بدأت الجماهير الفلسطينية فى إحياء «يوم الأرض « الفلسطيني غداة hستشهاد ستة من المواطنين الفلسطينيين في 30 من شهر مارس من عام 1976 ، وعندما تمّ الإعلان عن الإضراب الشامل في هذا التاريخ ، حيث تفاقمت حدّة المواجهات ممّا أفضى إلى استقدام، واستخدام إسرائيل للدبّابات، والمجنزرات لإقتحام القرىَ، والضِّيَع، والأصقاع، والمداشر الفلسطينيّة، وكلما حلت هذه الذكرى يقوم الفلسطينيّون بفعاليات، وتظاهرات كبرى إحياءً لها ،وتحتفل معهم كلّ الشعوب الحرّة المحبّة للسلام التي تتفهّم مطالبَهم العادلة ،وتؤيد قضيتَهم المشروعة فى مختلف أرجاء المعمور .ويعمل الفلسطينيون فى هذه المناسبة على تجديد تشبّثهم،وتأكيد تمسّكهم والإعراب عن تعلّقهم، وحضنهم لأرضهم الغالية إخلاصاً، وولاءً، وذوداً ،ودفاعاً عن هذه البقاع الطاهرة التي رأوا على ثرى أديمها نور الحياة. وقد عبّر الشعب الفلسطيني منذ ذلك التاريخ لإسرائيل المتعنّتة أنهم لن يتنازلوا عن أراضيهم مهما كان الثمن غالياً، كما عبّروا عن إستعدادهم للتضحية بالنّفس، والنّفيس من أجل هذه الغاية الشريفة. وقد دفعت حالات الهلع والرّعب الكيان الصهيوني إلى رفع جدار العار ليفصلوا بينهم وبين أرضهم ، وبعد تضييق الخناق على المواطنين الفلسطينيين الذين كتبوا، ونقشوا، وحفروا، ونحتوا على واجهات هذا الجدار عبارات،وشعارات،ورسومات التحدّي يجدّدون فيها العهد، ويؤكّدون العزم على الوفاء لأرضهم الأمّ الرّؤوم لكلّ فلسطيني أينما كان، وما فتئ الفلسطينيون يغرسون أشجارَ الزيتون فى أراضيهم إلى اليوم ، ويرفعون أغصانَها الخضراء النديّة عاليةً فى الفضاء،وتحت مختلف قِباب المحافل، والهيئات، والمنظمات الدوليّة تعبيراً منهم عن حبّهم، وتمسّكهم بأرضهم ونزوعهم للسّلام . وما انفكّت قصاصات الصّحف،ووكالات الأخبار،ووسائل التواصل الاجتماعية على اختلافها تمطرنا،وتعيد إلى أذهاننا فى كلّ حين شذرات من الأخبار، والأحداث التي كانت، والتي ظلّت راسخة فى ذاكرتنا، وتعيدها إلينا فى هذا التاريخ الذي يتمّ فيه إحياء كلّ عام ذكرى يوم الأرض الذي كان صرخة احتجاجية مدوّية صاخبة في وجه سياسات المصادرة والتهويد التي نهجتهما إسرائيل ضدّ السكّان الفلسطينيين الآمنين فى العديد من الأراضي، والقرى، والمداشر، والعشائر، والأرباض لإقامة المزيد من المستوطنات في نطاق المخطط الصهيوني لتهويدها ، وتفريغها من سكانها الشرعيّين . أحداث تاريخية متوالية مؤلمة خبّأها القدر لأبناء فلسطين الذين تمّ إبعاد العديد منهم خارج وطنهم، وأرضهم، وعن ذويهم ، وأحبّائهم ، وخلاّنهم قهراً وقسراً،وعُنوة ، فانتشر منهم الكثير فى بلاد الله الواسعة فى غياهب المهاجر، ومنازل الاغتراب، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه، ولكنّهم على الرّغم من نأيهم عن أرضهم،وبُعدهم عن طنهم، ظلّوا مشدودين إلى جذورهم بالجَلد، والأناة، والتحمّل، والتمرّس،والتمنّع والمواجهة، والمقاومة، والتحدّى، والإصرار، والفخر،والنضال الذي لاينضب لهيبُه،ولا يفترّ إصرارُه، ولا يخبُو أوارُه. . ونستحضر بهذه المناسبة ذكريات أليمة عاشها الشعب الفلسطيني حيث عملت الصّهيونية العالمية منذ إبعادهم وإقتلاعهم ، وإقصائهم عن بلدهم عام 1947 بلا كلل،ولا ملل، وبدون هوادة من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشّعب واستئصاله من جذوره ، وطمس شخصيّته ، واجتثاث هويّته ، ومحو كلّ أثر له، بل إنّهم حاولوا محوَ حتى جغرافيته، وتغيير تضاريسها، وعملوا على تشويه تاريخه، وطمس تراثه في حملات لا تنقطع باستعمال مختلف ضروب الحيل، والأكاذيب،الدسائس، والخسائس، والمكر، والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة. ثمّ انطلقت الثروات ،والانتفاضات الواحدة تلو الأخرى ، حيث طفق هذا الشّعب فى كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي المجيد، حاملاً رمزَ كفاحه، وثورته، وتمرّده الكوفية الفلسطينية المُرقّطة،أوالمنديل الفلسطيني المُميّز وأغصان أشجار الزيتون،وعمل على صون هويّته، والحفاظ على جذوره ،وإستعادة ذاكرته التاريخية، والثقافية، والتراثية الجماعية. وما فتئت الآلة الحربية الإسرائيلية تقتّل، وتنكّل بهذا الشعب بدون رحمة ولا شفقة ، وتزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب وظلمات جحيم السّجون ، ليُحْرَمُوا ليس فقط نعمة الحياة الكريمة، وصلة الرّحم مع ذويهم، وأهاليهم، وأقربائهم ، بل ليُحْرَموا كذلك قوتهم اليومي لسدّ الرّمق، والعيش الهانئ الرّغيد، وما إنفكّت الأنفس تتنفّس الصّعداء. الأشقّاء، والأصدقاء لم يدركوا بعد أنّ المسألة إنّما هي مسألة بقاء أو لا بقاء ليس إلاّ، فمنهم مَنْ ما فتئ يذرف الدّموعَ حرّى ساخنة، وينزوي بنفسه لينظمَ لنا كلماتٍ شعرية مسجوعةً ، مشحونة بالغضب، والحنق، والضنك، والانتقام.. وتمرّ الأيام، وتنقضي الليالى، وفي رَحِمها، وخضمّها تتولّد، وتنبعث، وتستجدّ الأحداث، وينسون أو يتناسون ما فات،المآسي ما زالت تترى، وتنثال أمام أعينهم، وعلى مرأى ومسمعٍ منهم، فيشاطرهم العالمُ طوراً أحزانَهم، وأحياناً يجافيهم. ويكتفي بعضُهم بالتفرّج ،والتحديق، والتصفيق، والتهليل،والتعليل، والتحسّر،والتأثّر بلغة باكية، شاكية، كئيبة، حزينة مذلّة ، أمّا الآخرون فإنّهم يتعنّتون، ويتمنّعون، ويتمسّكون بكلّ شبر سطوا عليه، وبكلّ مدينة عَلِقوا بها، يبسطون نفوذَهم، وتأثيرَهم ليس على الأرض وحدها، بل على الأفئدة، والألباب، والعقول، والألسن، وهم ماضون في غطرستهم، مُتمادون فى تبجّحهم ،مُمْعِنُون فى خيلائهم وكبريائهم . لوحات الشّرف المُزركشة مازالت تملأ حيطان دورَهم، ، وتعلو جدرانَ قصورهم، وبيوتاتهم ، وما أكثرَ النياشين، والأوسمة التي تتنمّقُ وتتشدّق بها صدورهم ، وما أكثرَ ما يعودون الزمانَ القهقرى ليعانقَوا التاريخَ، وليستلهموا منه العبرَ ،والحِكمَ،والدروسَ، وينقبون عن مناقب جديدة لإستئناف مسيرتهم! ولقد علّمتنا الأيام ،ولقنتنا الليالي أنّ الآخرين قد إقتدّت الرّحمةُ من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ صلد ،لا يميّزون بين الصّغير والكبير، إنّهم ينكّلون بدون رحمة..وما إنفكّ العالم ينظر، ويتفرّج بدون إكتراث..! وما انفكّ الأشقّاء،والأصدقاء يستدرّون عطفَ العالم ورضاه، ويَسْتَجْدُون رحمته وعطفه ، ويصفون له فداحةَ الأهوال،وسوءَ الأحوال ، وقساوة الفظائع التي تُرتكب في حقّ شعب، لم يعانِ شعب آخر ممّا عاناه، إنّهم قومٌ حالمون ، ومُنبهرون، مَشدوهون، منشغلون بإطفاء الأوار المستعر وسط ساحاتهم، وميادينهم، وحول مرابضهم، وأرباضهم،وداخل بيوتاتهم، وأحيائهم، وأفئدتهم. إخواننا الفلسطينيون ما برحوا يعانون بعض الشّقاق الداخلي، و يواجهون لعنة التشرذم، وفتنة الخلافات، وأمسى التصدّع قابَ قوسين أو أدنى من أن يُصيبَ صرحَ الوحدةَ الوطنية المنشودة ، والأمل دائماً معقود على همّة التصالح، والتسامح، والتصافح ، والتقارب والتصافي، وإقصاء التجافي، والتداني، والتفاني، والتفاهم، ورأب الصّدع ، والتئام الفصائل ولمّها ،والبحث عن البدائل، وتسخير وتفجير كلّ الطاقات، وإستغلال كلّ الخِبْرات ، والنبش في التراب والتراث. وفى الثّرىّ والثريّا إذا اقتضى الحال، تاريخنا حافل أثيل، وماضينا تالد مجيد ، وتراثنا زاخر باهر،. إننا قومٌ كُثر ، والكثرة تعني القوّة ،قالها ذات يومٍ فارسٌ من حيّهم : ( لا يسألون أخَاهم حين يندُبهم / في النائبات إذا قال برهانَا…) ! وقال آخر إنّهم دائماً : ( حشدٌ على الحقّ عيّافُو الخَنَا أنُفٌ /إذا ألمّت بهم مكروهةٌ صَبرُوا….) ! (وأردف آخر: ( وأقسم المجدُ حقّا ألاّ يحالفُهم /حتى يحالفَ بطنَ الرّاحة الشّعرُ..) ! وأضاف آخر منهم جاهراً : ( تعيّرنا أنّا قليل عديدُنا / فقلت لها إنّ الكرامَ قليل…)! وعلى الرّغم من هذه الذخائر، والأنفة، والشّموخ ،والسّؤدد، والعزّة والمجد، فإنّ أعوادَهم ما برحتْ هشّة، ضعيفة، طريّة، واهية، ،ينطلقون بلا هوادة، وبلا بَوْصَلة، ولا هادٍ نحو بطولات فردية وهمية لا طائل تحتها ولا فوقها..! إنّهم قوم رحماء بأنفسهم، وبذويهم، وأقربائهم، ،يذودون عن حوضهم وجيرانهم بسلاحهم، مشهود لهم ومشهورون بالصّفح والتسامح والإيثار..! رحماء فيما بينهم، يعطفون على الصّغير والكبير، والقويّ والضعيف ،منهم، وهم معروفون بالجَلد واللين، والبأس والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة.!. ،حتى وإن كانت بهم غِلظة، وفظاظة، وحتى وإن كانت بهم أثَرَة وكبرياء . إنهم معروفون بهذه الثنائية المُركّبة التي تقوم على طرفيْ نقيض والتي طالما تغنّى بها نبغاؤهم، وشعراؤهم، إنهم ما انفكّوا يُردّدون فى كلّ حين مُنبهرين : ( نحنُ قومٌ تذيبنا الأعينُ النّجْلُ /على أنّا نذيبُ الحديدَا…) (طوعُ أيْدى الغرامِ تقتادنا الغيدُ / ونقتادُ في الطِّعان الأسودَا…) (وترانا يومَ الكريهة أحراراً / وفي السِّلمِ للغوانيِ عبيدَا…) !!! كلٌّ واحد منهم يحملً صخرته السيزيفيّة على ظهره ويمضي، كلّ واحد منهم مرسوم على محيّاه الجانب العبوس من وجه «موناليزا أو»الجيوكاندا» للإيطالي النهضوي النّابه ليوناردو دافينتشي، فلا هو بالوجه الحزين، ولا بالجَذِل، ولا بالباسِمِ ولا الباكي الشاكي، يومُه قائظ مُستعر، وليله شاحب مُكفهرّ، وغسقه صقيع مُنهمر، وشفقه مُزهر مُزدهر… كلّ يَحمِل هُمومَه، وقلقَه، وهواجسَه،ونكدَه،وضنكَه، وأوهامَه على كاهله ويمضي،ولا أحدَ يبالي به، ولا بآلامه ومعاناته، ولا أحد يكترث بأحزانه ومعاناته ! الأقربون ما بَرحُوا، مُنشغلين، حَائرين، مَشدوهين، مَبهورين،يتناقشون، يتحاورُون، يتهامسُون، يتبادلون أطراف الحديث، والحديث عندهم دائماً ذو شجون،وفنون، وسرّ مكنون..! *كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوطا- (كولومبيا).