لا يمكن الحديث عن المسرح المغربي دون استحضار تجربة عميد المسرح المغربي الأستاذ عبد القادر البدوي، الذي يحتفل هذه السنة بالذكرى 67 لوقوفه على خشبة المسرح. عمر مسرحي مديد، قدم خلاله روائع وتحف مسرحية خالدة، لتجعل منه أحد الأضلاع الكبرى والدعامات الرئيسية للمسرح المغربي، الذي قدر له أن يعيش اليوم تراجعا كبيرا، بفعل غياب سياسة ثقافية، تجعل من أبي الفنون رافعة وقاطرة تجر وراءها باقي الأصناف الفنية. تجربة مسرح البدوي تعدت الحدود، ودخلت مناهج التعليم الأكاديمي في العديد من الجامعات المغربية، العربية و الدولية، تعززت بالتحاق أبناء الأستاذ عبد القادر البدوي بكل من مصر، بلجيكا و الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل الدراسة الأكاديمية الفنية المتخصصة فعادوا محملين بشواهد عليا و بتجارب فنية أخرى، تفاعلت مع فكر الأب عبد القادرالبدوي وانصهرت، فانعكست إيجابا على هذه التجربة الفنية الرائدة. ويصفه البعض بزعيم المسرح الثوري المغربي، والبعض الآخر أطلق عليه اسم بنبركة المسرحي، وفئة أخرى، ترى فيه مشاغبا، ومعارضا يجب الحذر منه، وتحجيمه. رجل بهذا الزخم وهذا العطاء، يستحق منا أن ننبش في ذاكرته، ونغوص معه في أحداث هذه السنوات الطويلة، لنكون فكرة عن ماضي وبالتالي عن واقع المسرح المغربي. من خلال هذه السلسلة الحوارية التي قررنا أن» نتطاول» فيها على ماضي وحاضر العميد عبد القادر البدوي. o في سنة 1964 سيتم اعتقالك بالمسرح البلدي، مباشرة بعد الانتهاء من عرض مسرحية العاطلون، كيف جاء ذلك؟ n قدمت مسرحية العاطلون سنة 1962، وعرضتها بمجموعة من المدن المغربية، غير أن العروض الكبرى كانت بمدينة الدارالبيضاء، حيث قدمناها بالمسرح الملكي وسينما أطلس وسينما السعادة، وكان الإقبال عليها كثيفا من طرف الجماهير . وفي هذه الفترة كنا نقدم عروضا للطلبة يومي الجمعة والسبت في الثالثة مساء وأضفنا أيضا يوم الأحد أمام الإقبال المتزايد للطلبة على العروض المسرحية. سيما وأن الطلبة في تلك السنوات كانوا مؤطرين سياسيا من طرف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والشبيبة الاتحادية والشبيبة الاستقلالية وبعض الإطارات السياسية والنقابية الأخرى، كما أن هذه المسرحية كانت تحمل أبعادا سياسية وأفكارا اجتماعية تفاعلت معها هذه الشريحة من الجمهور. وفي أحد أيام سنة 1964، قررنا عرض المسرحية لفائدة الطلبة بالمسرح البلدي، ونظرا للصدى الذي شاع لها في الوسط الطلابي، فإن تذاكر الدخول قد نفذت قبل يومين من موعد العرض. وفي الساعة الثانية بعد الزوال كانت القاعة مملوءة عن آخرها وظل الطلبة يتوافدون، حيث تجمعت فئة عريضة منهم، فاق عددها 4000 شخص، أمام المسرح، ليبادر مدير المسرح البلدي آنذاك،محمد موسى عفيفي، وهو بالمناسبة أول مدير مغربي يشرف على هذه المؤسسة، بعدما كان تسييرها حكرا على الفرنسيين، إلى طلب تعزيزات أمنية، لتفادي أي أحداث شغب. اعتقد رجال الأمن أن الجمهور لم يدخل بعد إلى القاعة، فأرادوا إيقاف العرض، غير أن مفاجأتهم الكبيرة كانت بعد أن وجدوا القاعة مملوءة عن آخرها. ورافق رجال الأمن شخص كان يدعى بنيس، وكان حينها مسؤولا بالعمالة، فأمرني لأن أوقف العرض. لكني رفضت وقلت له بأن يوقفه هو ويتحمل مسؤولية قراره اتجاه الطلبة. استشاروا مع بعضهم البعض، وقرروا حجز النص، فجلس بنيس رفقة بعض عناصر الأمن بالكواليس يتابعون سير المسرحية. تفاعل الحضور بشكل كبير مع أحداث العرض، وكان كل موقف مسرحي يشهد تصفيقا حارا من طرف الجماهير، التي كانت تضرب أيضا بأرجلها تفاعلا وانفعالا. وكان الوضع يزداد خطورة بالشرفة، نظرا لكونها كانت مصنوعة من الخشب، وكان التخوف كبيرا من أي انهيار أو سقوط في صفوف الطلبة. فطلبت من الممثلين أن يسردوا الحوار دون أي انفعال، حتى ننهي العرض دون خسائر. وبعد النهاية، بدأ الطلبة يرموننا بكتب ماو تسي تونغ، لأن تلك الفترة تزامنت مع انطلاق الثورة الثقافية في الصين. فجمع رجال الأمن تلك الكتب، وفاق عددها الثلاثين كتابا. o وماذا وقع بعد ذلك؟ n طلب مني رجال الأمن مرافقتهم على متن سيارة شرطة إلى مفوضية الأمن بالمعاريف. وكان المشهد أمام أعين الجماهير، التي توافدت على الباب الخلفي للمسرح من أجل تحيتنا، فرفعوا شعارات منددة بما حصل، وشاع الخبر في أوساط الدارالبيضاء. وبمخفر الشرطة تم استنطاقي، وطرحت علي أسئلة حول الدافع الذي يجعلني أهاجم الدولة والمسؤولين في مسرحياتي. بينت لهم أني جزء من هذا الوطن، وأتطلع لرؤيته في وضع أحسن وأرقى، وأدافع عن أفكاري على خشبة المسرح. وقدمت لهم عرضا حول المسرح وقيمته في نهضة الشعوب، وأن المسرح كان منذ العهد الإغريقي سياسيا. كما سئلت أيضا عمن يقف ورائي، فأجبتهم بأن هذه المواقف هي شخصية، وأنا مقتنع بها وسأظل أدافع عنها. وأني حينما أقدم العروض للطلبة، فبهدف نشر الفكر المسرحي، حيث أقدم لهم تذاكر العروض ويقبلون عليها بشكل كثيف، دون أن يقف أي تنظيم خلف العملية. وتحديتهم بأنهي مستعد للمحاكمة فورا إذا ما أثبتوا أني مدفوع من هيأة سياسية ما، وكل ما في الأمر أني أتعاطف مع بعض السياسيين المغاربة، لأنهم ساهموا في تحرر المغرب، وناضلوا من أجل عودة رمز الأمة، محمد الخامس وباقي الأسرة الملكية من المنفى. وقد استمر الاستنطاق أزيد من ثلاث ساعات، تشبثت فيها بمواقفي، ثم أطلقوا سراحي بعدها. وفي الغد توجهت إلى مقر العمالة من أجل استرداد النص، فرفض بنيس وطلب مني التوقف عن عرض المسرحية، وقال لي بأنه سيحتفظ بهذا النص كحجة ودليل على أنني أمارس مسرحا سياسيا يعارض النظام. وبقي هذا النص معتقلا بالعمالة لمدة ست سنوات، حيث استعدته عن طريق موظف محب لمسرح البدوي، وجده بالصدفة في أحد مكاتب العاملة فأعاده لي، ومازلت أحتفظ بهذه النسخة إلى الآن. o هل فعلا التزمت بأمر بنيس وتوقفت عن عرض المسرحية؟ n فعلا أوقفت المسرحية بعد هذا التهديد، وقمت بإنجاز عمل آخر، لأن مواصلة عرض العاطلون يعني الدخول في صراع مع السلطة. o لماذا اختار مسرح البدوي تقديم عروض خاصة بالطلبة، وبمقابل رمزي؟ n إن اختيار تقديم عروض خاصة بالطلبة كانت له غاية مهمة، تتجلى في الاستثمار في المستقبل عبر الانفتاح على أجيال الغد، وتمرير الخطاب بواسطة هذه الشريحة الصاعدة. فمن خلال دراستي لتاريخ المسرح تأكد لي بأن أساس الأمة هم الأطفال والطلبة، وبالتحديد الطلبة الجامعيون، الذين سيشكلون عصب المجتمع. وإذا ما قمنا باحتوائهم وأحسنا تأطيرهم، فإنهم سيكونون لا محالة في المستقبل سياسيون من الدرجة الأولى. وقد ارتأيت جعل المقابل رمزيا، لأن جل الطلبة هم أبناء الطبقة الشعبية، كما أنه قد يتوافد ثلاثة أفراد أو أربعة من الأسرة الواحدة، وبالتالي كان دخولهم لمشاهدة العروض دفعة واحدة يشكل عبئا بالنسبة لرب الأسرة، الذي سيكون مطالبا بأداء مقابل الدخول والنقل عبر الحافلة والأكل. وأمام هذا الإكراه قررنا أن نجعل الدخول إلى عروض الطلبة رمزيا، حيث لم يكن المقابل يتعدى درهمان أو ثلاثة. بل أكثر من هذا أن طلبة مدن المحمدية وبرشيد وسطات والجديدة كانوا يقبلون على عروضنا مساء الجمعة في رحلات جماعية عبر الحافلات. ولحجز مقاعدهم كانوا يتصلون بنا قبل 15 يوما عن موعد العرض. ومن هذه الفئة كان إدريس البصري، الذي ذكرني بعدما أصبح وزيرا في أحد لقاءاتي به، أنه كان يأتي رفقة الطلبة السطاتيين على متن الحافلات إلى مدينة الدارالبيضاء لمشاهدة عروضنا بالمسرح البلدي. وأضاف لي أنه حرص على مشاهدة عروضي حتى بعدما أصبح موظفا بالأمن الوطني. فقلت له على سبيل الدعابة، لهذا أصبحت وزيرا، لأن الوزير القوي يجب أن يكون ذا تكوين ثقافي ومسرحي. o في أي سنة بالضبط ترسخت لديك قناعة الانفتاح على الطلبة؟ n منذ سنة 1957 بدأت تراودني الفكرة، حيث لم أكن مقتنعا بالاكتفاء بعروض العموم، بل كنت دائما أسعى إلى الانفتاح على التلاميذ والطلبة. وما زاد في إيماني بهذه الفكرة هو نجاح عروض العمال، التي اقتديت فيها بتجربة جان فيلار، مؤسس المسرح الشعبي الفرنسي. حيث كنت اتفق مع المسؤولين النقابيين على تمكينهم من تذاكر الدخول، على أن يتم تسديد الواجب حال توصل العمال بمستحقاتهم من الشركة التي يعملون بها، فنجحت هذه المبادرة، وتمكنا بفضلها من خلق هامش جديد للاشتغال. وهنا أستحضر تجربة لي مع محمد الأبيض، الأمين العام الحالي لحزب الاتحاد الدستوري، والذي كان في مرحلة شبابه قد التحق بالفرقة حبا في المسرح، حيث لم يكن مولعا بالتمثيل، غير أنه كان عاشقا كبيرا للمسرح. وبعد أن أصبح مسؤولا عن الشؤون الاجتماعية بالمكتب الوطني للكهرباء، سأخلق معه شراكة تقضي بأن نقيم كل شهر جولة مسرحية ببعض المدن المغربية كالدارالبيضاءوالمحمدية وبني ملال والقنيطرة وفاس ومكناس وطنجة، وغيرها، حيث كان مسؤولو المكتب يهيئون لنا ظروف العروض، وبالدارالبيضاء نحصل على مستحقاتنا. وهذا عمل يشكر عليه الأستاذ مصطفى الأبيض، لأنه ابن الطبقة العاملة، وسعى إلى توعيتها عبر الانفتاح على المسرح، الذي أوصلناه حتى مناجم جرادة، والتي لم تكن بها قاعات للعروض المسرحية، غير أن التقنيين الروس، الذين تم التعاقد معهم لإنجاز مهام تقنية بهذه المناجم، ونظرا لكون روسيا (الاتحاد السوفياتي سابقا) توفر للعمال كل وسائل الراحة والترفيه، وفي مقدمتها المسارح، قاموا بإنشاء مسارح بمناجم الفحم بجرادة، والتي كانت في البداية مخصصة للأجانب، قبل أن يستغلها فيما بعد المسؤولون النقابيون، ويبرمجوا فيها عروضا فنية ومسرحية للعمال. o في سنة 1965 سترفض منصب مدير محطة التلفزة المغربية بالدارالبيضاء، لماذا؟ n كان المغرب يعيش حركية سياسية كبيرة، أعقبت سلسلة الاعتقالات والمحاكمات، وأيضا حالة الاستثناء التي دخلها المغرب. ففي سنة 1965 سيتسلم الطيب الصديقي مسؤولية أدارة المسرح البلدي، مقابل إقبار تجربة المسرح العمالي الذي تآمر عليه. وقد أصدرت الشبيبة العاملة آنذاك بيانا أذيع على أمواج الإذاعة الوطنية، أعلنت فيه طرد الطيب الصديقي من المسرح العمالي. وكمقابل لما قام به حينها، تسلم إدارة المسرح البلدي، بدعم من عبد الصمد الكنفاوي. o ماهي المخالفة التي قام بها الصديقي، والتي دفعت على طرده من الشبيبة العاملة؟ n لقد تخلى عن الفرقة ورفض مواصلة الاشتغال داخلها، وهو ما اعتبرته الشبيبة العاملة إخلالا منه بالتزاماته، وتواطؤا ملحوظا ضد المسرح العمالي. ولم يكن الطيب الصديقي المستفيد الوحيد، بل كان أيضا أحمد الطيب العلج، رحمه الله، الذي كان موظفا بالشبيبة والرياضة بسلم متواضع جدا، فأُلحِق بمسرح محمد الخامس، مسؤولا عن قسم الثقافة الشعبية، الذي كان قد أحدث في البداية لسيدة كانت مقربة من الدكتور الخطيب، وظل فارغا حتى نقل إليه العلج وبوضع إداري مريح. وفي هذه الفترة أيضا، سيتصل بي محمد بنسودة، الذي كان في البداية مناضلا بحزب الشورى والاستقلال، قبل أن يلتحق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وسيغادره هو الآخر ليصبح أحد رجالات الدولة. كان آنذاك مديرا عاما بالإذاعة والتفلزة. فاتصل بي هاتفيا وطلب مني أن آتي إلى مكتبه بالرباط. كانت لي معرفة جيدة ببنسودة، وقد تعرفت عليه قبل الاستقلال، قبل أن تتوطد علاقتي به عقب التحاقه بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الانتخابات الأولى، حيث دعمته رفقة فرقتي المسرحية في حملته الانتخابية. وبكل صراحة فقد كنت منبهرا بخطاباته التقدمية، التي كان يلقيها أمام الجماهير. بمجرد أن دخلت المكتب، قام بنسودة من مكانه وعانقني بقوة. اعتقدت حينها أن هذا العناق الحار هو تجسيد لتلك العلاقة، قبل أن يبادر بالقول: "أبشر .. لقد جاءتك البشرى". قلت له أي بشرى؟ فأجابني بأن جلالة الملك الحسن الثاني عين الطيب الصديقي مديرا بالمسرح البلدي وأحمد الطيب العلج بمسرح محمد الخامس، وعينك أنت أيضا مديرا عن المحطة الجهوية للإذاعة التلفزة المغربية بعين الشق. قلت له : أنا مدير لمحطة الدارالبيضاء؟ أجابني: نعم أنت، لأنك أهل لهذا المنصب. سكتت لبرهة، وبدت علي علامات الدهشة، ثم سألني من جديد، هل تفاجأت؟ فأجبته: تقريبا، ثم سألني: خذ وقتك في التفكير. قلت له: حينما كنت قادما إليك لم أكن أعتقد أنني سأعين مديرا لتلفزيون الدارالبيضاء. ورغم كل ما عانيته مع التلفزيون المغربي ومع المديرين السابقين، فإني أرفض هذا العرض، لأنني، وكما في علمكم، كنت عاملا بشركة التبغ، وكانت وضعيتي المادية جيدة للغاية، لكني آثرت مغادرة العمل والتفرغ للمسرح، وبالتالي فمن الصعب علي في هذه الفترة، وأنا بصدد بناء مسيرتي المسرحية، وأتحمل مسؤولية تسيير فرقة، أن أعود إلى الوظيفة، لأن المسؤولية المقترحة علي ستحولني إلى موزع للهاتف (ستاندار) وشخص مقيد وملزم بتنفيذ التعليمات، التي أكرهها كرها. ولهذا أطلب منك " السي بنسودة" أن تبلغ جلالة الملك شكري واعتذاري في نفس الآن، لأن مجرد التفكير في شخصي اعتبره وساما تقلدته على صدري. وطلبت منه أن يبلغ جلالة الملك بأن عبد القادر البدوي يتمنى أن يكون له مسرح خاص به، يقدم فيه عروضه المسرحية. نظر إلي بنسودة، وقال، سأمنحك مهلة إضافية لمدة 24 ساعة أخرى من أجل مزيد من التفكير والاستشارة مع العائلة. لكني أني حسمت الأمر في الحين، وكررت له اعتذاري. o بالإضافة إلى رفضك التقيد بضوابط الإدارة، ماهي الدوافع الأخرى التي جعلتك ترفض هذا المنصب؟ n مواقفي، لأني لم أكن راضيا بتاتا عما يقدم على شاشة التلفزة المغربية، وبالتالي كنت سأتنكر لمبادئي. حيث سأصبح مشاركا في ذلك الوضع المتردي الذي كان عليه التلفزيون المغربي، وأنا الذي كنت أكيل له الانتقاد. وهذا الرفض، لم تستسغه العائلة وبعض المقربين مني، حيث أن منهم من وصفني بالحمق، لكوني رفضت منصبا كبيرا، كان غيري يمكن أن يدفع مقابله الرشوة. وفتح علي مواجع مغادرة العمل بشركة التبغ من جديد.