عزيزي... قلت إنك لم تكن تريد الإقامة بشقتي، لأنه يؤلمك أن تدخل في منظومة مغلقةٍ أُعِدَّ كل شيء ليكون تكرارا ومرئيا لمن يعيش فيها، وإنك تشعر بالجُرم لو رفعت فنجانا ووضعته على الجانب الآخر من المنضدة. طيب يا صديقي لقد أصبت نفسك بنفسك، أنت تحترم الفنون وتستمتع بها وتُقدّر أنساقها وأنظمتها، وتستفظع خلخلة هذه الأنظمة، ولكنك تحرص على أن تعيش حياتك الخاصة دون نظام. وهذا هو الفرق بيني وبينك، أنا اعتبر حياتي لوحتي التشكيلية الخاصة، أشكلها بإبداع، وفي إطار نسق منتظم، وإذا كان فيها أي تكرار فهو تكرار فني إيقاعي يحافظ على الوحدة ويربط بين المتنوعات. أنا أعتبر الحياة فنا يعاش، لذلك أبدعها وأعيش فيها وأنت تعتبر الحياة مجرد مادة خام لصناعة الفن الأرقى الذي هو فوق الحياة عندك. لذلك تحتقر الحياة، وتعيشها بوحشية الحيوان البري. أنت تعتبر الحياة طبيعة يا صديقي وأنا أعتبرها ثقافة. أنت تنظر إلى الفن خارج الحياة وفوقها، وأنا أنظر إليه داخل الحياة لأنه جزء منها، لأنه هي. أنت تستطيع إضافة نقطة حمراء إلى الإبريق الأبيض في لوحة أوزينفانت، ولكنك لن تمانع في أن تشد، بشيطنة صبي، أوزينفانت نفسه، ومن أرنبة أنفه الذي يشبه أنبوب الإبريق لتمرغه في التراب... حسن يا صديقي. لقد أعددنا معا خطة بسيطة لتعيش في منزلي طيلة غيابي في الصيف، ولكنك أخذت منذ البداية، تضيق بخطتنا البسيطة. وأنت لا تعرف حتى لماذا تكاتبني، هلا لأنك ضقت بالنظام في بيتي، أو لأنك بدأت تتقيأ الأرانب، أو لأنك تحب كتابة الرسائل، أو لأن السماء تمطر.. وهذا فرق آخر بيننا ياصديقي، أنت لا تنظم نفسك وعالمك الباطني، ولا تفحص بتمعن رغباتك وآمالك وقدراتك، لكنني أفعل. وأنا أفعل لأنني أبدع نفسي، أما أنت فلا تفعل لأنك تبدع من نفسك.. تحرص على أن تظل مضطربا مرتبكا فوضويا، لكي تبدع من هذه الفوضى نظاما أعلى خارجها. ثم ماذا عن أرانبك التي تتقيأها؟ هل أنت متأكد أنها أرانب؟ أليست كلمات؟ فأنتم الأدباء مولعون بالمجازات، والرموز، وكلمات الأدب وحشية أقرب إلى الطبيعة والعزيزة واللعب منها إلى الثقافة والنظام والجد، وهي بالأرانب والسناجب، وأحيانا بالصقور والذئاب والنمور أشبه، لأنها إفرازات الحس وليست منتجات العقل. ولنفرض أنها أرانب فعلا.. هل أنت وحدك الذي تتقيأ أرانب؟ كلنا نتقيأ حيوانات يا صديقي، ولكننا لا نقتلها، ولا نخبئها.. بل نربيها ونروضها ونعلمها ونَسْلُكُهَا في نظام حياتنا. كلنا نحب كليندا لكن كليندا تحب من؟ تلك الكتب التي وجدتَها في شُقَّتي، لم تكن في البداية إلا أرانبَ مغلقةً على بَرّيتها المتوحشة، ولم تُدجَّن وتُصْبحْ كتبا في أدراج مكتبي إلا بعد أن قرأتها.. صوَّاني الجميل الذي أفرغتُه لك لتضع فيه ثيابك، لم يكن في البداية إلا حمارا وحشيا صغيرا تقيأتُه في الحمَّام، وعانيتُ في ترويضه ما لم أعانه في الكتب الأرانب، لأنه كان ينزع إلى أن يصبح حمارا أهليا يملأ الشُّقَّةَ والعمارةَ بالنهيق، ربما كان يحسبني أتانا. ولكنني بدأت أضع على ظهره الحقائب الثقيلة، وأربطه بماسورة الحمام، حتى ثبت وجمد، فأفرغت أحشاءه وصبغته بالأحمر الفاتح، فأصبح صوانا جميلا من الفرو النادر النفيس. سارة نفسُها، مدبرة المنزل التي خفتَ أن تكشف أرانبك، هل تدري ماذا كانت في الأصل؟ لقد أحسست بوحدة فظيعة ذات مساء، فتقيأتها. كانت أشبه بإنسان النيَانْدِرْتَال: قصيرة مُعَضَّلة عابسة. ظللت زمنا طويلا أدجنها وأروضها وأعالج جلدها الخشن وملامحها النافرة وصوتها الغليظ المُطَمْطم. حتى امْلاسَّتْ، وتناسقت ورقّت، وتعلمت اللغة والإتيكيت وتعلمت الأكل في وجبات، وبالشوكة والسكين، ثم علمتُها الطبخ وتدبير المنزل، وخيرتها بين عدة أسماء أنثوية، فاختارت (سارة). ربما كانت تحلم بفارس أحلام نبي. انظر يا صديقي كيف نستطيع بالعقل والثقافة والنظام أن نسمو بإنسان النيانْدِرْتَال إلى مقام الأنبياء، بدل أن نرد المدينة إلى الغابة كما تفعل أنت. كل الناس يتقيأون حيوانات يا صديقي، ويربونها ويعيشون معها، لكنهم لا يتحدثون عن ذلك لأنهم ليسوا كتابا، أو لا يتحدثون عنه لأنهم يتحمّلون مسؤولياتهم في تربية الغرائز وتهذيبها، ولا يتركونها (مُشَعْكَكَةً) ك (غوفالة) الكتاب. وتسألني «أتحبين مصباحك الخزفي ذا الفراشات والفرسان القدامى..»؟. كسرتَه إذن أو كَسَرَتْهُ أرانبك يا لمصباحي المسكين! كم أود لو رددته على الأقل إلى أصله.. ذلك أنه كان في الأصل شاعرا، وكان مغرما بعمر الخيام: رأيت خزافا رحاه تَدُورُ/ يَجِدُّ في صنع دِنَان الخمورْ يا عجبا، يخلط في طينها/ جمجمةَ الشاه بساق الفقيرْ لم يُنقذه من جنونك حتى أن الخزَّاف صاغه مصباحاً لا دِنّ خمر. ثم ما هذه النهاية الغريبة التي تنتهي إليها رسالتك (أنت ككل الكتاب مولع بالنهايات الصادمة المفاجئة، هل تريد أن تنتحر حقا؟ هل تظن نفسك إنسان من لحم ودم؟ أنت انتهيت كإنسان من زمان يا صديقي. لم تعد إلا ساردا. تريد أن تسقط من الشرفة مع أرانبك؟ اسقط إذا شئت لن تسقط إلا ورقة. ومن يدري؟ قد يلتقط الورقة أحد المارة ويدجنها، فتصبح كاتب قصة، وقد يسميها حينئذ (خوليو كورتاثار).