أنتَ الآن، أيها النكرة المعرّفة، في مانهاتن، وماذا بعْد؟ هلْ كنتَ تحلم بأنْ تطأَ قدماك هذا العالم الجديد الخرافي المحلوم به من قبل المهاجرين الأوربيين الأوائل؟ ما عليك، أنتَ الآن في الضفة الأخرى للكون الأدبي تجُرّ قدميْك تحت ناطحات السّحاب العملاقة. كانَ اليوم مشْمساً، والطقس جدّ معتدل، تحملنا الحافلة إلى فندقنا المخصّص لنا لقضاء بضْعة أيام ثمّ نقفلُ عائدين إلى مُدُننا الأصليّة، لقد جئْنا من واشنطنْ، هذا يعني أنّ عوْدتنا ستكون من مطار جون كينيدي، فلنكتشفْ هذا الفضاء الخاصّ المليء بالأجْناس من مختلف الأصْقاع، الكل هنا أمريكيّ حتى النّخاع، حتى ولو كان من بنغلاديش أو من بوروما والفيتنام! سائق سيّارة الأجرة أمريكيّ من أصل مصريّ، السائق الآخر من سريلانكا أو من الصّومال أو من إيريتيريا وإثيوبيا، ثمة إثنياتٌ كثيرة ذائبة في النسيج الاجتماعيّ الأمريكيّ رغْم أصولها القوميّة المختلفة، فماذا تفعل أنتَ بالضبط في نيويورك؟ لاشيءَ سوى الاستراحة واكتشاف الأماكن والأحياء الهامشيةّ، أما مانهاتن فهي جزيرة مستقلّة بذاتها عن مُحيطها الجغرافي الآخر: بروكلين-لكوينز-هارلم، وبقيّة الأزقّة والشّوارع الخلفيّة التي تمورُ بالعنف والمخدرات. هنا يحْضُرني شريط «سائق الطّاكسي» لمارتانْ سكورسيزي الذي يجوبُ شوراع المَدينة ناقلا إليْنا وجْهَهَا الأسود بالليل. 2 عندما كنتُ في مدينة رُوتردام الهولندية، بعْد زيارة نيويوركْ، بدا لي أنّ هذه المدينة العملاقة من صنْع هولندي واضح: نفس الهنْدسة المعمارية للمَنَازل المتراصّة جنب بعضها- نفس السّلالم الخشبيّة الخارجيّة، ونفْس الدّروجْ الأمامية المؤدّية إلى الأبواب، نفْس اللوْن الأحمر، لقدْ نَزَحَ المهاجرون الهولنديّون الأوائل إلى العالم الجديد، بعد اكتشافه من طرَف كولومبوس وبنوْا هناك منازلهم على طريقتهم، وهكذا فإنّ نيويورك هي صُورة أخرى لهولندا في أوربّا، لكنْ جزيرة مانهاتن، المحاطة بالبحْر يتقدّمها تمْثال «الحرية» (وهو منْ صنْع فرنسيّ مُهدى إلى أمريكا) تبدو معْمارا استثنائيّا بامْتياز تفنّنَ في إبْداعه مهنْدسون أوربيّون ويابانيون: عمارات شاهقة تنطحُ السّحاب و»تقولُ» للسّماء أنْ انْزلي، شوارع طويلة وعريضة، وأزقّة فرْعيّة ضيّقة وطويلة هيَ الأخْرى، مُشاة عابرون في زَمَن عابر، فضاء شاسع يفْضي بكَ إلى اللاّمدى، كلّ شيْء هنا ضخْم، وأمام هذا المدّ العمْراني، يحْلو لك أنْ تسيرَ في أرْجائه بلا هوادة، إنّه يغْريكَ بالسيْر حتّى النهاية، سأبحث الآنَ عن وُودي ألانْ لينقلني إلى عالمه السّينمائي الخاصّ، ونخْبته النيويوركيّة المثّقفة ومفارقاتها اللغوية، هنا يحْضُر الجنْس والحبّ كعنصريْن أساسيين في أفلامه، العَلاقات العاطفيّة الفاشلة، تناقضات الطّبقة المثقّفة وإحباطاتها، أين المخرج الكبير إليا كازانْ؟ ممثله الكبير مارْلونْ بروندو؟ ميا فارو؟ صاحبَة الجَسَد المُشتهى كاترين مانسفيلد؟ الخ. هو ذا «الشارع الخامس» ومسارح بْرودوايْ، هي ذي عمارة توينْ ساتر، مبنى الأممالمتحدة، فإلى أين ستذهب أيّها السيد الآن؟ إلى مكان ليليّ للاستماع إلى موسيقى الجاز، هلْ تستمع إلى مايس ديفيسْ؟ أستمع إلى دوك إلنكتونْ، سيدني باشيتْ، إلى شارل مينغزو وغيرهم من رواد الجيل الأوّل. ويوسف لطيفْ؟ إنّه استثناءٌ في العزْف. مانهاتنْ سيتي: ثلاثة أيّام لم تكنْ كافية للإحاطة بهذه المدينة العالية حدّ التخمة، ومع ذلك فقدْ كانتْ كافية لمعْرفة وجْهها البارز المليء بالتّخوم والمُنعرجات. - ياكْ نْتَ غير ولْدْ درب غلّف، آشْ قاسكْ على نيويورك؟ شكرا لجلالة الملك محمد السادس، شكرا للصديق حسن أوريد، حدث هذا في سنة 2000 قبل التقاعُد.