في الصين وجدنا الماوية حية، ولم نجد ماو. ولم نجد إلا صورا ليلية له، وجسدا مسجى حيث لم نره. وجدنا البلد في القرن القادم، ووجدناها أيضا في الزمن الذي مضى. في الصين عدنا إلى مقاعد الدراسة كما يحلو للصينيين أن يفعلوا عندما يريدون أن يقتسموا معك رغيف تجاربهم. بنفس الابتسامة والصرامة أيضا، يستقبلونك لكي يعلموك ما لا يمكن أن تعلمه خارج بلادهم. الشينوا صغيرة كثيرا، تكاد تكون ضحلة وتافهة أمام تواضعهم الجم. من الصين تعود بالانبهار وبالكآبة أيضا: منبهرا بما تراه من تجربة بلد وشعب بملايير السكان، وكئيب لما تعرفه عن بلادك وعن الأشياء التي من أجلها يتصارع الناس. لم يكن منا أحد لم يتذكر ابن بطوطة، سرا أو علانية، ونحن نركب الطائرة الذاهبة باتجاه الصين. وكنا حفدته الذين لم يتصوروا أنهم سيحملون آلات تصوير وحواسيب، وهواتف نقالة وهم يذهبون إلى البلاد التي أذهلته. لم نكن قد أصبحنا في نفس درجة التبتل التي وصلها وهو يروي سيرته... كنا نتعرف على بعضنا البعض: الإخوان في الاتحاد الاشتراكي، الإخوان في حزب الاستقلال والرفاق في التقدم والاشتراكية. الكتلة تصل المطار من أجل أن تقتفي خطى ابن بطوطة، ولكن في السماء هذه المرة. الرحلة ستدوم 15 يوما. فقط ستدوم ولا شك عمرا بكامله بعد العودة، أو هكذا مااكتشفناه من بعد. في مقر الخارجية ، التابع للحزب الشيوعي الصيني، كان الجو رسميا للغاية. أمام البناية وقف حارس أحمر، نحيف ورقيق ومقطب ، بدا مثل الخط المعدني في ورقة نقدية. كثيرون منا اعتبروه صنما من شمع. ومن شدة الانضباط ، عنّ لنا أنه يقلد تمثالا صينيا قديما. ونفس الشعور بأن الاشياء ثابتة وصارمة سنجده عند استقبالنا من طرف الوزير المساعد في الشؤون الخارجية. دخلنا القاعة البيضاء الشاسعة، وكان الوزير في استقبالنا ببسمته الصينية الشمعية، وبعد المراسيم البروتوكولية ، تحدث الوزير ليصف الصينالجديدة ، ويتكرر على لسانه الإلحاح ذاته الذي سمعناه قبلا، بخصوص الانفتاح والإصلاح.تحدث عن المغرب وقال بأنه لم يزره مطولا، ولكنه يعرف بأنه بلد جميل وموقعه استراتيجي وهو صديق الصين. تحدث عن العلاقات المغربية الصينية والتي تعود إلى سنة 1958، وكيف أن المملكة كانت من أول الدول التي تعترف بجمهورية شيوعية . وتحدث عن العالم اليوم وعن دفاع الصين عن نفسها وعن موقفها من العلاقات الدولية، وعن المأمول في العلاقة مع المغرب. كان جالسا في الأريكة البيضاء وبجانبه الاخت أمينة اوشلح ، رئيسة الوفد، كان يتحدث بدون أية حركة من اليدين أو من جسده كله.. يعطي الانطباع بانه مرتاح في قناعاته. وأنه يأخذ كل وقته لكي ينصت إلى لملماته وإلى رد الفعل الصامت فيها. أمينة أوشلح تكلمت لتقدم الوفد ، بعد التحية ، حزب الاستقلال كان ممثلا في كل من عبد الاله البوزيدي، عضو اللجنة التنفيذية ، وسعيدة ايت بوعلي، عضو اللجنة المركزية والمناضلة النسائية المرحة ، وعبد الله البورقادي، برلماني وعضو اللجنة المركزية، وعبد المجيد الكوهن، رفيق الدرب الطويل في الحب، المعجب حد التباهي بالزعيم سيدي علال . التقدم والاشتراكية كان حاضرا من خلال كريم التاج،عضو الديوان السياسي ورئيس ديوان وزير الاتصال ، شرفات افيلال، عضو المكتب السياسي والمهندسة الشمالية الجميلة، سمية منصف حاجي النحيفة، الرقيقة ، ومحمد بنسالم، عمي عبد السلام بالنسبة لمن يعرفه. والاتحاد كان ممثلا بسيد التواضع والحصافة الاستاذ النقيب ، وأمينة الرئيسة ورشيدة بنمسعود الاديبة وكاتب هذه السطور، يرجو العفو والمغفرة. كانت السيدة الرئيسة تتحدث عن مغرب الكتلة الديموقراطية ودرجة التمثل الوطني لمواقفها وقدمت كل حزب، ليأخذ الكلمة عبد الإله البوزيدي عن حزب الاستقلال ويتحدث عن حزب علال الفاسي، وعن القضايا التي تشغل المغاربة وخاصة قضية الوطن وقضية الديموقراطية ، وتميز الصين في علاقتها معنا، وبعدها تناول الكلمة كريم التاج، بلغة فصيحة جهورية، وختم تدخله بتسليم الوزير المساعد نسخة من مقترح الحكم الذاتي مكتوبة بالانجليزية. وباسم الاتحاد تشرف كاتب السطور بالعودة إلى العلاقة التي تربط الاتحاد والحزب الشيوعي، وعن علاقات المهدي بن بركة وماو تسي تونغ، وعن الصور التي مازلنا نحتفظ بها للزعيم، وهو ما ابتسم له بعد الترجمة، وعن الإجماع الوطني حول الصحراء، وعن احداث العيون، وعن الذين ذبحونا في الصحراء ويتهموننا بانتهاك الحقوق الانسانية. تكلمت رشيدة بنمسعود عن المرأة المغربية وعن المسيرة التي قطعتها منذ الاستقلال ولا سيما في العشرية الاخيرة وأهم المكتسبات.، كما زكت شرفات رأيها بمكتسبات اخرى تهم الجنسية والحق في المواطنة الذي أصبح لأبناء المغربية من زوج اجنبي. هو الدم النسوي ينتصر للدم النسوي في الصين.. لم يتردد الوزير في التنويه بإجماع الكلمات حول القضية الوطنية وعبر «عن تفهم بلاده لقضيتنا ودعمها للوحدة الوطنية المغربية». وبعد ذلك اصبح المجال مفتوحا للأبيض الصيني الصامت الصاخب بروعته. قاعة فارهة برسومات جميلة. وغابت الصور الرسمية. لا صورة واحدة لأي زعيم، سواء ماو أو جيناتو حاليا. سنكتشف بعد السؤال أنه قرار من زعيم الحزب بنزع الصور الشخصية للزعماء. لا زعيم بعد ماو، وصورة ماو نفسه غائبة. لمسة البياض الصيني تسود الروح، وتسحب عليها غلافا شفافا من الدعة.المودة العظمى تحب الابيض. القاعات التي سيستقبلنا فيها المسؤولون الصينيون ، ومنهم المسؤول عن التربية الحزبية والانضباط ، نفسها بيضاء، وارائكها بيضاء متشابهة. واكواب الشاي بيضاء،الحلم هنا في الصين أبيض أيضا. قاعة الغذاء تتوسطها مائدة مستديرة ودوارة.توضع الصحون وتدور، بعد النخب مع الكلمات. قال الوزير إن الصين «تفضل التفكير في الكساء عوض البحث عن حاملات الطائرات» في اشارة الى امريكا ودول السلاح الكوني. في الدفاع عن بلاده قال كلمة رائعة عن الذين يهاجمون الصين كذبا. قال عنهم أنهم «يكتبون وعيونهم مغلقة ويكذبون وعيونهم مفتوحة». كم يصدق هذا على الكثير من المغاربة، ويصدق على الكثير من الذين يكتبون وعيونهم مغلقة عن الحقيقة ويكذبون مثلما يشاهدون مباراة . نحن الآن في نهاية الجلسة، والجميع يتحدث ويسأل عن الصين وعما تعرفه اليوم، لكن المسؤول يصر على أن البلاد ما زالت في طور النمو وأنها ليست دولة عظمى، وما زال بها فقر وما زالت بها فئات محرومة وما زالت الصين تضع ضمن أولوياتها الغذاء والكساء والمسكن. ذلك التواضع الذي سنجده لدى المسؤولين مهما كانت مراتبهم أو مجالات نشاطهم، اساتذة مدراء معاهد أو مسؤولين عن القطاعات الحزبية. التواضع الجم، فلم نسمع مرة واحدة مسؤولا يتحدث عن نفسه: لا أنا في بلاد العم ماو متضخمة تأكل تنظيمها وبلادها. لا تمجيد للذات ولا «قنفحات» مفبركة ، ومتعالية . الناس مثل السنابل ، مملوؤون ورؤوسهم منحنية من التواضع، في حين أن الجثث الميتة عندنا تطفو على سطح المشهد مثل الجيف.! عندما دقت ساعة الرحيل، وقف السيد الوزير مبتسما ودعانا الى زيارة الصين مرة أخرى، منوها بدرجة التمثيلية، ودعانا أيضا الى زيارة المدينة الممنوعة أو القصر الامبراطوري الضخم، الذي يوجد أمام ساحة تيان مين. المدينة المحرمة على الشعب الصيني يطغى عليها اللون الاحمر والاصفر. قالت هيوو جينكان، المترجمة التي سميناها دينا واليس، كما لو كنا عائلة واحدة تخاصم نفسها من أجل اسم طفلتها أن اللونين كانا خاصين للامبراطور وممنوعين عن الشعب الصيني. تقوم البناية بتاريخ عميق كما لو أنها تتحرك في الغيب وفي الغيم.ساحات كبيرة وشوارع حقيقية وسط القصر الامبراطوري، والناس جيئة وذهابا، من كل فج عميق. هنا وسط هذه المدينة العامة أوقف بيرتولوتيش الكاميرا والتاريخ معا لتصوير بوذا الاخير، وقصة آخر امبراطور قبل مجيء الماوية والثورة الحمراء. الأحمر اليوم ، والاحمر في السابق من صميم الصين المتعالية والذاهبة قدما الى الخلود. كانت بوابة الحريم تستقطب الزوار، وقد علتها كلمات بحرف عربي أو فارسي، تبين من بعد أنه الحرف المانشوري. لأن المانشو حكموا الصين لمدة ، وإبان بناء القصر الامبراطوري. وعلى كل، نفس الخط سنجده في العملة والاوراق النقدية. حرف عربي واضح ..بعبارات غير واضحة طبعا في أذهاننا. يصعب في تلك اللحظة ألا تحضر البلاد، ويصعب ألا يتسلل المغرب الى ظل الجدار أو الى الذهب المرمري على الخشب. ونتوكأ على ألم عميق ، لهوية تهرب يوميا من العمران في بلادنا. هذه المدينة أصبحت في ملك الشعب، بعد أن تنازل الامبراطور المانشو الاخير «بويي» الذي كان يحكم الصين. وكانت المدينة مقر الحكم لعائلة مين، وقد بناها الامبراطور يونغل ، ما بين 1407 و1420، على مساحة تقدر ب70 هكتارا أزيد من 50 هكتارا منها للحدائق. في كل قاعة ينام كنز صيني من كنوز الأبهة والابداع الذي يقتحم عليك الذاكرة والخيال. هنا يجب أن تستعين بالخيال لكي تعيد ترتيب الجمال الباذخ، كما يرن في اسمها الصيني زيجينغ شينغ، والتي تحيل الى النجمة الصغيرة في اللغة الصينية . ولعلها النجمة ذاتها التي أخذها ماو ووضعها في العلم الصيني، نجمة القطب الشمالي في الفلك الصيني القديم. الاسماء فيها روح خاصة، قاعاتها تحمل العمق الروحي، فهذه قاعة لطايهي أو قاعة الانسجام الروحي الاسمى، والزونجي أو قاعة السمر الكامل . ولعل اجمل ما يحرك الاديب هو قاعة المجد الادبي «وينهوا». يخترق المدينة القديمة نهر المياه الذهبية . وفي الخارج، عندما قطعنا الجسير الصغير ، تحيط بالمدينة حدائق وبحيرتان بالقرب منهما مقر الجمهورية ومقر الحزب الشيوعي الصيني. وفي جنوبها الساحة الشهيرة، ساحة ربيع التمرد والدماء، تيانمين ، يتوسطها متحف الرفيق ماو، ولم يسعفنا الحظ خلال مقامنا لثلاثة أيام في بيكين لزيارة الضريح وتأمل رجل الصين الخالد، لأن الزيارات أضحت تقتصر على يومين في الاسبوع. القدم هو الذي بقي في الاسم الصيني اليوم، اسم غوغنغ أي القصر القديم. عند الخروج تركنا الظلال الذهبية للسطوح العالية، والألوان الزاهية ، وتركنا خلفنا قرابة خمسة قرون سائرة في البهاء والصمت الصيني البديع. وكان علينا أن نعرج طويلا حتى نجد الباب المطل على الساحة الكبيرة. قطعناها مخفورين بالاضواء ،الاستعداد للذكرى 61 لميلاد الثورة والصينالجديدة. ساحة تيانمين،تعني ساحة باب السلام السماوي، وفيها تنتصب جدارية المجد لأبطال الشهب، ومنها تبدو صورة ماو تسي تونغ ، على بوابة المدينة القديمة، ذكرى اعلان الصين الشعبية يوم فاتح اكتوبر 1949، من على شرفة المدينة الممنوعة. وقبالة الساحة برلمان الشعب ، وهو قريب الشبه من بنايتنا الوطنية وبنفس الالوان، ومتأكد من أنه ليست نفس الطينة تسكن البناية. فإنتاجنا الوطني لا يحسدنا عليه أحد ولا ينافسنا فيه شعب.