تميّزت الأعمال الإبداعية للكاتب والرّوائي عبد الكريم جويطي بالحضور المكثّف للمحكي التّاريخي، بل إن التاريخ، في تقديري، كان بمثابة المنجم الذي استمدّ منه المبدع، معادن صناعته لشخوص وأحداث وفضاءات متونه السّرديّة وخصوصا روايته الأخيرة: «المغاربة»، ونحن مع مؤلّفه الجديد: «تاريخ بلاد تادلا : تحيين وتركيب» (**)، نكون أمام انتقال من تخييل التاريخ إلى ممارسة التّاْريخ ، بحيث لن تعود « الكتابة « بمعناها الإبداعي قيمة مهيمنة في النصّ ، بل إن الحدث وتأويله سيشكّل الرّهان الرّئيسي كما هو الأمر في الأبحاث التاريخية التي تلتزم بقواعد الخطاب التاريخي . فما هي إذن الخصائص أو المميّزات التي طبعت هذا العمل ؟ إن الخاصّية الأولى التي يتمتّع بها هذا «الإنجاز» تتعلق ،في تقديري، بخلق الاعتبار للتاريخ المحلّي من منطلق وعي الكاتب بضرورة العناية بالأبحاث المناطقيّة التي ازدهرت مع مدرسة الحوليات لما تتيحه من تعرّف على الماضي كشرط مساعد على وضع مخطّطات المستقبل على مستوى الأقاليم والجهات . وإذا كانت الجامعة المغربية قد راكمت منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي أبحاثا جادّة في هذا السّياق، حيث تناولت عددا من الكيانات القبليّة ودرست مناطق محدّدة، فانّ الأبحاث المنجزة حول المغرب الأوسط التي يدخل ضمنها مجال «بلاد تادلا» و»مجال زيان» باعتبار التّفاعل ووحدة المصير التّاريخي بينهما، ما زالت في حكم النّدرة، وبالتالي فهذا المؤلَّف يساهم في ملئ هاته الفجوة المعرفية التي ينتظر أن تساهم في رتقها الأبحاث التي توجد حاليا قيد الانجاز من طرف باحثين شباب بتطلّعات جديدة ومشارب تكوينيّة مختلفة، بمختبر البحث في التراث والتاريخ الجهوي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال؛ وهي أبحاث منكبّة على جلّ مناطق الجهة التي تتواجد بها الكلية المذكورة من خلال مواضيع بحث تتوخى تسليط الضّوء على إشكاليات جديدة تتعلّق بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي للمجالات المدروسة ، كما تتعلّق بتحقيق نصوص تراثيّة تنتمي لنفس المجال . أما الخاصّية الثانية وتتعلّق بالبعد التّركيبي والمنحى التّحييني لهذا المنجز البحثي، علما أنّه من خصائص التأليف التركيبي أنّه يتوجّه مبدئيّا لعدّة أصناف من القرّاء، المتخصصين منهم وغير المتخصصين ، كما أنه صنف تأليفي غالبا ما يتّخذ صفة التأليف الجماعي لكونه، عمليّا ، يقتضي الإحاطة بالجزئيات وبكلّ ما كتب حول موضوع البحث خلال حقب زمنية مختلفة، إلا أن الكاتب اختار العمل بمفرده، ربّما لغياب مؤسسات الاشتغال الجماعي ّ، رغم شساعة المدّة الزّمنية التي اشتغل عليها وتعدّد المداخل المعتمدة للتّاْريخ لها حيث تتأرجح بين التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والديني للمجال المدروس. وفي كل ذلك ما يدلّ على الجهد الكبير المبذول للإحاطة بما كتب حوله منذ العصر الوسيط وقبله الى نهاية القرن التاسع عشر، ناهيك عن جهد المساءلة والتّوثيق والتّرجمة لمختلف النصوص والوثائق المستعملة، أضف إلى ذلك مهمة التّحيين التي تقتضي، منهجيّا ،تعزيز النتائج المتراكمة حول موضوع البحث بكشوف جديدة قادت إليها عمليات تأويل مسنودة بوثائق تمّ استعمالها لأوّل مرّة أو شهادات غير مقصودة مستقاة من مصادر لم تنتج أصلا بهدف الرّواية التاريخية، كما نلاحظ ذلك لدى المؤلّف بالنسبة لنصوص الرّحلة ،والشعر، والمقامة، وأدب المناقب، والمرويات حول أخبار الزّوايا وأوليائها المؤسسين، ومحكيات أصول القبائل وامتداداتها . وبخصوص الخاصيّة الثالثة، وتتعلّق بسؤال التوتّر المجاليّ كسؤال مركزيّ وإشكالي في البحث، وذلك من منطلق أن ضمّ بلاد تادلا لسلطة المرابطين والموحدين والمرينيّين والسعديّين والعلويّين لم ينزح عن إرادة السّيطرة واحتكار الطّرق التّجاريّة التي كانت مقدّمة للتّوحيد القسريّ لمجال المغرب الأقصى، كما أنّ حيويّة طريق القوافل التي تمرّ بالمجال التّادلي والازدهار الكبير الذي عرفته منطقة الدّير به على المستوى الفلاحي ( زراعة القطن ) ، بحكم توفّر المياه وخصوبة التّربة ، وازدهار التّجارة في مدنها العتيقة ( داي، أفزا، تافزا…) وتوفّره على معدن النّحاس، جعلته محلّ غزو الدّول المتعاقبة على حكم المغرب، ومحلّ ترسيخ أسباب القوّة، كما في غيره من مجالات التوسّع الحيويّة، لضمان استمراريّة احتكار المجال. ذلك حيث سيتمّ تشييد قصبات عسكريّة ( تاكرارت التي شيّدها المرابطون، ثمّ القصبة الزّيدانيّة من طرف السّعديين، ثمّ قصبة تادلة والقصبة الكوشيّة في عهد العلويّين)، كما سيتمّ سنّ سياسة توطين قبائل عربيّة مستقدمة من إفريقية والمغرب الأوسط مع الموحدين ومن درعة وسجلماسة مع العلويين، واستجاشتها عند الحاجة – إلى جانب القبائل الاْمازيغية التي تمّت استمالتها ( اْمازيغ الدّولة بتعبير أبي القاسم الزّياني )- « لحرص الحكّام على اصطناع جبهة عسكريّة لا ارتباط لها بالقوى العصبيّة المتساكنة بالبلاد» (1) تقوم بالحرب عوض الدّولة ، وتستخلص لصالحها الجبايات والمغارم، مع تصرّفها التّلقائي لمصالحها الذّاتيّة في فترات ضعف المخزن وفتوره ، واستفادتها من الإقطاعات . وقد ترتّب عن هذا الوضع القائم على نزعة التملّك للبلاد والأموال أن صار الناس كما عبّر عن ذلك محمّد بن غازي العثماني في « الرّوض الهتون ..» في سياق حديثه عن غزو الموحّدين لمكناسة الزّيتون « عمّارا في أملاكهم ، يؤخذ منهم نصف الفواكه الصّيفيّة والخريفيّة وثلثا غلّة الزّيتون « (2)، إن اختزال حضور الدّولة بالمغرب، عبر الحقب المدروسة ( العصر الوسيط والحديث ) في المجالات البعيدة عن عواصم الحكم في الجبايات والمغارم وقتال الناس» قتال كفر « بذريعة التّجسيم كما فعل ذلك الموحّدون ، واضطهاد المعارضين من الفقهاء كما حدث في العهد المرابطي فيما سمّي ب « قضيّة الإحياء « (3) والبطش بالقبائل السّائبة في الجبل على امتداد حرْكات السّلاطين ، والتّوطين القسريّ للقبائل في فضاءات غير فضاءاتها الأصليّة جعلت المجال مرتكنا لتوتّراته المحكومة بجدليّة النّهوض والسّقوط على امتداد قرون طويلة ليس فقط في بلاد تادلا كما يوضّح ذلك الكاتب ، بل في كلّ المجالات المغربية المشابهة من حيث الأهمّية الإستراتيجيّة بالنسبة لتدبير حكم المغرب أما الخاصية الرابعة، وتتعلّق في تقديري بكون هذا العمل لم يختر فقط منحى الإجابة عن مختلف الأسئلة التي شغلته بل أنّه اهتمّ أيضا بصياغة أسئلة جديدة فتح من خلالها أفاق ممكنة لاستكمال البحث وإضاءة بعض جوانبه التي لازال الغموض يكتنفها وخصوصا ما يتعلّق بتاريخ الزّوايا في بلاد تادلا، وربّما في غيرها، إذ بالرّغم من انّه تناول أغلبها بالبحث (الزاوية الصّومعيّة، الزاوية الشّرقاويّة الزاوية الدّلائية..) وبيّن الأدوار التي لعبتها في علاقاتها بالحكم المخزنيّ وبالنّسيج القبليّ، وبطرق القوافل التّجاريّة كما كشف عن المسكوت عنه في تطلّعات بعضها، فإنّها حسب تقديره كيانات مازالت في حاجة لبحث عميق شانها في ذلك شان المتخيّل المجاليّ، الذي لم يتمّ استثمار إمكانياته بعد في الكتابة التاريخية، خصوصا وأنّه يتيح إمكانات التعرّف على تمثّلات المجتمع لقضاياه الاجتماعيّة وللتحوّلات التي يعيشها. وفي اعتقادي فالمؤلّف على قناعة بهذا المنحى في الاستثمار المعرفي في البحث التاريخي خصوصا وانّه أدمج ضمن الوثائق التي اعتمدها نصوصا مكتوبة تندرج في إطار الأدب والمتخيل عموما (ديوان القاضي عيّاض، ديوان أبي العباس الكراوي، رحلة «نفاضة الجراب» للسان الدين بن الخطيب ، التعرف على المغرب لشارل دوفوكو، المقامة التادلية للوزير محمد بن ادريس العمراوي) ، ونصوص أخرى شفهيّة مرتبطة بما سماه الكاتب الأساطير المؤسّسة لهويات الأجداد وأصول القبائل، وذات العلاقة أيضا بالمتخيّل الدّيني المؤسّس لأمجاد الأولياء المؤسّسين للزّوايا وهي أساطير يتمّ وضعها في سياق سعي الأحفاد والمريدين إلى بناء حصانة الزاوية وإذكاء تنافسيتها، وذلك من منطلق ان تدبير مقدس الزاوية كما يعبر عن ذلك المؤلّف هو في العمق تدبير لقدرتها الاقتصاديّة. بينما الخاصية الخامسة والأخيرة، وتتعلّق بعودة صوت الأديب الذي يخترق قشرة التاريخ بين الفينة والأخرى، داخل المتن ، ممّا أضفى على الكتابة التّاريخيّة في المؤلّف مسحة تصويريّة جميلة جعلت الرّهان فيه لا ينحصر في المعرفة التاريخية بل وأيضا في طريقة عرضها على القارئ . ولنا في وصف المشهد الواقعيّ الذي اختتم به الكتاب أحسن مثال على ذلك ، مشهد كان عبارة عن اعتصام لمجموعة من القرويّين بسحناتهم التي ألهبها الحرّ والصّقيع ، الّذين نزحوا من « اْنركي» لأحد شوارع مدينة بني ملّال للمطالبة بإحداث إعداديّة بقريتهم الجبليّة ، وفي الجهة المقابلة للطّريق كانوا يتأملون مشهد زبناء متجر» كارفور « وملامح السّعادة التي تترجمها سيّاراتهم الفارهة المركونة أمام المتجر، ومقتنياتهم الوافرة والغريبة ، وكأننا يقول الكاتب أمام تشخيص إشكال حقيقي على اْرض الواقع تطلّب منه هو هذا العدد الهائل من الصّفحات ليراه بعدما انتهى من عمله مكشوفا أمام الجميع في لقطة حيّة واحدة تترجم جرح المجال وتكشف الإحساس الذي لايزال ينتاب الجبل في كون حلول مشاكله توجد بالسّهل ، وهو نفس الإحساس الذي انتابه منذ زمن البيذق ، أي منذ قرون ، ممّا يؤكّد أنّ اختلال علاقة المركز بالمحيط وما يترتب عن ذلك من توتّرات ،كان يشكل ولايزال إلى حدود اليوم البنية العميقة لمعضلة المجال في بلادنا. (*) باحث، مسؤول بالمركز الثقافي أبو القاسم الزياني عضو بمكتب «مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام» بخنيفرة (**) تاريخ بلاد تادلا : تحيين وتركيب ( 3 اجزاء) مطبعة البيضاوي، السحب الأول 2017. محمد القبلي، الدولة والولاية والمجال في المغرب الوسيط : علائق وتفاعل، دار توبقال للنشر ط الأولى 1997، ص 81. محمّد بن غازي العثماني ، الرّوض الهتون في أخبار مكناسة الزّيتون ، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط الثانية، المطبعة الملكيّة الرباط ، 1988، ص 27. حول هذا الموضوع انظر، محمد القبلي في، مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط ن دار توبقال للنشر، 1987 ، و»حول تاريخ المجتمع المغربي في العصر الوسيط : مقدمات اولية وقضايا . نشر الفنك 1988.