ما يهمنا نحن في هذه «الحلقات الرمضانية» هو إلقاء بعض الضوء على «حياة محمد قبل النبوة»، وتحديدا على الفترة الممتدة ما بين زواجه من خديجة بنت خويلد ونزول الوحي؛ وهي مرحلة «مظلمة» تستغرق 15 سنة وتدخل بالمستطلع، حسب ما يراه الباحث سعيد السراج، «ظلاماً دامساً إلى حيث لايدري كيف يسير وإلى أين يمضي وماذا يلاقي، فهو لا يحس إلا بخشونة الريب إذا مد يده لامساً، ولا يسمع إلا زمجرة الشكوك إذا مد عنقه مصغياً». والسبب في ذلك أن محمدا لم يكن، عموما، قبل النبوة وقبل أن يشتهر أمره «إلا واحداً من قومه وعشيرته، فلا يهم الناس أمره ولا يعنيهم نقل أخباره ولا التحدث بها في بيوتهم ونواديهم.. لم يكن النبي محمد أول من رفض الخضوع والانحناء لأوثان قريش وأنصابها، ولم يكن أول من نظر إليها نظرة استهزاء ورفض وتحقير. بل سبقه إلى ذلك الحنيفيين، أصحاب "التجربة الدينية" التي قامت على استدعاء دين ابراهيم، مؤسس الكعبة، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه حقه النبي: " أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده". فقد أخرج البخاري أن "ابن عمر حدث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أنه لَقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل «بلدح»-وذلك قبل أن ينزل الوحي على النبي (صلَّى الله عليه وسلم) فقدم إليه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) سفرَةً فيها لحم. فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ. وأنتم تذبحونها على غير اسم الله -إنكاراً لذلك". ومن هنا يمكن أن يصح- يقول حمود حمود في مقال له بعنوان «عقل محمد الثيولوجي»- ما نلمسه واضحاً في رواية الكلبي (ت 204 ه) التي يؤكد فيها على لسان محمد حينما كان على دين شعبه من عبادة الأصنام قد أهدى لها النذور. نقرأ للكلبي: «وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها يوماً (آلهة العزى) فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي» (1). من وجهة نظره الظاهرية، لربما أدرك محمد بعد ذلك أخطائه الوثنية تلك (وهي ليست أخطاء في الواقع كما سنرى) بعد حين من الزمن، وخاصة في تناقضها مع توحيد الأحناف، كما مرّ معنا في قصته مع ابن نفيل. وهذا ما يتجلى واضحاً في القرآن. حيث يناديه صوته الداخلي للإقلاع عن عبادة الأصنام: »والرجز فاهجر« [المدثر: 5] وآية: »ووجدك ضالاً فهدى« [الضحى: 7]. إن مسألة ضلال محمد قبل الوحي تعني في هذا السياق، عبادته للرجز طبقاً للسياق التراثي، وهكذا فلا بد من هجرها للأبد. حتى أن المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين لم يتحرجوا على ما يبدو في إدراك هذا. فقليل منهم من ذهب إلى أن الرجز لا تعني الأصنام بشكل مباشر: «عن ابن عباس قال في قوله (والرجز فاهجر) يقول: السخط وهو الأصنام (2)». وعن جابر وعكرمة ومجاهد، قالوا: والرجز فاهجر قال: الأوثان(3). لا بل إن "قتادة" يتمادى في التفسير، فيحدد ما هي هذه الأصنام: «وقال قتادة: الرجز: إساف ونائلة، صنمان كانا عند البيت(4)». طبعاً سندرك أنّ هذا شيء طبيعي جداً، وخاصة أن محمداً ابن بيئة وثنية في الأصل، قبل أن تبدأ لقاءاته مع أصدقاءه الأحناف أو المسيحيين أو غيرهم". إن هذه القراءة التي يقدمها الكلبي وغيره من الدارسين القدامى والمحدثين تبين أن محمدا كان ابن بيئته، وأن الحاضنة السوسيولوجية البدوية (مكة) كان لها أثرا كبيرا على تكوينه الثقافي، مما سمح له بشكل طبيعي أن يعيد توليد مجموعة من ظواهر عصره دامغا إياها بطابعه الخاص. فلم يكن، مثلا، لشخص مثل زيد بن عمرو بن نفيل أن لا يلفت الانتباه إليه، خاصة أنه كان مفكرا ساخطا على عادات قومه. ففي رواية أن زيدا بن عمرو بن نفيل "خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فَلَقِيَ عالماً من اليهود، فسأله عن دينهم، وقال: لعلي أن أدين دينكم! فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!! قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيعه!! فهل تدلني على غيره؟ فقال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم. لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى، فذكر له مثل ذلك، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع!!.. فهل تدلني على غيره؟ فقال لا أعلمه إلا أن تكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ فقال: دين إبراهيم عليه السلام، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قوله في إبراهيم عليه السلام خرج. فلما برز رفع يديه. وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم عليه السلام..». و«أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول. يا معشر قريش ، والله ما منكم على دين إبراهيم عليه السلام غيري، وكان يحيي المؤودة، يقول للرجل -إذا أراد أن يقتل ابنته- أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها». وقد جر هذا التفكير على زيد غضب قومه، حتى أن عمه الخطاب، كما جاء في «الشخصية المحمدية» لمعروف الرصافي، أخرجه من مكة وأسكنه بحراء، ووكل به من يمنعه من دخول مكة كراهة أن يفسد عليهم دينهم، وفي سيرة ابن هشام: وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين ابراهيم، فكانت صفية بنت الحضرمي (وهي زوجته)، كلما رأته قد تهيأ للخروج وأراده آذنت بن الخطاب بن نفيل، وكان الخطاب بن نفيل، (وهو أبو عمر بن الخطاب) عمه وأخاه لأمه، وكان يعاتبه على فراق دين قومه، وكان الخطاب قد وكل صفية بن وقال: إذا رأيتيه قد همّ بأمر فآذنيني به. قال: وكان الخطاب قد آذى زيداً حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابل مكة، ووكل به الخطاب شباباً من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سراً منهم، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد منهم. وهكذا يستنتج معروف الرصافي أن زيدا وأمثاله من الأحناف «كلهم سبقوا محمداً في الخروج على التقاليد الموروثة لاسيما زيد بن عمرو بن نفيل، فإن لم يكن نبياً كمحمد فنصف نبي على الأقل، لأنه اعتزل الأوثان ولم يأكل ما ذبح لها، ونهى عن وأد البنات، وبادى قومه بعيب آلهتهم ووبخهم حتى أخرجوه من مكة ومنعوه من دخولها وأسكنوه بحراء وآذوه، إلا أن ذلك كان بصورة مصغرة عما جرى لمحمد، فلو كان لزيد بن عمرو هذا ما كان لمحمد من عزم وحزم، ولو أوتي ما أوتيه محمد من دهاء وذكاء ومن فصاحة وبلاغة، ولو تيسر له ما تيسر لمحمد من أعوان، ومن اطلاع على ما جاء في الكتب القديمة من قصص الأنبياء وأخبارهم، ولو كان له ما كان لمحمد من طموح إلى غاية عظمى وإحداث نهضة كبرى لكان كمحمد، ولجاء بما جاء به محمد، ولجاز أن يكون محمد من أتباعه.». بل إن الرصافي لا يتردد أبدا في القول إن «محمداً قد تأثر بزيد وأخذ منه. فقد جاء عن عائشة قالت: سمعت رسول الله يقول: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله، فكان يقول لقريش الشاة خلقها الله عز وجل، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله، فما ذقت شيئاً ذبح على النصب حتى أكرمني الله برسالته».