سبق لجريدتنا أن نشرت خبر إصدار الباحث والاعلامي المغربي، عزيز خمليش ، لكتاب مهم عن الانتفاضات الحضرية الكبرى في المغرب ، منها انتفاضة 1965 و1981 على وجه الخصوص، وهو الكتاب الذي اعتبرناه تأسيسيا من حيث وسيلة عمله ومحاولة استنطاق واقع ورثه المغرب عن تلك الانتفاضات، وبمعنى آخر، محاولة للجواب عن أسئلة من قبيل : ما الذي يمكن للبحث السوسيولوجي (الاستمارة كمثال) أن يستخلصه من تراكم الدم والغضب والسياسة واختلالات القوى ؟ وقد عمل صاحب الكتاب بالفعل على رصد تاريخ كل انتفاضة على حدة ، بالاضافة الى ربطها بالسياق العام للتمرد وبناء الدولة الحديثة، ولم يغفل عزيز خمليش أيضا تأثير الانتفاضة على ما بات يعرف في الأدبيات السوسيولوجية بالبنيات الفوقية أو الوعي والادراك الجماعيين، عبر الأدب والابداع والتعابير الفنية، وقد اخترنا ، بموافقة الباحث ، هذا الفصل المتعلق بالخلاصات التي وصل إليها البحث بخصوص الانتفاضات الحضرية، ننشره تعميما للفائدة.. ومقدمة للاغراء بالقراءة. ارتباط الانتفاضات بعنصر الشباب في سنة 1965، تم الحديث كما سلف الذكر عن متظاهرين تتراوح أعمارهم بين 13 و 20 سنة، وفي سنة 1981، أفادنا ملف قضائي خاص بمجموعة من معتقلي أحداث 20 يونيو 1981 بالرباط (وعددهم 82 شخصا)، أن نسبة 78 % من المتهمين لم تكن أعمارهم تتجاوز، آنذاك، ثلاثين سنة، كما أن معدل أعمار بعض ضحايا الدارالبيضاء، في ذلك اليوم، كان يقدر ب 21.5 سنة، حسب لائحة تضم أسماء سبعة وثلاثين ضحية، تم الحصول عليها خلال البحث. وفي سنة 1990، استخلص من دراسة حول مائتي شخص قدموا أمام القضاء على إثر أحداث 14 دجنبر، في كل من فاس و طنجة والرباط، أن 70 % منهم لايتجاوزون الثلاثين سنة. ولفهم وتفسير هذه الظاهرة، يبدو أنه من اللازم ملامسة بعض القضايا التي من شأنها توضيح الكيفية التي يقيم بها الأشخاص المنتمون للفئة العمرية الأقل من ثلاثين سنة علاقاتهم بالمحيط العام وخلفيات هذه العلاقات. يقول إميل دوركهايم: «لقد تعود علماء الاجتماع على استعمال بعض المصطلحات دون تحديدها أو حصر الإطار الذي يعتزمون التحدث عنه، منهجيا ولذلك، فإن بعض العبارات قد تمتد بدون معرفتهم الى مفاهيم لاعلاقة لها بالموضوع الأصلي، وبهذا تصبح الفكرة غامضة إذ أمام غياب الحدود تتغير الفكرة حسب الحاجة ويعجز النقد عن التنبؤ، مسبقا، بمختلف الأشكال التي قد تحملها، ولتفادي هذا «المنزلق فإن القيام بعملية «تحديد الهوية» يصبح أمرا لاغنى عنه، ومن هذا المنطلق يكتسي «التعريف» أهمية بالغة، ليس فقط ل «تفريد» الأشخاص أو الحالات أو الجماعات، ولكن أيضا، لانتقائها حتى تتمكن من القيام بوظيفة، ذلك لأن كل جماعة مضطرة، اجتماعيا، لإيجاد اسم لها حتى تتحدد ويتم ضبطها. إن المجتمع حينما يطلق اسما على جماعة معينة، فإنه في نفس الوقت، يعبر عن الصورة التي تحملها عنه هذه الجماعة، وبالتالي فإنه يساهم في تحديد دورها، ولهذا، فإن القيام بعملية تعريف أو (تسمية) لايخضع لمنطق الصدفة، بل لمعايير، فتغير الأسماء يدل عادة على التحولات الطارئة على الوظائف التي تشغلها جماعة معينة. واعتبارا لكون مفهوم «الشباب» يحمل في طياته الكثير من الغموض والالتباس، نظرا لارتباطه بالحس المشترك وبخطاب متداول يحمله في غالب الأحيان مزايا خاصة ومتناقضة تتأرجح بين المرونة في التعامل والحدة في الاحتجاج، وتفاديا لبعض المواقف التي تصنف هذه «الفئة» كطرف مناقض للمجتمع العام ولقيمه، يرى الباحث «أوليفييه غالاند» أنه من الممكن القيام بتحليل سوسيولوجي إذا تخلينا عن المفهوم الغامض ل «الشباب»، لصالح مفهوم آخر يتحدد من خلال الانتقال الى «سن الرشد» والشروط الاجتماعية الأسرية أو (الزوجية) والمهنية لهذا الانتقال، وبهذا المعنى تتغير العلاقة تجاه المجتمع العام، بحيث لن يتعلق الأمر بالتساؤل حول «أزمة القيم» وأسبابها المحتملة، ولكن بالشروط الاجتماعية لولوج الحياة الراشدة والاستراتيجيات التي تجيب عنها والتمثلات التي تصاحبها، وهذا التحديد ينطلق من ثلاثة مقاييس ذات دلالة اجتماعية، لأنها تتطابق مع تغير الأوضاع الاعتبارية: بداية الحياة المهنية، الزواج، ومغادرة الأسرة الأصلية. وبطبيعة الحال، يتطلب هذا التحديد الأخذ بعين الاعتبار العوامل الطارئة على المجتمعات المعاصرة المتمثلة أساسا في تمديد مدة التكوين المرتبطة بالتعليم، والوضع المؤقت داخل الأسرة (تأخر الزواج، تأخر الولادة الأولى.. الخ)، وتمديد فترة الدخول الى عالم الشغل، وهذه كلها عوامل تساهم في تأخر لحظة الاستقرار النهائي للأشخاص، وتختلف حسب الطبقات ومن مجتمع لآخر، مثلا، معدل سنوات التمدرس بالولايات المتحدة يصل الى 12.3 سنوات، بينما لايتجاوز، في المغرب 2.8 سنوات. وهذا يطرح ليس فقط مشكلة الأمية والتكوين، ولكن أيضا قضية تحديد «سن الرشد» (هل المقصود نهاية الدراسة؟ الحصول على عمل؟ إنجاز الخدمة العسكرية؟ إنجاب الأطفال؟)، واختلافه حسب الطبقات والمجتمعات والأزمنة. إذا أخذنا بعين الاعتبار، عامل الاختلاف بين الجنسين فيما يتعلق بشروط الانتقال نحو «سن الرشد»، يمكن القيام بتعريفين: تعريف عمومي يصنف الشباب (الذكور) في مرحلة ما قبل إيجاد أول منصب شغل، وتعريف خاص يحدد النساء «الشابات» في مرحلة ما قبل الزواج. وفي هذا الإطار يمكن تصنيف 59 % من الأشخاص الذكور الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة في عينة بحثنا كما نلاحظ، فيما بعد بصورة أكثر تفصيلا وتدقيقا، بينما ترتفع هذه النسبة الى 95 % في صفوف المبحوثات، علما بأن 61.5 % من مجموع كل هؤلاء تتراوح أعمارهم بين 25 و 29 سنة، الشيء الذي يفضي بنا الى طرح قضية ذات أهمية بالغة تتعلق ب «شيخوخة الشباب»، مع كل ما تحمله هذه العبارة من شعور بالإحباط واليأس. وقد أكدت احدى الدراسات أن مرحلة الانتقال من المدرسة الى عالم الشغل تتراوح، في بلدان من ضمنها المغرب، بين 5 و 7.5 سنوات. وبطبيعة الحال، تختلف هذه الفترة حسب الجهات (خاصة بين البادية والمدينة) والفئات. فبعض أبناء الأثرياء لايعرفون فترة «فراغ» بين الدراسة والعمل، وكذلك الشأن بالنسبة لبعض أبناء الفقراء، وخاصة في البادية، الذين يضطرون للانقطاع عن الدراسة، في وقت مبكر للالتحاق بسوق الشغل. كل هذه العوامل، إذن، تكيف سلوك «شباب» اليوم وتجعله يميل الى «الفردانية». فالشخص البالغ ثلاثين سنة من عمره، والذي لايستطيع الحصول على عمل «ولو مؤقتا في غالب الأحيان»، أو الاستقرار خارج بيت الوالدين، ويجد نفسه محاصرا بترسانة من القوانين الزجرية وبشبكة اعلامية واسعة تقدم له، في كل لحظة، نماذج متعددة ولا «نهائية» عن ظروف عيش أبناء المحظوظين داخل أرض الوطن وخارجه، إن هذا الشخص نادرا ما يكون «مبدئيا» في سلوكه وتفكيره، ذلك أن أهم إشكال يطرح أمامه هو كيف يحقق رغباته دون أن يؤدي ثمن ذلك من حريته أو حياته؟ التحضر المتوحش وتراكم العجز كان من الممكن أن تلعب المدن، بحكم تعدد واختلاف أنشطتها وقنواتها وأجهزتها، دورا أساسيا في تأطير سلوك الأفراد وتوظيفه نحو ميادين خلاقة. ولكن هذه المدن أصبحت، في غالبيتها، متشظية ومنفجرة، وفي كثير من الأحيان عبارة عن مجال لتراكم الاخفاقات والعجز في مختلف الميادين. يقول «ميشال تورنر» : «إن القنبلة الحقيقية للقرن المقبل لاتتكون من الإيدروجين أو الأورانيوم ولكن، من عنصرين اجتمعا لأول مرة في العالم الثالث، وهما النمو الديمغرافي المطرد والتحضر المتوحش»، إذ كلما ازدادت عملية التمدين سرعة إلا واتسعت دائرة جمهور الوافدين القرويين، الباحثين في ضواحي المدن عن سبل بعث علاقات التضامن الجماعي القديمة. لقد قام التحضر في البلدان المتقدمة تماشيا مع ظهور الصناعة، بحيث أدت الثورة الصناعية، منذ القرن التاسع عشر، الى انتقال قوة العمل من الأرياف الى المدن، كما أدت الى تكوين طبقة اجتماعية بروليتارية هامة، غير أن التحضر في العالم الثالث، لايفسر النزوح الريفي ولا طلب الشغل المتزايد في القطاع الصناعي الحضري إلا بصفة جزئية، ذلك أن حركة النزوح تظل متواصلة حتى وإن كانت عملية التصنيع ضعيفة، إذ أن الأمل في إيجاد موطن شغل في المدينة يظل، رغم كل العراقيل، وازعا قويا، ذلك أن تحضر دول العالم الثالث ليس سوى نتيجة تفكك البنيات الزراعية، ونسق الانتاج الناجم في جزء كبير منه عن وقع أنشطة اقتصادية مملاة من الخارج وخاضعة لاعتبارات خارجية، وفشل التدبير الاداري. وقد ساد الاعتقاد في المغرب أن الدولة المغربية تحكم المدن عن طريق البوادي، وازدادت هذه النظرة ترسيخا من خلال التوجهات الخاصة بإعداد التراب الوطني والتي كانت تنطلق من مقاربة تعتبر أن المدينة لاتنتج عوامل التوتر، نظرا لديناميتها الخاصة، ولكنها تخضع للانعكاسات الثانوية لعدم استقرار البادية. لكن مع تزايد مناطق التوتر في المجال الحضري، بدأت ملامح التحول تظهر جليا وأخذت المدينة تكتسي أهمية على اعتبار أنها حقل للفعل السياسي المتميز بالصراع، وذلك بمجرد ما بدأت تطرح بعض المشاكل كتلك المتعلقة بالسكن والتربية والصحة أو الشغل. هكذا، إذن، أصبح الوسط الحضري في قلب اهتمامات الدولة، وبدأ يطرح على هذه الأخيرة مسألة استراتيجية تتعلق بالتحكم في المدن كمدخل لاستتباب الأمن وضمان الاستقرار، والحفاظ على هيبة الدولة ومشروعيتها. فإذا كانت عملية التحضر تقتضي وجود عنصرين متلازمين ومتكاملين: التمركز الديمغرافي وانتشار الثقافة الحضرية، ففي المجتمعات الاسلامية العربية بما في ذلك المغرب لانجد في أغلب المدن سوى سيادة العنصر الأول. لقد وصل الازدحام الى درجة عالية في العديد من العواصم، علاوة على انتشار أحزمة الفقر والسكن العشوائي وارتفاع معدلات الجريمة والجنوح، وتدهور البيئة وتلوثها، وارتفاع معدلات البطالة ثم انتشار مظاهر الترييف في أغلب المراكز الحضرية. ومن مفارقات عملية التحضر السريع التي عرفها المغرب أنه بقدر ما ازداد عدد سكان المدن، بقدر ما تقلص عدد المدنيين، وهذه الظاهرة مازال يعيشها المدنيون يوميا في المدن المغربية القديمة، وهم لايبالغون حين يعتبرون أنفسهم متجاوزين، لأن واقع الحال يتطابق مع الاجتياح المستمر للمراكز الحضرية من طرف سكان القرى. إذ الى حدود سنة 1900، ظل المغرب مطبوعا، بقوة، بالحياة القروية، فبالرغم من وجود مدن مهمة، نسبيا، ومهيمنة على الحياة السياسية، مثلا مراكش والرباط وسلا وتطوان وفاس ومكناس، فإنها من الناحية الكمية، لم تكن ذات أهمية كبرى، ولم تكن نسبة سكان المدن تتجاوز 7 أو 8 % من مجموع عدد السكان، بينما في سنة 1994 وصلت هذه النسبة، كما رأينا سالفا، الى أزيد من 50 % فمن سنة 1900 الى 1952، انتقل عدد المدن والتجمعات الحضرية من 27 الى 92، ثم الى 250 سنة 1982، الشيء الذي يوضح أن انتاج الفضاء الحضري عرف نموا يقدر معدله بخمسة تجمعات في السنة، خلال ثلاثين سنة. وبموازاة عواقب التوجهات السياسية التي عرفها المغرب مثله في ذلك مثل العديد من دول العالم الثالث طرحت مسألة التحضر العشوائي والسريع عدة مشاكل يمكن تحديد بعضها في تنامي ظاهرة الفقر، واتساع فضاءات الهوامش والمهمشين، وتراجع دور الطبقات الوسطى. لقد أخذت مدن الصفيح التي ظهرت إبان الحماية كتعبير عن الهامشية الحضرية تتطور وتتسع منذ سنة 1952 . فإلى حدود سنة 1965، لم تكن تستوعب سوى 200.000 نسمة، بينما أصبحت تضم، في أواسط التسعينات، حوالي مليون نسمة، وانتقلت المساحة المخصصة لهذا النوع من السكن، من 10 % من مجموع المجال الحضري خلال الستينات الى 20 % في بداية التسعينات. وحسب بعض الدراسات الميدانية المنجزة في بعض بلدان العالم الثالث، فإن سكان مدن الصفيح يتصفون، عموما، بالفقر المطلق، وهذا الفقر أوجد ثقافة خاصة به لخصها الباحث «أوسكار لويس» في العناصر التالية: ارتفاع معدلات الوفيات وانخفاض متوسطات الأعمار، انتشار الأمية، مشاركة ضعيفة في المنظمات الموجودة في المجتمع كالنقابات العمالية والأحزاب السياسية، عدم المشاركة في برامج الرعاية الطبية أو في غيرها من برامج الخدمات الاجتماعية، قلة الانتفاع من التسهيلات والمرافق التي تقدمها المدينة، انخفاض مستوى المهارة، عدم وجود مدخرات وكثرة الاقتراض، عدم وجود مخزون منزلي من المواد الغذائية، الافتقار الى الخصوصية داخل المسكن، كثرة اللجوء الى العنف، بما في ذلك ضرب الأطفال، كثرة حالات هجر الزوج للزوجة والأطفال، تمركز الأسر حول الأم، الشعور بالاستسلام والقدرية، انتشار عقدة الاعتزاز المفرط بالذكورة عند الرجال وعقدة التضحية والاستشهاد عند النساء. وبجانب مدن الصفيح، أصبح السكن العشوائي يشكل إحدى أهم العمليات المهيكلة للمجال الحضري، وأخذ يحتل مكانة خاصة في تراتبية الفضاءات الحضرية نظرا لمرونته وقدرته على التكيف مع منطق السوق العقاري، ولكونه يلبي بعض الحاجيات التي لم تعد أجهزة الدولة تستطيع تلبيتها، علاوة على كونه يساعد على التخفيف من القلق ويضمن نوعا من «السلم الاجتماعي»، الشيء الذي يشكل، في حد ذاته، رهانا سياسيا واجتماعيا ذا أهمية بالغة. من هذا المنطلق، إذن، يظهر بأن السكن السري (أو العشوائي) ليس مرتبطا بالضرورة بالعاطلين أو الهوامش والبدو، بل يمكن القول بأنه إذا كان الحي الصفيحي يرمز على أمد طويل للبؤس الحضري، فإن السكن العشوائي يشكل تعبيرا مجاليا عن أزمة الطبقات الوسطى التي أخذت أجزاؤها السفلى، وحتى المتوسطة أحيانا، تنحو أكثر فأكثر، نحو الفقر. وعموما، تتميز الظاهرة الحضرية في المغرب وفي الدول المشابهة له، ببعض الخصائص منها مثلا: تضخم القطاع الثالث وتجميد أو ضعف القطاع الثاني، تكوين تمركز سكاني دون أن يقابله تطور في القدرة الانتاجية، الاتجاه نحو تمركز السكان في الأقطاب الاقتصادية وتعاظم التفرقة المجالية والتمايز الاجتماعي، الشيء الذي جعل معظم المؤهلين للانتفاضة يتمركزون في المدن، خاصة مع النقص الحاصل على المستوى الاقتصادي والثقافي، وما يترتب عن ذلك من تهميش لفئات عريضة من السكان. ومن أخطر إفرازات ظاهرة التحضر المتوحش والسريع الذي عرفته العديد من المناطق المغربية نجد تنامي مجال ودور الهوامش وسيادة منطق ثنائي للمجتمع يفرق بين من هم «في الداخل» ومن هم «في الخارج» الشيء الذي يؤشر بوضوح على فشل كل المبادرات الرامية الى إعادة التوازن للمجتمع من خلال إعادة إدماج المهمشين داخله. إن هذا المنطق الثنائي، علاوة على كونه يعترف بوجود نسق سوسيو اقتصادي على هامش «المدينة المندمجة» أي «الرسمية»، مع كل ما يعنيه ذلك من اقتباس واستلهام للتعارض العمراني والمجالي المميز لمدن العالم الثالث، بصفة عامة، حيث يتحدد الهامش من خلال عدم خضوعه للقواعد والقوانين المعمول بها، فإنه يجعل من الهامش فضاء يكاد لاينتمي الى المدينة. إن ظاهرة الهوامش، وإن كانت غريبة على المغرب، فهي ليست كذلك بالنسبة لبعض الدول العربية والاسلامية. وفي هذا الصدد يؤكد الباحث محمد نور فرحات، أستاذ ورئيس قسم فلسفة القانون بكلية الحقوق بجامعة الزقازيق بمصر، بأن المجتمع المصري شهد في مختلف عصوره التاريخية نشأة جماعات هامشية تفر من نظام الانتاج القائم على الاستغلال ومن جهاز الدولة القائم على القهر، وكانت هذه الجماعات التي أدرج الباحث ضمنها الفارين من نظام الانتاج الى المؤسسة الدينية في شكل خدم المعابد في العصر الفرعوني، ورهبان وخدم كنائس في العصر القبطي، وصوفيين وحرافيش في العصرين المملوكي والعثماني تلجأ في معظمها الى التعطل وأداء العديد من الأعمال الهامشية غير المنتجة، مما جعل تأثيرها في الحياة الاجتماعية منذ العصر الفرعوني حتى الآن يقوم على الحط من قيمة العمل وهدمها. وكانت هذه الجماعات في العصرين المملوكي والعثماني تقيم بالأحياء الفقيرة على أطراف المدن الكبرى وخاصة العاصمة، مثل أحياء «الحسينية» و «الصليبية» و»الجعيدية» بالقاهرة، وكانت هذه الأحياء تضم المصريين الوافدين من الريف أو البادية هربا من القحط والجفاف فضلا عن بعض العرب الوافدين من الشام والعراق. ولاتزال عادة الإقامة في أحياء الأطراف ملازمة للهامشيين في مصر المعاصرة، حيث يفضل الريفيون المهاجرون الى القاهرة الاقامة على حدودها وأطرافها المتاخمة للطرق التي سلكوها في الهجرة، فيقيم المهاجرون من الدلتا في شمال القاهرة بينما يقيم الوافدون من الصعيد في جنوبالقاهرة. وتعد هذه الأحياء بؤرة لجرائم المال والنفس وحوادث الفتنة الطائفية وانتفاضات الجياع. وأكد الباحث أن الجماعات الهامشية، بحكم رفضها للتنظيم الاجتماعي برمته ورفضه لها، هي أقرب فئات المجتمع ميلا الى العنف السياسي، وحدد ثلاثة أشكال لهذا العنف عرفتها مصر عبر تاريخها حتى الآن: أولها انتفاضات الجماعات الهامشية بطريقة عفوية إما طلبا للرزق تحت وطأة الجوع والقحط، وإما نتيجة للوعي الزائف والتعصب الديني في شكل إثارة نزعات الفتنة الطائفية، وثانيها أعمال التخريب والعنف لصالح السلطة الحاكمة مقابل بعض المكاسب المادية مثل الحملة التي أرسلها والي مصر عام 1613 من فتوات وزعر «حارة الفوالة» لإخماد تمرد العسكر النظاميين (...) وثالثها انخراط الزعر والجعيدية والهامشيين في حركة سياسية جماهيرية مع غيرهم من فئات المجتمع مثل نجاح زعر «الحسينية»، متلاحمين مع صناعها وحرفييها وعلماء القاهرة في عزل «أحمد أغا» والي مصر عام 1205 هجرية. وفي الجزائر برزت الى الوجود، إثر أحداث أكتوبر 1988 فئة «الحطيست» التي تمت الإشارة إليها سابقا. والحطيست، فئة من الشباب المهمشين الذين كسروا كل أشكال الارتباط مع أسرهم، يحتلون، في غالب الأحيان زوايا وأركان الأزقة متكئين على جدران المدن (كما يدل على ذلك اسمهم) وعلى الأعمدة. إنهم، إذن، جماعة من الشباب الذكور، فروا من منازلهم ومن قراهم واختاروا «مجهولية» المدن، متشكلين في جماعات، وكل جماعة منهم تستحوذ على فضاء اجتماعي معين تفرض فيه على الجميع قواعد للتعامل وقوانين خاصة لايمكن خرقها دون إحداث اصطدامات. وتتسم حياة «الحطيست» بتعاقب زمنين: زمن الأنشطة المكثفة وزمن ميت، حيث تزداد الأنشطة خلال بعض المناسبات الخاصة مثلا المرتبطة بمقابلات كرة القدم، الزواج، الوفاة وحتى بأوقات الصلاة، إذ يتحرك «الحطيست» كمتطوعين يجمعهم التضامن القائم على مبدأ التآزر داخل الحومة أو (الحي). ومن جانب آخر، يقوم «الحطيست» ببعض الأعمال الاجتماعية مثل توزيع مواد الاستهلاك وتوفير بعض مشتريات الأسر وتوزيعها. أما الزمن الميت فيتم التعامل معه من خلال النزوع الى بعض الأعمال «المشبوهة»، مثل المغازلات الجنسية وترويج واستهلاك المخدرات، علاوة على نقل مختلف الأخبار وتغذية راديو الرصيف أو (راديو المدينة) حيث تمتزج الاستيهامات بالإشاعات. ويتميز خطاب الحطيست بالرعونة وبخلوه من كل زخرفة لفظية أو مجاملة حول مستقبل البلد، إذ ينظر الى هذا الأخير بنوع من الازدراء والسخرية، وينعت ب «بلد ميكي»، نسبة الى «ميكي ماوس» ل «والت ديزني». أما احساس هؤلاء الشباب، فيخيم عليه القرف والسخط، ولذلك يفكر العديدون منهم في الهجرة السرية الى الخارج. بطبيعة الحال، لايمكن اسقاط التجربتين المصرية والجزائرية على أوضاع المغرب، نظرا لاختلاف الشروط التاريخية والمعطيات السوسيولوجية الخاصة بكل بلد على حدة. صحيح، أنه في أحداث 14 دجنبر 1990 بفاس، ظهرت جماعات من الشباب العاطل، الساخط على الأوضاع، وقامت بأعمال تخريب ونهب، كما كانت منظمة، الى حد ما، بدليل أن عناصرها كانوا يرتدون أقنعة، ولكن، على العموم، لم تتطور هذه الجماعات الى حد تكوين حركات مماثلة للزعر أو الحطيست. ولذلك اكتفت لجنة تقصي الحقائق المنبثقة عن البرلمان، والتي قامت ببحث حول أحداث 14 دجنبر 1990، بالإشارة الى مساهمة النازحين من مناطق السكن العشوائي في المظاهرات. وقد أرجعت اللجنة أسباب اندلاع المظاهرات الى خمسة عوامل وهي: مناخ التوتر الناجم عن العوامل الدولية (حرب الخليج) والداخلية (فشل الحوار الاجتماعي). استغلال نداء الاضراب من طرف ذوي السوابق الاجرامية والجنائية وعناصر تريد تصفية حسابها مع قوات الأمن. وجود قاسم مشترك بين المتظاهرين في فاسوطنجة، يكمن في كونهم نازحين من مناطق السكن العشوائي، وأوساط تعاني من الفقر والبطالة، تستقبل المهاجرين القرويين باستمرار وتعرف كثافة سكانية ضخمة. قيام السلطات المحلية بإجراءات وتدابير غير مناسبة وعدم اتخاذ الاحتياطات الأمنية اللازمة. عدم توفر قوات الأمن على الوسائل الضرورية لمواجهة الانتفاضات. من جانب آخر، وبغض النظر عن الرؤية المباشرة والآنية للأحداث، تجدر الاشارة الى كون بعض المدن المغربية، مثل فاس ومكناس ومراكش والرباط، عرفت خلال فترات تاريخية متعددة، إبان بعض الأزمات، خاصة أيام الجوع والجفاف، قلاقل ونزوحا قرويا، ولكن الأمر ظل في مجمله محدودا وغير ذي أهمية بالقياس للوضع العام للبلاد. فالتحضر السريع والمتوحش وفضاءات هوامش المدن لم تظهر بشكل جلي سوى منذ دخول الاستعمار للمغرب، وما ترتب عن ذلك من تكدس للسكان لم يسبق له مثيل وتحول على مستوى خارطة توزيع المدن ومراكز ثقلها، إذ لأول مرة ستأخذ المدن الساحلية موقع الصدارة على حساب المدن التاريخية الداخلية المعروفة، الشيء الذي يشير الى تغيير هائل وجذري على مستوى توجهات الدولة واهتماماتها، بحيث أصبحت المدن خاضعة لاعتبارات استراتيجية ومصلحية أجنبية، ولم تعد موجهة الى الداخل، وهذا ما يفسر وجود الشريط الساحلي الممتد، حاليا، من القنيطرة الى الجديدة، مرورا، بطبيعة الحال، بالدارالبيضاء كمتربول وكمجال سائد في التبعية الاستعمارية فرض نفسه انطلاقا من عامل رئيسي محدد: الميناء، هذا الميناء الذي يعتبر الأضخم من نوعه في المغرب (بالاضافة الى جعل الدارالبيضاء الحلقة الرئيسية في شبكة السكك الحديدية التي بنتها الادارة الاستعمارية منذ 1912) والذي استطاع أن يستقطب المجال حوله لينتجه ويحوله في اتجاه التحضر التابع. إن قراءة شكلية لمنحى التطور الديمغرافي للدار البيضاء الكبرى ستمكننا من ملاحظة سرعة وتيرة التطور المطلق لعدد السكان، بحيث أن الزيادة التي حققها هذا المجال الحضري خلال 22 سنة من (1960 الى 1982) سيكون بمثابة ظهور 22 مدينة جديدة في حجم الناظور أو سطات. إن هذا التمركز البشري يقابله تمركز على جميع باقي المستويات: تمركز الصناعة التحويلية والخدمات وحتى المشاكل والهوامش، الشيء الذي يجعل من الفئات المهمشة التي تمثل أهداب العالم الحضري وتعتبر نتاج عوامل ديمغرافية وتوجهات اقتصادية جماهير يمكن أن يقال عنها أنها في «مرحلة انتقالية معوقة» تعيش وضعية «بين بين» في حالة تحضر غير مكتمل، ذلك أنه حتى حدود 1956، سنة الاستقلال، كان السكان الحضريون في قلب أزمة الحماية، ولكن، ليس الوطنيون المدنيون الذين طرحوا مطلب الاستقلال هم من فجر النضالات الحضرية التي زعزعت الحماية، بل جماهير الحضريين الجدد. لقد وفرت هذه الفئات للحركات الوطنية أهم حشودها، وبعد الحماية، أخذت تجعل من المدينة مسرحا تعبر في فضائه عن غضبها، ورفضها للتهميش الذي يمارس عليها داخل مجتمع الاستهلاك ومن طرف دوائر السلطة السياسية والادارية الشيء الذي يجعل من انتفاضاتها تعبيرا عن الرفض للإقصاء والميز الاجتماعيين وغزوا للمركز الاقتصادي والسياسي، كما يتضح من خلال عمليات التخريب التي مست الدارالبيضاء في يونيو 1981 وتونس في يناير 1984 والجزائر في أكتوبر 1988، والتي يشير إليها الجدول التالي: الدارالبيضاء في يونيو 1981 عدة متاجر 7 محطات بنزين 12 صيدلية عمارتان 23 مكتبا بنكيا 54 سيارة و 45 حافلة تونس العاصمة في يناير 1984 مونوبري (شارع الحرية) سوق متجر كوليزي (محل لبيع الذهب) ومتاجر فاخرة بشارع باريس وشارع بورقيبة مكتب الاتحاد الدولي للأبناك مكتب الخطوط الجوية الفرنسية مكتب شركة «أليطاليا» مكتب الخطوط الجوية السعودية الجزائر في أكتوبر 1988 الشارع التجاري (وسط العاصمة) سوقان ممتازان متاجر حافلات وسيارات مخادع للهاتف ملهى ليلي مكتب شركة لوفتانزا للطيران مكتب شركة الطيران س-إس(C.S.A)- « بغض النظر عن حجم الخسائر المشار إليها في هذا الجدول، يظهر أن البعد الرمزي لعمليات التخريب يكتسي دلالة بالغة، نظرا لكونه يعبر عن إرادة لمواجهة القلب النابض للمدن، حيث تتمركز أجهزة الدولة ومصالح الفئات المهيمنة اقتصاديا وسياسيا، الشيء الذي يفسر الى حد كبير قيام هذه الأجهزة والمصالح بردود فعل قوية تجاه الانتفاضات الحضرية، وخاصة في المدن الكبرى، حيث تحتل قوات الأمن والاستخبارات والجيش مجالات واسعة، سواء داخلها أو في حواشيها، كما تشهد على ذلك الأعداد الهائلة من المرافق والبنايات الخاصة بالأمن والمراقبة، والثكنات العسكرية. من جانب آخر، يظهر أنه من الإفرازات الهامة التي صاحبت عملية التحضر المتوحش، نجد ظاهرة اندحار الطبقات الوسطى وبلترتها المستمرة، وتلاشي دور النخب التقليدية.