وضع تقرير أمريكي صادر عن معهد واشنطن ثلاثة احتمالات من أجل التأثير في مواقف العدل والاحسان والقصر الملكي، والعلاقة بينهما. جاء في هذا التقرير، الذي صدر عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تحت عنوان: "جماعة العدل والإحسان، في قلب التحدي الإسلامي بالمغرب| . أنه« يتعين على الولاياتالمتحدة، القيام بشيء ما للتأثير على القرارات الداخلية لجماعة العدل والإحسان، أو تكثيف مجهوداتها للدفع في اتجاه المصالحة بين الجماعة والقصر. وبالنظر إلى أسس السياسة الخارجية في المغرب والغموض الذي يلف توجه الجماعة، فإنه يتعين على واشنطن السعي وراء الخيارات المبنية فقط على الوضوح بخصوص الخطوات القادمة للجماعة». كما دعت توصية في التقرير إلى تسهيل « المصالحة بين القصر والجماعة، وإدماج الجماعة في النظام السياسي» . وفي هذا الإطار، يقول التقرير «فإن تعبير القصر عن انفتاحه وقبول ضم الأطراف التي لا تنهج العنف قد يحفز الجماعة على الاعتدال سياسيا». وأضافت توصيات التقرير أن الجماعة «قد تفيد في التصدي لتأثيرات الإسلاميين في الخارج، والتي تدخل المغرب عبر "الدعوة التلفزيونية».. حيث أن دروس الشيخ يوسف القرضاوي وعمر خالد لها نفس شهرة، إن لم تكن أكثر، من شهرة الشيخ ياسين. ودعت الخلاصات إدارة واشنطن كذلك إلى «تشجيع الإصلاحات الدستورية التي تمهد الطريق لإدماج حقيقي. فالخطوة الرمزية لضم معظم أكبر قوة إسلامية للمشهد السياسي لا يمكن أن تتحقق بالكامل إلا إذا كانت الإصلاحات، في بعض مستوياتها، تمنح البرلمان المزيد من السلط». التقرير، الذي نشر بالإنجليزية، من إنجاز الباحثة فيش ساكتيفال Vish Sakthivel، التي عاشت أكثر من سنتين في المغرب، وهي تتقن اللغة العربية وحاصلة على شهادة الماستر في السياسة العمومية من جامعة جورج تاون، تخصص العالم العربي، وتشتغل حاليا على الدكتوراه في كلية سان أنطوني التابعة لجامعة أكسفورد. الخيارات السياسية المطروحة أمام واشنطن وضع 3 سيناريوهات أمام الجماعة وهي المصالحة مع القصر والاندماج في الحقل السياسي الرسمي - استمرار عدم المشاركة عملا بنظرية التربص إلى أن تنضج الظروف أو التحالف مع قوى سياسية أخرى مهمشة استعدادا للمواجهة مع الملك في الوقت الذي قامت فيه الجزائر وليبيا بالتعامل بعنف مع الإسلاميين، الذين كانوا يكسبون المزيد من الدعم في سنوات الثمانينات، عمد الملك الحسن الثاني إلى نهج سياسة من القمع الانتقائي بالتوازي مع تبني نظام متقدم للاستقطاب والاستمالة لصف الدولة. وقام هذا النظام بالأساس على إضعاف قواعد دعم الإسلاميين من خلال السماح بتشكل أحزاب أو فصائل"الوسط"، التي سيتحلق حولها نظراؤها من المتطرفين ومعارضي المخزن. والحقيقة أن هذا التكتيك لم يبدأ مع المد الإسلامي ولم ينته معه، بل تم اعتماده في مواجهة أية قوة شكلت تهديدا لوجود الملك ومخزنه، وبالأخص ضد الاشتراكيين والشيوعيين سنوات السبعينات. وبدأ ذلك بقيام النظام تدريجيا باستقطاب حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال المحافظ ثم حزب العدالة والتنمية. وقد تمهد هذه السوابق لإمكانية القبول مستقبلا بالإسلاميين المحظورين اليوم. وفي هذا السياق، يرى الملك أن إدماج جماعة العدل والإحسان أقل خطورة مما كان عليه الأمر في السابق، وفي نفس الآن، ترى الجماعة نفسها أقل اعتراضا عما كان عليه الأمر في السابق، ومن بين العوامل التي تدفع نحو هذا الاحتمال وفاة الشيخ ياسين. الاشتراكيون باقي عناصر المعارضة منذ تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تحت اسم آخر سنوات الخمسينات، كانت المؤسسة الملكية تتعامل تارة بالقمع وتارة بالمهادنة، لكن بعد المسيرة الخضراء سنة 1975، عمل الحسن الثاني على استقبال المعارضة في خيمته، وكان يضع في حسبانه أنه حتى لو كانت تلك الأحزاب معادية للنظام وغير فعالة تنظيميا، إلا أنه يمكن تهدئتها وضمها لمصلحته. وتحت هذا الشعار، دعا زعيم الاتحاد الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد لمرافقته في رحلته إلى آسيا ووسط وشرق أوربا لحشد التأييد للموقف المغربي بخصوص الصحراء. من خلال تلك الرحلة، كسب الاتحاد الاشتراكي تأييدا وحصل على الفرصة للظهور تحت اسم الوحدة الوطنية. وبالنسبة للقصر، بدا هذا التكتيك مفضلا لكسر شوكة الجيش وسد الطريق على أية محاولة لانقلاب عسكري كما وقع في تونس. وبعد ضم الاتحاد الاشتراكي إلى المشهد السياسي، ناور القصر لدفع الحزب للالتحاق بحكومة ائتلاف جنبا إلى جنب مع حزب الاستقلال الموالي للملك. غير أن الاتحاد الاشتراكي قاوم، بحجة افتقاد الحزبين لنقط توافق مشتركة. وبالتدريج، بدأ الانسجام بين الاتحاد الاشتراكي والاستقلال وباقي الأحزاب يتلاشى مع تزايد حدة التنافس حول الأصوات الانتخابية وتزايد نفوذ القصر. وفي سنة 1981، وقعت انتفاضات شعبية في الدارالبيضاء مدعومة من طرف الاتحاد الاشتراكي ضدا على الإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي وارتفاع معدلات البطالة. فعمد القصر إلى الدفع مجددا، وبقوة أكبر هذه المرة، في اتجاه تقارب حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال بهدف تقوية قاعدة الدعم للإصلاحات ومواجهة المساءلة المتعلقة بالقرارات الملكية، وخلق شعور أكبر بالتعددية. غير أن كلا الحزبين قاما بشكل غير متوقع بمقاطعة الانتخابات التي أعلنها القصر منتصف الثمانينات، حيث اعتبرا الخطوة مؤامرة من المخزن لجعلهما بدون مواقع مهمة. وعندما قرر المغرب تأييد الغزو الأمريكي للعراق سنة 1991، بما في ذلك نشر قواته، واجه القصر احتجاجات من مجموعة من الأحزاب السياسية ومن المجتمع المدني. وبعد مرور عامين، عرض الملك تشكيل حكومة تناوب كمؤشر على دعمه للتعددية. وكان الاتفاق المقترح ينص على أنه بإمكان المعارضة قيادة الحكومة في حال فوزها بالانتخابات البرلمانية، مع اختيار الملك للوزير الأول. غير أن الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال اعترضا مطالبين بتعزيز موقع الوزير الأول بتمكينه من الإشراف على أهم التعيينات الوزراية، بدلا من الملك. وقوبلت هذه المطالب بالرفض، وبالتالي لم تشارك المعارضة مجددا في الحكومة. غير أنه في وقت لاحق، ستقبل الأحزاب بالمقترح. ففي سنوات التسعينات، استمر سعي حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال نحو السلطة. وقيل إن الحزبين تم إغراؤهما من طرف القصر، كما قيل إن الأصوات المعتدلة داخل الحزبين انتصرت على تلك التي تعارض بشدة المخزن. وقبل انتخابات سنة 1997، شكل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ائتلافا تحت اسم "الكتلة"، حيث تمكنت هذه الكتلة من الفوز بالانتخابات، مع حصول الاتحاد الاشتراكي على مقاعد أكثر من الاستقلال، وبالتالي تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول. الإسلاميون
تسلق حزب العدالة والتنمية حبال المشهد السياسي في المغرب بسرعة تجاوزت سرعة الاتحاد الاشتراكي والاستقلال. والحقيقة أن الإسلاميين لم يشكلوا تحديا للنظام إلا في سنوات التسعينات، بتوفر ظروف إقليمية كالحرب الأهلية في الجارة الجزائر. غير أن الملك تصرف بشكل حاسم بالهيمنة على الجماعات الإسلامية، رغم قلقه من أن قمعها سيؤدي إلى تطرفها. ولقد شمل ذلك كافة الأحزاب الإسلامية، علما أن حزب العدالة والتنمية وجناحه الإيديولوجي الدعوي، التوحيد والإصلاح، تولدا عن تنظيم الشبيبة الإسلامية المتشدد، الذي تم حله بعد أن تورط مؤسسه عبد القادر مطيع وأعضاء آخرون في اغتيال عمر بنجلون سنة 1975 . يمكن تأريخ بداية حزب العدالة والتنمية بظهور الجماعة الإسلامية، التي أصبحت في ما بعد حركة التوحيد والإصلاح. ورئيس الحكومة الحالي بنكيران كان من بين النشطاء الأوائل في صفوف الحركة الذين أعلنوا عدم تأييدهم لمعارضة الدولة بالعنف، وبالتالي إعلان القطيعة مع سلفه في الحركة الذين كانوا يرون أن الدولة والمجتمع يعيشون في مرحلة الجاهلية، وبالتالي يستحقون التدخل بالعنف، فكانت خطوة بنكيران إشارة من الحركة إلى أنها تسعى لأن تحظى بالقبول في الساحة العمومية. وقبلت الحركة ضمنيا الشرعية السياسية والدينية للملك، كما انخرطت في عملية الدعوة لنشر مبادئها التربوية والأخلاقية. وفي سنة 1992، قوبل طلبها لتشكيل حزب سياسي بالرفض، لكن تم قبولها للانضمام إلى حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية. ولقد تولى قادة حركة التوحيد والإصلاح مراتب متقدمة في هذا الحزب، الذي أضحى يعول بدرجة كبيرة على الموارد والتمويل من هذا القادم الجديد. وفي سنة 1998، ستتم تسميته حزب العدالة والتنمية، لكن لكي يتم الاعتراف به كحزب سياسي، كان من الضروري عدم جعل أي ارتباط واضح بينه وبين حركة التوحيد والإصلاح، لذلك لم يكن بإمكان أعضاء الحركة تولي مناصب داخل الحزب. وفي وقت لاحق، أصدرت حركة التوحيد والإصلاح مذكرة اتفاق تقسم الأدوار بين الحزب، الذي يتولى مسؤولية التعامل مع القضايا السياسية وتمثيل الإسلام في مؤسسات الدولة، وحركة التوحيد والإصلاح التي تتولى مهمة الدعوة والتربية. وظلت هذه الشراكة مستمرة إلى أن أسس الحزب لاستقلاليته المالية والاستراتيجية، وأصبح أعضاء الحزب غير راغبين في أن يتم ربطهم بالحركة. ومع ذلك، فإلى حدود اليوم، تظل المجموعتان مرتبطتين ومنفصلتين في نفس الوقت: فالحزب يبدو متحررا إديولوجيا ويعبر عن ولاء استراتيجي للنظام، في حين أن الحركة تبدو أكثر تمسكا بالإيديولوجية ومنتقدة نوعا ما للنظام. منذ التسعينات، تم السماح لحزب العدالة والتنمية بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية والجماعية، وهو ما يعكس رغبة الحزب في التطور ورغبة القصر في الترحيب بالإسلاميين وضمهم إلى التحالف الحكومي. بالنسبة للعدالة والتنمية، كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، فإن انضمامه للحقل السياسي جاء بمعطيين أساسيين: أولهما، ضرورة الانتقال إلى موقع الوسط، أو الاعتدال، السياسي من أجل المشاركة في الحياة السياسية، وبالتالي تسهيل مأمورية تدبير الأحزاب. وثانيهما، التماهي التدريجي بين الأحزاب والنظام، سواء في سياستها أو في ذهن المواطنين على حد سواء، وبالتالي إجبارها على تقاسم المسؤولية والمحاسبة عندما يتعلق الأمر بقرارات المخزن التي لا تحظى بالشعبية. وتمثل هذه التطورات نصرا للحسن الثاني، الذي أضعف الأحزاب وعزز أرضية التناوب وخلق ما يشبه التعددية واقتسام السلطة. والملك محمد السادس استمر في الغالب على نهج والده، محققا ذات النجاح. الصراعات، غياب الفعالية والعقم في الأداء البرلماني أفضى إجمالا إلى تقوية قبضة الملك كوسيط، كما أن ضعف مكانة الأحزاب نتج عنه تعزيز قوة الفيتو الملكي ووفر غطاء لتعثر الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية. وفي ظل هذا السيناريو، أضحى القمع غير ضروريا.
مستقبل جماعة العدل والإحسان هل سيكرر التاريخ نفسه مع جماعة العدل والإحسان؟ هل من الممكن أن تختار الجماعة، شأنها شأن باقي الأحزاب، الانضمام إلى الحكم وفق شروط القصر، بالنظر إلى سعي التنظيم وراء استراتيجية قيادية جديدة؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل سيكون لهذا "الاستقطاب" نفس التأثير كما في الحالات السابقة؟ ليس من السهل تقديم أجوبة لهذه الأسئلة، إذ ليس من السهل قراءة ما يدور في ذهن زعيم الجماعة فحسب، بل من الصعب أيضا تحديد الموقع الذي ستتمركز فيه السلطة الداخلية خلال السنوات المقبلة، علما أن التنظيم يعرف نوعا من التغيير. ولتسليط الضوء على هذه النقط، في ما يلي تقييم للخطوات الثلاث المحتملة التي يمكن أن تقوم بها جماعة العدل والإحسان: المصالحة مع القصر والحصول على الاعتراف، انتظار مرحلة النضج والاستمرار كطرف غير مشارك، او التعاون مع باقي المجموعات السياسية المهمشة. المصالحة مع القصر الدائرة السياسية للجماعة يتزعمها عبد الوهاب المتوكل، وبشكل غير معلن، نائب الأمين العام فتح الله أرسلان، الذي يبدو وكأنه يؤسس للاستقلال عن الدائرة الدينية، في خطوة شبيهة بالفصل بين حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح. ورغم ما يبدو على أنه غياب للديمقراطية الداخلية، فإن جماعة العدل والإحسان تتوفر على الوسائل الاستراتيجية والتنظيمية للسي قدما في عملية تشكيل جناحين سياسي وآخر ديني. واختيار أرسلان، وهو شخص ذو علاقات ومعروف وخبير سياسيا، لمنصب نائب الأمين العام، يحمل إشارة ثمة نية وراء اختيار قادة بارزين. ومؤخرا، بدا أطراف من الدائرة السياسية للجماعة أكثر ميلا مما سبق لتبني عناصر الاستراتيجية السياسية الحديثة، بما في ذلك الحملات، الشعبوية والتفاوض مع المخزن، مع السماح للدائرة الدينية بالاستمرار في الدفع بمهمة الشيخ ياسين المتمثلة في الدعوة والتربية في اتجاه أسلمة المسار الديمقراطي للمغرب. ويعيد هذا السيناريو إلى الأذهان الدينامية التي اشتغل بها حزب العدالة والتنمية في تعامله مع حركة التوحيد والإصلاح. عندما تم طرح السؤال حول هذه الإمكانية بالذات على فتح الله أرسلان، أحال هذا الأخير على "الضرورة المزدوجة" في مرحلة الشيخ ياسين، حيث يتوجب على جناح السياسة العمومية (الضرورة المادية) الاشتغال في ارتباط مع الجناح الديني (الضرورة الروحية). غير أن الفصل بين الضرورتين ستكون له أضرار، حسب أرسلان، فمواقفه ضد المشاركة السياسية تستدعي في الغالب المفاوضات قبل المصافحة أكثر مما تمثل إيديولوجية ثابتة. وهذا الموقف يقوم من مواقف الشيخ ياسين، التي تقول إن المشاركة السياسية قد تنبعث فقط من الاستعداد المجتمعي (النضج)، والظروف العامة التي يعيشها الإسلاميون، وليست طبيعة السلوك الديمقراطي للقصر.
انتظار أوقات أفضل ترفض الدائرة السياسية الكشف عن أوراقها. الجماعة متخوفة من فقدان نفوذها والظهور بموقف هش أمام المخزن. زعماؤها بالخطر الذي يحدق بمصير الأحزاب التي تم استقطابها مؤخرا، لذلك فهم يناورون لكي لا يكشفون للملك التنازلات التي يودون بالفعل تقديمها في هذه المرحلة. رفض الجماعة الاعتراف بالملك ظل رمزا لعدم قابليتها "للاستقطاب"، وإشارة لاستراتيجيتها القوية المبنية على الإيديولوجية والتي عززت مصداقيتها ومنحتها دعم المواطنين المغاربة المحبطين، بمن فيهم الفقراء. وتكتسب الجماعة تأثيرها من قدرتها على الوصول إلى المواطنين والتواصل معهم والدعوة إلى الاحتجاجات واتخاذ المواقف. وفي بداية التسعينات، أي تقريبا في نفس الوقت الذي انضم فيه الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال للمشهد السياسي، وكانت فيه محاولات استمالة العدالة والتنمية، عرض القصر على الشيخ ياسين الاعتراف بالملك أميرا للمؤمنين، لكن الجماعة رفضت. وإذا أخذت بعين الاعتبار التراجعات المسجلة إقليميا في تأثير الجماعات الإسلامية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، سيكون من غير المرجح أن تختار الجماعة هذه الظرفية للصعود للمركب السياسي. كما أن قرار التخلي عن المشاركة من شأنه التأثير على طبيعة عضوية الجماعة وتأثيرها حيث لن يكون ثمة وضوح لدعمها. لكن السؤال الذي يظل مطروحا هو: إلى متى؟ ومن المبادئ الأخرى التي تدفع في اتجاه الانتظار هناك مبدأ "القومة" أو المقاومة، وهو مبدأ متجذر في التنظيم الثقافي للجماعة. والشعور السائد هو أن الاضطرابات المجتمعية مستقبلا ستقدم منافذ يمكن أن تسلكها الجماعة. ومبدأ القومة يبرر المشاركة مع باقي المجموعات ذات التصورات المختلفة إن كانت الأهداف تبرر الوسائل، كما حدث عندما انضمت الجماعة إلى حركة 20 فبراير، إذ من المتوقع أن تستغل الجماعة مستقبلا فرصا مشابهة والسعي نحو السلطة. السعي وراء تحالفات استراتيجية الخيار الثالث، المطروح على المدى القصير، أمام جماعة العدل والإحسان يتمثل في الاستمرار في الابتعاد عن الحقل السياسي وترميم الصفوف بهدوء ضد القصر. وتنظيم من هذا القبيل، حسب ما تروجه الشائعات، قد يشمل الدفع في اتجاه التقرب مجددا من الحركات الأكثر علمانية ومناهضة للمخزن كحركة 20 فبراير، وذلك بهدف تعزيز قوة الجانبين مع مرور الوقت. وكان هذا التحالف قد طرح تحديا صعبا أمام المخزن. ومع انسحاب الإسلاميين، اعتبر الكثيرون أن حركة 20 فبراير فقدت وهجها. لذلك المخزن يرى في الجماعة تهديدا أكبر إذا كانت متحدة مع مجموعات أخرى أكثر مما إذا تركها تتطور لوحدها. وقد يكون حزب العدالة والتنمية حليفا محتملا للجماعة الضخمة عدديا، رغم أن العدل والإحسان تفضل فكرة الحوار أكثر على أن يكون لديها حليف وحيد. كما أن ثمة نقاشات تشير إلى إمكانية حدوث سيناريو ديقراطي لتحالفات علمانية - إسلامية من شأنها تفادي فشل التجربتين المصرية والتونسية. وحسب أرسلان، فإن "القيم المشتركة كالعدالة الاجتماعية" توحد جماعة العدل والإحسان مع المجموعات العلمانية، والجماعة أبدت مؤخرا سلوكا تصالحيا مع نظرائها في حركة 20 فبراير. ويرى المتتبعون أن الإسلاميين واليساريين قد يتجهون نحو الاتفاق، ولو مؤقتا على الأقل، لكون الطرفين يعيشان نفس الواقع المجتمعي. كيف ستتصرف واشنطن مع مستقبل العلاقة بين القصر والجماعة قبل الحديث عن الكيفية التي يمكن أن تتعامل بها الولاياتالمتحدة مع جماعة العدل والإحسان والشأن السياسي المغربي بصفة عامة، لا بد من أخذ مجموعة من المعطيات بعين الاعتبار: أولا، المغرب يعتبر حليفا مميزا لأمريكا، إذ ثمة تعاون على مستوى مجهودات مكافحة الإرهاب، وتربط البلدين اتفاقية تجارية، كما أن الرباط تعمل على تطوير علاقتها بدول غرب الساحل المهددة مثل مالي، النيجر والطوغو، وموقف المغرب إيجابي من مسلسل السلام الإسرائيلي - الفلسطيني، والبلد يتميز بالاستقرار مقاربة مع جيرانه. وفي الوقت الذي تتعرض فيه مصالح أمريكا للخطر وتتخذ فيه العديد من دول الشرق الأوسط خطوات مثيرة للقلق أو حتى عنيفة، يتعين على صناع السياسة الأمريكية الحذر في التعامل مع "النصيحة الودية" التي سيتم تقديمها والتي قد تكون لها عواقب غير محسوبة سواء على القصر أو على العلاقات الأمريكية - المغربية. ثانيا، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن ثمة نقطا مبهمة بشأن مستقبل جماعة العدل والإحسان كتنظيم. والتطورات المستقبلية قد توضح النقاش بخصوص إمكانية وصول "الإسلاميين" كمعتدلين إلى السلطة، علما أن مصطلح "الاعتدال" يمكن تعريفه بعدة مفاهيم. واستمالة حزب العدالة والتنمية والسلوك الذي تنهجه الجماعة مؤخرا معطيات توضح أن الإسلاميين يمكن فعلا أن "يعتدلوا" للحصول على مكاسب سياسية. أما بالنسبة للنظام المغربي، فالخطوة الأفضل تتمثل في التسوية والإدماج. واختيار الجماعة البقاء على الهامش لن يزيد إلا في غموض العلاقة مع النظام. الخيارات السياسية المطروحة أمام واشنطن بإمكان الولاياتالمتحدة، بل يتعين عليها، القيام بشيء ما للتأثير على القرارات الداخلية لجماعة العدل والإحسان، أو تكثيف مجهوداتها للدفع في اتجاه المصالحة بين الجماعة والقصر. وبالنظر إلى أسس السياسة الخارجية في المغرب والغموض الذي يلف توجه الجماعة، فإنه يتعين على واشنطن السعي وراء الخيارات المبنية فقط على الوضوح بخصوص الخطوات القادمة للجماعة والمرتبطة إجمالا بالحكامة والتنمية، وفي هذا الإطار لابد من أخذ هذه الخيارات بعين الاعتبار: يتعين على الولاياتالمتحدة الترحيب بإمكانية المصالحة بين القصر والجماعة، وإدماج الجماعة في النظام السياسي. فعدم رغبة الجماعة في الاعتدال سياسيا والتفاوض ليس سوى ردة فعل على الإكراهات السياسية والمجتمعية، وليس انعكاسا للأصولية الدينية. وفي هذا الإطار، فإن تعبير القصر عن انفتاحه وقبول ضم الأطراف التي لا تنهج العنف قد يحفز الجماعة على الاعتدال سياسيا. ورغم أن بعض الإسلاميين قد يكونون متحفظين في هذه المقاربة للدين، إلا أن هذه الأصولية لا تمتد بالضرورة لتؤثر على السلوك السياسي، وهو ما تأكد مع حزب العدالة والتنمية. وقد تفيد الجماعة في التصدي لتأثيرات الإسلاميين في الخارج، والتي تدخل المغرب عبر "الدعوة التلفزيونية"، حيث أن دروس الشيخ يوسف القرضاوي وعمر خالد لها نفس شهرة، إن لم تكن أكثر، من شهرة الشيخ ياسين. تشجيع الإصلاحات الدستورية التي تمهد الطريق لإدماج حقيقي. فالخطوة الرمزية لضم معظم أكبر قوة إسلامية للمشهد السياسي لا يمكن أن تتحقق بالكامل إلا إذا كانت الإصلاحات، في بعض مستوياتها، تمنح البرلمان المزيد من السلط. لأن جماعة العدل والإحسان شاهدت مسار حزب العدالة والتنمية، وشعرت بالإحباط والنفور، وترفض وضع حد لمعارضتها للقصر. وفي الوقت الراهن، يمكن للملك حل الحكومة والبرلمان، وله أن يمارس سلطة التشريع في غياب البرلمان. ومحاولة ضم الجماعة إلى برلمان بدون سلطة، قد يضر بمستقبل اعتدالها سياسيا، بل وقد يزيد من معاداتها للنظام والعودة مجددا لمواقفها العدائية. وعلى هذا المستوى، يمكن لواشنطن العمل على تشجيع التنظيمات التي تشجع على تطوير الديمقراطية، من قبيل "المعهد القومي الديمقراطي" و"المعهد الجمهوري الدولي" وغيرها، من أجل العمل مع الأحزاب المغربية وحتى مع النظام. وبما أن الفصل التام بين السلط بين القصر، والبرلمان والقضاء بعيد المنال في الوقت الراهن، فإنه يتعين على الولاياتالمتحدة الاستمرار في الضغط على الحكومة المغربية لمنح المزيد من الاستقلالية للقضاء. تشجيع الحكومة المغربية ومساعدتها على تحسين الخدمات، خصوصا في الأحياء الفقيرة في الحواضر. فجزء كبير من الشرعية والوصول إلى الناس وقوة التفاوض اكتسبها العديد من المجموعات كجماعة العدل والإحسان من تقديمها خدمات اجتماعية للمحتاجين، بعيدا عن مواقفها السياسية والفكرية. ومن بين عناصر قدرة الجماعة على الانتشار في أوساط المواطنين الفقراء، وإفشال رغبة الدولة في قمعها، عملها على سد الفجوة التي تركتها الدولة في توفير الخدمات. وبإمكان الولاياتالمتحدة دعم قدرة المغرب على التنافس في هذا الإطار، إذ من شأن ذلك أن يكون وسيلة هادئة وأكثر نجاعة في التصدي لأنشطة جماعة العدل والإحسان. وكما سبق ذكره، فالحكومة المغربية وسعت فعلا من حجم مصاريفها على الشؤون الدينية لمواجهة انتشار العدل والإحسان والسلفية، لكن الجانب الروحي ليس وحده سر الانجذاب نحو الجماعة. وختاما، يمكن القول إن جماعة العدل والإحسان، التنظيم الذي يحظى بالشعبية ويثير قلقا كبيرا للنظام المغربي، وصلت لمفترق الطرق. وعلى المغاربة استغلال هذه الفرصة، على الولاياتالمتحدة أيضا اعتمادا الوسائل الهادئة المتاحة لها لتقديم المساعدة حيثما استطاعت.