، ويتغيا الإجابة عن تساؤل أضحى يؤرق الجميع ألا وهو : أين إعلامنا من هذه الثورة العارمة وغير المسبوقة في وسائل الإعلام والتواصل؟ وماهي رهاناتنا عليه؟ وما هو المطلوب منه؟ وماذا ينتظره ويريده الإعلام منا؟ إن المتأمل والمتفحص والدارس للتاريخ الوطني في مجمله وعبر مختلف حقبه وعصوره وأزمنته يدرك منذ الوهلة الأولى مدى غزارة مخزونه وغنى مكنونه وما يزخر به من أحداث وملاحم وانتصارات وأحيانا كبوات وإخفاقات، مثلت في مجملها تاريخ الإنسان المغربي الذي يستمر منذ ما يزيد عن 5000 سنة، ذلك الإنسان الذي استطاع أن يتأقلم ويتكيف بل وأحيانا أن ينسجم دون أن ينصهر مع كل الحضارات والأقوام والأجناس الوافدة أو الطارئة عليه، واستطاع أن يحافظ على الهوية الخاصة به التي اجتمع فيها وتمازج وتماهى الأمازيغي بالروماني مع البيزنطي والوندالي و الفينيقي والعربي الإسلامي والأندلسي والحساني واليهودي والتركي. هذه هي الذاكرة التاريخية للمغاربة التي نعدها ونحسبها العقد الفريد الذي يرصع تاريخ المغرب، والتي من الواجب على كل مغربي ومغربية أن يفخر بها باعتبارها إرثه الحضاري وعنوانه واسمه وبوصلته والغرة التي على جبينه والسيمة التي على وجهه والإكليل الذي على رأسه و الوسام المثبت على صدره الذي يميزه عن سائر أمم وشعوب المعمور. ويحق لي كما للمتتبعين أن يطرحوا السؤال التالي، لماذا وكيف فشل الإعلام الوطني بوسائله ووسائطه في خلق أيقونات ورموز وملاحم ومرجعيات من رجالات وبطولات تاريخنا التليد حتى أضحينا نجد المغربي يعرف عن رموز أهل الشام أو أرض الكنانة وبلاد الإفرنج وغيرها أكثر مما يعرف عن أهل داره ووطنه، أفليس في المغرب رموز وأبطال وزعماء ومجاهدون على شاكلة عمر المختار؟ وهل لم يعرف المغرب أحداثا جساما توازي جهاد صلاح الدين الأيوبي بالقدس، وتَفُوق انتصار أكتوبر 73 في مصر ؟ وهل ليس في المغرب نسوة توازين في نضالهن أو يتفوقن على أيقونة المقاومة بفرنسا Jeanne d'Arc؟ وهل ليس لدينا مواقع تاريخية أثرية توازي في عظمتها وشهرتها برج إيفل وتمثال الحرية ومعبد الأقصر؟ أم أن السؤال الأصح الذي يجب أن يطرح هو هل لدينا إعلام همه وأولويته الوطن قبل المال؟ إن المغرب كسائر الحضارات و الشعوب الراقية و العظمى يحمل تاريخا غنيا بالمآثر والبطولات الخالدة والقصص والروايات التاريخية الشهيرة، لا يزال قسم كبير منه يعاني إما من تنكر الإنسان أو هامشية المكان وينتظر من تسلط عليه الأضواء الكاشفة وينفض عنه غبار النسيان أو التناسي حتى يظهر للعالم تاريخ شعب طافح بالقيم غامر بالعطاءات وثري بالبطولات. ألم نهزم أقوى الإمبراطوريات الأوربية خلال القرن 16م في المعركة الملحمية وادي المخازن 4 غشت 1578 ؟ أليس لدينا من الشخصيات ما يكفي بل ويزيد ليخلق منها الإعلام أيقونات نرجع إليها وقت الشدة ونستلهم منها الدروس والعبر والحِكم والخلاصات. نعم لدينا يوبا وكسيلة والأميرة ديهيا وطارق بن زياد والمنصور الموحدي والمنصور الذهبي والست الحرة ومولاي إسماعيل وسيدي محمد بن عبد الله وعندنا موحى أوحمو الزياني وأحمد الهيبة وسعيد الويراوي وعسوا باسلام ومحمد الخامس ومحمد الزرقطوني وعلال بن عبد الله ومحمد بن عبد الكريم الخطابي وعبد الخالق الطريس ومحمد سعيد أجار بونعيلات وفاما البيضاوية ومالكة الفاسية وبين هؤلاء تتوزع أسماء جم غفير. أليس لنا من الأحداث ما نعتز به كالزلاقة والارك ووادي المخازن وصولا إلى ظهر أوبران وإغزارن وشن وأنوال والهري وبوكافر وانتفاضة وادي زم وانطلاقة جيش التحرير في الفاتح من أكتوبر 1955 وثورة الملك والشعب ومعركة الدشيرة والمسيرة الخضراء، وهذا غيض من فيض يستوجب التفاتة من القائمين على وسائل الإعلام والاتصال لينقلوا تفاصيلها المبهرة وصورها الآسرة بما يخدم توثيق الذاكرة الوطنية وإيصالها رسائلها للناشئة والأجيال الجديدة والصاعدة لتمتين وشائج ارتباطها بوطنها، فالوطن ليس جغرافية وليس عملة نقدية ولا جنسية مكتسبة بحكم الانتماء ولكن الوطن هو إيمان راسخ، هو شغف موصول، هو حب متجدد، هو ارتباط بجذور هي آباؤنا وأجدادنا، جذور هي أنت وأنا ونحن . وبالدار البيضاء مدينة المقاومة والفداء بامتياز وأنتم الذين تعيشون فيها وتسيرون في دروبها ألديكم إلمام بتاريخها؟، هل تعرفون أماكن وتواريخ لا يمكن أن تغرب عن بال مواطن حر مؤمن ببلده والتي أذكر منها 5 غشت 1907 و 7 أبريل 1947 و 7و8 ديسمبر 1952؟ وأعلم أنكم تمرون كل يوم في شوارع وأزقة تحمل أسماء أناس لم يمشوا عليها إلا قليلا كما قال الشاعر المرحوم محمود درويش، من قبيل الزرقطوني والزيراوي وابراهيم الروداني وعبد الله إبراهيم، فهل فكرتم أو تجشمتم عنت السؤال عنهم وعمن يكونون؟ وهنا يأتي الدور للحديث عن القيمين على الإعلام ووسائط الاتصال في ترسيخ هذا الشعور والتأسيس لهذه الثقافة. فكما هو معلوم يحتل الإعلام بوسائله ووسائطه المختلفة الورقية منها والمرئية والمسموعة، التناظرية منها والرقمية، الشخصية منها والجماعية، أهمية كبرى لما لها من أثر عظيم في تشكيل الرأي العام وتنمية مداركه، والإسهام في بلورة المفاهيم والقيم الوطنية والاجتماعية والقومية والإنسانية لديه. و مما لا يحوم الشك حوله أن الإعلام بكل وسائطه التواصلية، قد أحرز نجاحا باهرا في جميع المجالات بناء وتخريبا؛ وهو من أقوى وسائل الإقناع؛ إذ أنه أنفذ إلى القلوب من السهام، وأشد وقعا على النفوس من الحسام، اذ له ظاهر أنيق، ومنظر جذاب. و المتربصون بنا وحسادنا الكُثر مستعدون لصرف الأموال الطائلة لإحداث شرخ في بناء هذا الشعب وكذلك هم يفعلون ويشتغلون ليلا ونهارا سرا وجهارا في سبيل ذلك. والنتيجة التي يبغونها ناشئة مغربية لا تذكر شيئا من ماضي بلدها وشباب يكاد يفقد هويته وينسلخ منها وكهول وشيوخ يتأففون ويتبرمون من واقع رديء غير منصف. ولكي نستطيع تدارك الأمر من الواجب علينا إعداد خطة إعلامية من مسارين: مسار إعلامي لمواجهة المسخ الإعلامي و الاستلاب الثقافي ومسار آخر لتحصين الشباب. ومن هذا المنطلق، تأتي أهمية خلق ما يمكن أن نسميه مؤسسات الإعلام التربوي الهادف، وذلك من اجل الحفاظ على القيم الموروثة، وصيانة الذاكرة التاريخية وإخصابها، والعمل على تجنيد كل الطاقات والقدرات في سبيل الحفاظ على الوحدة الوطنية،لغاية النهوض بالوطن في مسيرات البناء و النماء والتشييد. فمن الضروري أن تُخلق شُعب وتخصصات تنكب فيما تنكب عليه إعداد جيل من الإعلاميين المتخصصين في خلق الأيقونات وصنع النماذج انطلاقا من تاريخنا وتقديم كل ما يشد المواطن إلى ماضيه وينمي ويزيد من وعيه بأهميته، وجعله قادرا على غربلة كل ما هو قادم من الضفة الأخرى غربية كانت أم شرقية، شمالية كانت أم جنوبية ومواجهة تحدي الشوائب والمفاهيم الخاطئة والأحكام الجائرة الجاهزة والحيلولة دون تسللها إلى منظومتنا الحضارية والفكرية والتاريخية وهو ما ينذر ببروز جيل يشوه تراث الوطن ويحقر تاريخه ويبخس رموزه. فكما يعلم المتتبعون، تمتلك وسائل ووسائط الإعلام و التواصل من خلال ما تبثه، القدرة على تغيير نظرة الناس إلى الحياة وإلى العالم من حولهم وإلى ماضيهم وتراثهم المادي واللامادي، من خلال تغيير مواقفهم تجاه الأشخاص والقضايا، فيتغير بالتالي حكمهم عليها وموقفهم منها ولا يقتصر التغيير على الموقف من الأفراد والقضايا، بل يشمل القيم وبعض أنماط السلوك أيضا . لا أحد له الحق في التعلل بهشاشة ثقافتنا وقابليتها للاختراق، أو بقلة رصيدنا التاريخي، أو بضعف مناعة نظامنا القيمي ضد الثقافات والأفكار الأخرى، لكننا أمام واقع استهدفت فيه مجتمعاتنا في أَضعف حلقاتها ( أطفالها وشبابها )، في إطار سياسة (تجفيف المنابع) وقطع العرى والوشائج التي تربط هذه الفئة من المجتمع بتاريخه، هذا بالإضافة إلى انحسار الدور التربوي للبيت، ومؤسسات المجتمع التربوية الأخرى، وعجزها عن تحصين الأطفال والشباب وتقاعس المؤسسات الإعلامية الوطنية في لعب الدور التاريخي الموكول إليها والمنوط بها مما أدى بالناشئة و الأجيال الصاعدة إلى الانسياق نحو شهرة لا تقوم بتاتا على تمجيد التراث التاريخي الوطني برموزه ووقائعه وأحداثه . إننا ندعو من هذا المنبر إلى عملية تغيير وتحول جذري في مواقف وسائل الإعلام ووسائط الاتصال للانتقال من الدفاع عن الهوية إلى مرحلة تحصينها واستنباتها في أذهان الأطفال والناشئة حتى نتجاوز مرحلة الخشية من السقوط في خانة الشعوب " البدون " أي التي لا مرجعية تاريخية لها. أمام هذا العوز و الخصاص البين في هذا المجال آلت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير على نفسها أن تأخذ بزمام المبادرة وتقتحم اللجة وتسارع إلى المبادرة وتدعو الفاعلين الحكوميين ومؤسسات المجتمع المدني إلى المساهمة في أنشطتها والفعاليات التي تنظمها على مجمل خريطة الوطن وعلى مدار السنة. وللإشارة، فالمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير تقوم كل سنة بتخليد 37 ذكرى بين وطنية ومحلية، كل واحدة منها تتناول محطة من محطات تاريخنا الوطني ونسعى جاهدين إلى إشراك الناشئة والأجيال الجديدة في تلك التظاهرات والأنشطة أملا في زرع بذرة الوطنية في نفوسهم وتلقينهم أبجدية تاريخ وطنهم في انتظار أن يشتد عودهم الفكري ليركبوا سفينة البحث ويطلقوا شراع الفكر في اتجاه عوالم جديدة وغير مكتشفة من تاريخ وطنهم. وإيمانا منا بأن التراث اللامادي، الروحي و المعنوي هو أيضا علامة دالة على محطات مميزة من التاريخ العام للوطن فقد آلينا على أنفسنا بالمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير إلا أن نؤسس شبكة وطنية من الفضاءات التربوية والتثقيفية والمتحفية للمقاومة وجيش التحرير بلغ عددها 52 فضاء مشتغلا ومثلها في طور الإنجاز. وهذه الفضاءات التربوية والتثقيفية والمتحفية للمقاومة وجيش التحرير كما نتصورها هي أداة اتصال وتواصل تُعنى بعرض ونقل ثقافة وفكر وتاريخ ونمط عيش نساء ورجال الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير من جيل إلى جيل عبر ما توفره من وسائط وأدوات تجمع في الغالب بين المقروء وبين المرئي والمسموع وكل ما يثير في الزوار غريزة الانتماء لتاريخ وجغرافية المكان الذي هو الوطن. فهذه الفضاءات كما قلت تختزل اتصالا عموديا وأفقيا وكذا زمانيا ومكانيا وفكريا بين الفئات ، فهي أداة تواصل أفقي باعتبارها وسيلة اتصال بين مجموعات عمرية جمعها الزمن والاهتمام والانشغال وهؤلاء هم " المرتادون أو الزوار"،كما هي أداة تواصل عمودي لأنها تفتح للناشئة والأجيال الجديدة نافذة على مسار الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بكل مالكه وتفاصيله وتمكنهم بالتالي من التواصل حسيا وحضاريا مع جذورهم من الأسلاف و الأولين من المؤسسين والمجاهدين للعمل الوطني و الاطلاع على مآثرهم وبصماتهم. كما لا يفوتني التذكير هنا بالورش الكبير الخاص بالإصدارات والمنشورات التي نسعى وعلى الرغم معاناة المشهد الثقافي أن ننشر منها ما معدله 27 إصدارا كل سنة، وهي إصدارات تتوزع بين الأطروحات الجامعية والمؤلفات والسير الذاتية ومجلة الذاكرة الوطنية " النصف سنوية " التي بلغنا عددها الثالث والعشرين علاوة على نشرة التواصل الشهرية التي أصدرنا منها 140 عددا و موسوعة الحركة الوطنية للمقاومة وجيش التحرير بالمغرب التي صدر منها إلى الآن 16 مجلدا موزعا بين ثلاثة أجزاء وهدفنا الوصول إلى 25 مجلدا تغطي مجمل فترة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال برموزه وأحداثه ومواقعه ووسائله وأدواته. كما تحرص المندوبية السامية في سياق نهوضها بواجب صيانة الذاكرة التاريخية الوطنية على تنظيم ندوات علمية وأيام دراسية وإطلاق تسميات لها ارتباط بمنظومة المقاومة على الساحات والشوارع والمرافق الإجتماعية والمؤسسات التعليمية بالإضافة إلى تكريم شخصيات وطنية وأعضاء من أسرة المقاومة وجيش التحرير الذين هم جديرون بكل تقدير وتشريف . ولشدة اهتمامنا بموضوع الذاكرة التاريخية للوطن، وخشيتنا الشديدة من ضياع مضامينها في زحمة الغزو الثقافي الذي يتعرض له الوطن من كل المناحي فقد أعلنا هذه السنة عن مباراة وطنية لكتابة قصص للأطفال والناشئة في مواضيع ذات صلة بتاريخ الحركة الوطنية والمقاومة والفداء وجيش التحرير وقد وجدنا عنتا كبيرا في الاستجابة ولم تكن وسائل الإعلام الوطنية لتطاوعنا في مسارنا ورغبتنا ولم تنشر إعلاننا إلا جريدتان اثنتان وبعض المواقع الإلكترونية ولم يكن أمامنا آنذاك إلا أن نشمر على ساعد الجد وساقه وشرعنا في إجراء الاتصالات الشخصية التي بدأت تؤتي أكلها و الحمد لله. إنها دعوة للضمائر الحية والإرادات الصادقة للمهنيين الإعلاميين لفتح ورش الذاكرة التاريخية الوطنية والاستثمار في أرصدته الغنية بحمولتها الوازنة والمتميزة وينابيعها المتدفقة من الدروس والعبر ومن القيم والمثل الدينية الأخلاقية والوطنية والإنسانية. فنحن اليوم أكثر من ذي قبل أحوج ما نكون إلى إعلام مواطن وجاد في النبش والتنقيب في زوايا وعتمات هذه الذاكرة لاستجلائها بمنهجية وباحتياط علمي شديد. فعسى أن يعي إعلامنا الوطني رسالته المثلى، ويتعبأ بعزم وحزم لخدمة الذاكرة التاريخية مع الغيورين عليها والعاملين من أجلها. *المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير