قبل أن نتطرق إلى موضوع العدالة الاجتماعية و إشكالية توزيع الثروات، نعتبر في البداية أنه من الواجب معرفة المرجعية القانونية و الفلسفية، حتى نتعرف على مستويات الإلزام المختلفة في القواعد الآمرة. و إذا ما ابتدأنا براولز في المعالجة، فلأنه فيلسوف السياسة و فيلسوف القانون الذي لا يعالج توزيع الخيرات معالجة أخلاقية غير ملزمة، بل يحاول أن يعود إلى ما تقتضيه القاعدة القانونية في ذلك، حرصا منه على تجنب الشطط في استعمال المصطلحات الاجتماعية وعلى إخضاع مفهوم العدالة الاجتماعية لمعالجة قانونية أصبح معها في ذهن بعض فلاسفة القانون يقع خارج المنظومة القانونية. يعتبر كثير من الفقهاء أن العدالة الاجتماعية مفهوم اجتماعي ملتبس، وليس مفهوما قانونيا واضحا، بينما يجد له بعض الفلاسفة سنداً قوياً داخل المنظومة القانونية ذاتها خارج الإطار المعياري و القبلي و الكلي الذي تحتمله القاعدة القانونية. الدولة القانونية و الدولة الاجتماعية إن الفلسفة السياسية التي دعا إليها جون راولز قد لقيت اهتماما متزايدا، بحكم أنها أقامت توازنا بين السيادة الوطنية و متطلبات حقوق الإنسان. فقد اقترن لديها احترام الحقوق الأساسية بوضع مؤسسات عادلة، بفضل اللجوء إلى افتراض حجاب الجهل. وقد كان حريصا آنذاك على مراعاة الفصل بين المرجعية المعيارية و الصورية للقاعدة القانونية و بين المضامين الثقافية التي تحتملها القيم الاجتماعية و الأخلاقية. و بذلك، نجد لديه فصلا واضحا بين دولة القانون و الدولة الاجتماعية، كما نظّر لها فون كلايست و غيره في النصف الأول من القرن التاسع عشر. و عليه، كان الهدف الذي وضعه راولز ليس هو وضع «الدولة الاجتماعية» Sozialstaat، و هو تصور سياسي و اقتصادي كان حاضرا بقوة لدى فقهاء القانون المتأثرين بالفلسفة الماركسية خلال القرن التاسع عشر. لم يكن الهدف من وجود الدولة يقتصر على ضمان التوازن بين مختلف المؤسسات القانونية و ممارسة التحكيم، بل كانت الدولة مطالبة بوضع قوانين تنتقل من ضمان الحقوق الأساسية إلى ضمان الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية. وقد ظهرت الحاجة إلى الانتقال من مفهوم دولة الحق و القانون إلى الدولة الاجتماعية بعد ظهور نظريات الحق الطبيعي داخل فلسفة الأنوار. فقد شرع كريستيان فولف (1679 -1754) Wolff، و هو تلميذ ليبنتز (1646 - 1616) في نشر كتابه المؤلف من ثمانية مجلدات حول «الحق الطبيعي « Ius naturae » داخل فرنسا، و كان قد أضاف الحقوق الاقتصادية إلى الحقوق الطبيعية الأساسية. فقد كان فولف قد خلع على الحق الطبيعي طابعا نسقيا، و وضع بذلك بنوداً تستوفي مجمل الحقوق الطبيعية الأساسية، و أضاف إليها الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية، ضمن لائحة طويلة من الحقوق التي تذكّرنا اليوم باللوائح التي تتضمنها الاتفاقيات الدولية في هذا الشأن. و لكن لوائح الحقوق أصبحت تتناسل لدى فولف، كما تتوالد الواحدة من الأخرى، إلى درجة تحوّلت معه المطالب الاجتماعيّة المعتادة إلى حقّ أساسيّ، و ظهرت في صور مبتذلة ينعدم فيها تمييز الحقوق عن الواجبات. فضلا عن ذلك، لا ينبغي لنا إهمال الإطار السياسي الذي طالما ما حوّل مطلب العدالة الاجتماعية إلى حقّ من ورائه باطل. و هذا ما انتبه إليه كانط، حينما اعتبر أنّ أعظم استبداد سياسيّ هو الذي يقوم على مبدأ أن الحاكم يُسعد الشعب و يسعى إلى صلاحه و يسدي إليه الخير العميم، على نحو الخيرالذي يسديه الأب الحنون إلى أبنائه، و الخير الذي يسديه الراعي إلى رعيته». ( (Kant : Rechtslehre. Schriften zur Rechtsphilosophie, Akademoe-Verlag, 1988, 579) . و قد ذكر ناشر كتاب كانط «نظرية القانون» هيرمان كلينر كيف كانت الدولة البروسية على عهد كانط تشتكي بصورة دائمة و مستمرة، جهرا و فعليا، من مظاهر القصور لدى الرعية. و معنى ذلك حسب كانط أن الرعية «كانت عاجزة عن التمييز على وجه الحقيقة بين ما يضرّها و ما ينفعها، و هو ما جعلها ملزمةً بالتصرف بصورةٍ سلبيةٍ، لتنتظر من السلطة العليا معرفة ما هو وجه السعادة الذي يتوجب عليها تحصيلها.» (كانط، 579) . و لا يخفى علينا أنّنا حينما نجعل «السعادة» نفسها من بين الحقوق الطبيعية التي نطالب بها الدولة و المجتمع، قد نوسع هامش الشطط و نتجاوز الإطار المعياري الصارم للقانون، بما أن دور القانون هو أن يزجر كل من يتدخل بالعنف في الحريات الفردية، و منها حرية فهم معنى السعادة. و قد كان توسيع الحقوق الأساسية لدى كريستيان فولف لتشمل كلّ الحقوق الممكنة مدخلا إلى الشطط في استعمال السلطة. يذكر هيرمان برينر كيف أن فولف أخضع سعادة الرعايا لمسؤولية الدولة و كيف أنه جعلها ضمن سلطة وصاية الدولة و كيف أنه بارك فلسفياً تفويض السلطة «الأبوية» حق التكلم باسم الرعايا. يقول فولف: «بما أن العيش الكريم يتجسّد في تسلسل سلسلة من الكمالات، فإننا ننتقل بموجبها من كمال إلى كمال آخر، و عليه، يُعتبر الخير الأسمى هو ما يسعى سائر البشر فوق البسيطة إلى أن يصلوا إليه، و ما دام الأمر كذلك، فإن أولئك الذين يسهرون على الحياة الكريمة المشتركة يسعون إلى إسعاد باقي الناس داخل الحياة المشتركة. و بناءً على ذلك، فإن الأشخاص الحاكمين الذي يفعلون ما تمليه عليه وظيفتهم متلهفون إلى إسعاد الرعايا.» (فولف: أفكار عقلانية حول الحياة الاجتماعية، و الحياة العامة بوجه خاص، من أجل الارتقاء بسعادة الجنس البشري؛ راجع كتاب كانط، 579 - 580) . إذا جاز لنا التعبير عن التحفظ حول دور الدولة الاجتماعية في الوصول إلى السعادة و طرق الوصول إليها، نعتبر أن الخوض في ذلك يتطلب في البداية الحرص على التنزيل الحقوقي للدستور. نجد أنفسنا اليوم أمام تحدّي استكمال مقتضيات دستور المملكة 2011، من خلال استكمال القوانين المنظمة للمؤسسات الدستورية و وضع القوانين التنظيمية لبنود الدستور، أملا في تيسير المناقشة القانونية لإشكاليات عويصة من قبيل العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات. العدالة الاجتماعية و مفهوم الدولة الاجتماعية احتار فقهاء القانون الذين يلتزمون حدود الإطار القانوني الصارم في فهم المغزى من وجود مصطلح الدولة الاجتماعية، مع أن إطار دولة القانون كافٍ برأيهم لمناقشة مسألة العدالة، بعيداً عن الشطط في استعمال الألفاظ: ما هو المغزى من وجود الدولة الاجتماعية؟ هل هو أن تسهر على حسن تطبيق القانون، بما هو جملة من القوانين المعيارية التي تحدّد ما يجب أن يكون؟ أم أنه من واجبها تحديد مضمون العدالة الاجتماعية justice sociale؟ هل من الواجب على الدولة أن تضع القوانين التي تكفل مبدأ تكافؤ الفرص و المساواة و قواعد المنافسة الشريفة لا غير (حالما توافرت بعض هذه المجالس المتصلة بالمنافسة و محاربة الرشوة و حماية المال العام، الخ.. على سلطة تقريرية)؟ أم يجب عليها أن تنتقل من مبدأ المساواة أمام القانون(و هي مساواة لا تستبعد عدم المساواة أمام البشر) إلى تجاوز المساواة الصورية، و إلى توفير مبدأ المساواة في الدخل و القدرات و المهارات، كلّ حسب حاجته و كلّ حسب عمله؟ يعتبر كثير من فقهاء القانون اليوم أنّنا نحتاج إلى التريث في معالجة مفهوم العدالة الاجتماعية ريثما تستوفي المؤسسات الدستورية الاضطلاع بمهامها، و بناءً على وجوب التمييز بين الإطار القانوني المعياري و القبلي الذي لا يفترض حضور هذا المفهوم بمضمونه الثقافي المتباين و بين النظريات الاجتماعية التي تتفرق طوائف و شيعا في تعريف هذا المفهوم. فالإطار القانوني ينصّ على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق و الواجبات، و لكنه لا يشير بصورة قبلية إلى طرق تدارك الفروق الاجتماعية و لا إلى سبل توزيع الثروات الاجتماعية. و قد كانت هذه الاعتبارات القانونية قد وجّهت راولز و فلسفته السياسية في الاتجاه الذي يراعي فيه جملة من الحقوق الأساسية، دون أن يلغي الفروق الجوهرية القائمة بين دولة الحق و القانون من جهة و الدولة الاجتماعية من جهة ثانية. فقد اقترح راولز لائحة من الحقوق الأساسية: و هي الحق في الحياة (و هو حقّ ضروريّ من أجل البقاء و الشعور بالأمان) و الحق في الحرية (من العبودية و من السخرة)؛ و أضاف قدراً كافياً من حرية الضمير و المعتقد و الملكية (الفردية) و المساواة الصورية، كما تظهر من خلال الإنصاف (و هي أن نعامل مع حالات مماثلة معاملة مماثلة). و قد افترض راولز أن تطبيق مبدأ المساواة يفضي إلى إنصاف الفئات الأكثر هشاشة، حتى تستفيد من خيرات المجتمع. من عدالة المؤسسات إلى حقوق الإنسان و عدالة الأفراد يتبيّن أن تصور راولز معقول و مفيد، خاصّة بالنسبة للدول التي لا تزال في طور مسلسل الانتقال الديمقراطي، و هي دول تحتاج في البداية إلى وضع مؤسسات دستورية قوية تقوم على مبدأ المساواة و العدالة. غير أن مظاهر قصور التصور الليبرالي الجديد قد ظهرت بجلاء حينما ركّزت بصورة متعاظمة و غير متوازنة على عدالة المؤسسات، كما لو أن الوجود المعياري للقوانين داخل «دولة الحق و القانون» تعويض كامل عن تحققها الواقعي. يعتبر هذا التصور أن تحقيق العدالة يقترن بوجود مؤسسات قوية تضمن تطبيق العدالة، كلّ من زاوية اختصاصه. و الحق أن وجود المؤسسات الدستورية، و التوقيع على الاتفاقيات الدولية، شرط ضروري دون أن يشكل شرطاً كافياً يضمن بحدّ ذاته تطبيق العدالة بصورة منصفة. فإذا كان راولز يؤكد على الحق في الحرية كحقّ أساسي، و هو حقّ يضمنه قانون الحريات العامة، فإنّ الحرية لا تقتصر على مضمون الحريات المدنية و السياسية. و بذلك، نجد أنفسنا في مواجهة التصور الليبرالي الذي يجمع بين دفتيه، دون أن يشعر بأدنى تناقض، بين المساواة القانونية و الظلم الاقتصادي. و عليه، تجمع الجمعيات الحقوقية على القول إن الحقوق كلّ لا يتجزأ، سواء كانت مدنية و سياسية أو ثقافية و اقتصادية، و سواء تعلق الأمر بالمناصفة أو بالحق في الشغل أو بالحريات النقابية أو بحقوق الطفل أو بالحق في الحياة الكريمة أو بالحق في الصحة أو في التقدم العلمي. لكن هذه الحقوق تظل شروطا دنيا، لم تطبق دوما و في جميع الأنحاء تطبيقا مُرضيا يُقدر المرء على التمتع بحريته الكاملة. كما أنّ هذه الجمعيات الحقوقية لا تتفق فيما بينها بصورةٍ واحدةٍ على طريقة ترجمة هذه الحقوق إلى واقع. فقد يضمن الحق في الشغل بالنسبة للبعض تكافؤ الفرص بين المتبارين على منصب معيّن، و قد يفرض بالنسبة للبعض الآخر على الدولة واجب توفير منصب عمل. في حين يركز المنظور الأول على الطابع المبدئي في فهم صيغة « و تعمل الدولة..» يعتبر البعض الآخر أن الحق يحتمل طابع الإلزام. «عندما يفكر الماركسي في الحق في الشغل و في الحصول على عمل مناسب، يفكر بصورة مختلفة عن تفكير الليبرالي. «1 وعليه يظل السؤال قائما، بخصوص ما إذا كانت البطالة، و بطالة الخريجين المغاربة انتهاكا لحق من الحقوق الأساسية. و الحقّ أنّ من يثير مسألة انتهاك حقّ أساسي لا ينظر إلى المسألة من منظور فقيه القانون، بل من زاوية الفاعل الحقوقي. فإذا كان العاطل لا يتوفر على دخل و لا يتلقى تعويضا ماديا أدنى على فقدان الشغل، فإن البطالة قد تؤثر مباشرة على حضور روح المبادرة لديه، و على حقه في الاختيار بين بدائل مختلفة، دون أن يقع تحت ضغط أحد، بما أن الحرية لا تعني شيئا آخر غير: حرية الاختيار: (choice )و الاقتدار((Capacity و توفير الظروف المناسبة ( (Opportunity 2 . و قد ألمح برلين Isaiah Berlin إلى ذلك بقوله «إن المغزى من الحرية، الذي استعمل بمقتضاه هذه المفردة، لا يتضمن ببساطة غياب الشعور بالإحباط، بل يتضمن غياب المعوقات على طريق الأفعال الاختيارية الممكنة و الأنشطة التي أقوم بها و غياب عوائق تمنعني من الاستمرار في الطريق بكل إصرار.» 3 و هكذا، نعتبر أنّ الاستفادة من الحرية تحتمل مستويات متعدّدة و متفاوتة. نتساءل خارج المنظور القانوني الصرف: كيف يجوز للمرء أن يصبح قادرا على القيام بالاختيار المناسب بين أحزاب مختلفة إذا كان أميا لا يعرف القراءة و الكتابة؟ و أنّى للمعوق أن يشعر بالحرية، حتى و لو كان يشعر بها شعوراً صوفياً وجدانياً، إذا كان عاجزاً عن التنقل و لم يستفد من كرسيّ متحرك؟ وهل بمقدور الطفل أن يلتحق بالمدرسة إذا ما كانت المسالك إليها وعرة؟ يتطلب التمتع بالحرية الفعلية (بعيدا عن الشعور الوجداني بها) ضمان وسائل التمتع بالحرية: و من بينها التعليم للأمي و الكرسي المتحرك للمعوق و شبكة الطرق لتلاميذ القرى النائية. لا يكفي تحصيل المنظور القانوني الخالص للعدالة، ما دام يفتقر إلى الوسائل الاقتصادية لتحقيق استقلالية الإنسان في رأيه (التعليم) و في حركته (المعوق) و في تحقيق الأهداف (سبل الولوج). إن الطريق إلى مناقشة مبدأ توزيع الثروات يتطلب منا في البداية أن نبرز أن الهدف منها هو ضمان الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية الأساسية كمدخل إلى كرامة المرء، كما تتجسد في الاستقلال الذاتي و الرضا عن الذات. الكرامة و الرضا عن الذات وتنمية القدرات كان زاولز على وعي بأهمية توزيع الثروات من زاوية تكريس الحريات الفردية، و اعتبر أن الحرية تتحقق بفضل حيازة الخيرات الأساسية مثل الدخل و الملكية الفردية و السلطة و امتيازات الوظيفة و الأساس الاجتماعي للشعور بالرضا عن الذات. غير أن راولز ظل متمسكاً بالمنظور المؤسساتي الذي تخلى عنه تلميذه سين Sen . فقد تجاوز أمارتيا سين أستاذه راولز و اقترح تعويض مبدأ العدالة التوزيعية بمبدأ الإقدار capability . بعدما ركز راولز على المعيار المالي monétaire في تحديد الإنصاف الاقتصادي، اعتبر سين أن المعيار المادي ليس هدفا بحدّ ذاته، و لكنه مجرّد أداة لتطوير القدرات و المهارات الذاتية، حتى يشعر المرء بالرضا عن الذات و هو صلب الرأسمال البشري. إذا ما افترضنا أن شخصا ثريا أصيب بمرض عضال، لن تنفعه ثروته في العلاج، و آنذاك سيحتاج إلى وضع أولويات جديدة، و منها ألا يشعر المريض بالمهانة أمام المرض، و أن يستفيد من التضامن الاجتماعي و من مشاعر المواساة، مع الحفاظ على قدراته الذهنية و حب الحياة و رضاه عن ذاته. إذا ما نظرنا إلى توزيع الثروات بصورة إجمالية، نعيد آنذاك فهم المعيار المالي في ضوء الأهداف الاجتماعية المرسومة، و منها الحفاظ على كرامة المريض و المعوق و العاجز و العاطل. والأمل هو أن يشعر كلّ هؤلاء بإيجابيات الحياة في صورتها الكيفية، بدل أن نكتفي باحتساب معطيات مالية خالصة، سعياً إلى مراكمة مظاهر الغنى، بدل تنمية قدرات و مهارات يساهم من خلالها المرء في تنمية محيطه القريب و البعيد. اختلاف المرجعيات الثقافية في فهم برنامج الألفية إن المنتظم الدولي في أفق سنة 2000م قد سعى إلى ردم الهوة القائمة بين دولة الحق و القانون و الدولة الاجتماعية بفضل اقتراح مشروع الألفية. و قد وضع هذا المشروع لائحة تتضمن المعوقات الاجتماعية الكبرى التي ينبغي القضاء عليها مثل الأمراض الفتاكة و الأوبئة و الأمية و الفقر و نقص التغذية، و الفقر المدقع، و ما إلى ذلك. و قد وضعت الأممالمتحدة مؤشرات تضبط من خلالها الحدّ الأدنى للفقر، في حدود دولار أو ما يتجاوزه بقليل يومياً، و حدّدت معنى الأمية، و ما إلى ذلك. غير أنّ هذه المعايير الغربية قد أبرزت حدود نجاعتها حينما طبّقت بصورة عمياء على الآفات الاجتماعية التي تعرفها دول العالم الثالث. فقد انتبه الباحثون الذين ينتمون في الغالب إلى دول العالم الثالث إلى ضعف هذه المنظومة الدولية و إلى استمرار هاجس الهيمنة الغربية تحت ستار مساعدة العالم الثالث، و إلى تقاعس أنظمة ما بعد الاستعمار عن إشراك الباحثين المحليين في إعادة صياغة المعايير الغربية للفقر و الأمية و الصحة و السعادة و ما إلى ذلك، من زاوية التنبيه النقدي إلى أهمية الرأسمال البشري في العالم الثالث و إلى مخاطر هجرة الأدمغة إلى العالم المتقدم. أضف إلى ذلك أن مخططات المساعدات الدولية و برامج التنمية الاجتماعية الموجهة إلى مختلف دول العالم الثالث تنبني على المرجعية الفردانية الخالصة لهذه المفاهيم داخل الفكر الغربي. فالتضامن الأسري و استمرار نموذج الأسرة الممتدة داخل المغرب يضع علامة استفهام على وضع حاجز الفقر في دولار أو ما يتجاوزه بقليل، كما أن معضلة الأمية تتجاوز معضلة القراءة و الكتابة. ذلك أن آفة الأمية لا تتطابق في ذهن كثير من المغاربة مع الجهل و الغباء و غياب المشاركة السياسية و الاقتصادية. خاتمة يتطلب تطبيق برنامج الألفية على المستوى المحلي تبييء البرنامج و ترجمة أفضل للمؤشرات المالية الخالصة في ضوء الخصوصيات الثقافية المحلية. فالرأسمال الإجمالي يتجاوز المعطيات الرقمية التي يوفرها المنتظم الدولي، كما أن توزيع الثروات يتطلب الاستفادة من الخيرات الأساسية، كما ذكر راولز ذلك، لكنها خيرات تتجاوز مطلب العدالة التوزيعية في صورتها المادية الخالصة. فهي تتضمن الحق في الرضا عن الذات و الشعور بالأهمية و تحقيق التأثير في المحيط الذي يتفق مع مسؤوليات الشخص و تكوينه. يهدف الغرب من خلال برنامج الألفية إلى مساعدة الدول الضعيفة بناءً على تصوره الغربي الخاص للمساعدة و لكيفية نقل التكنولوجيا التجارب الغربية، بينما نحتاج في العمق إلى تنمية القدرات الذاتية على الإبداع، و إلى قراءة نقدية للبرامج الدولية حتى لا نصل إلى أفق مسدود في فهم هذه البرامج و تطبيقها بصورة خاطئة على الواقع المغربي. هوامش 1- PFANNKUCHE, Walter : Der Begriff und der Umfang der Menschenrechte, in: DHUIB, Sarhan (Hsg): Kultur, Identität und Menschenrechte. Transkulturelle Perspektiven: Velbrück Wissenschaft, 2012, p. 17. 2 - TUGENDHAT, E. : Liberalism, Liberty and the Issue of Economic Human Rights, in: TUGENDHAT, E. : Philosophische Aufsätze: Suhrkamp, 1992. S. : 352-370, besonders S. 356. 3 - The sense of freedom, in which I use this term, entails not simply the absence of frustration but the absence of obstacles on roads along which a man can decide to walk. In: DWORKIN, Ronald: Taking Rights Seriously: Duckworth, [1977] 2009, S. 269