يعتقد الكثير من المثقفين المسلمين المعاصرين، بأن الدفاع عن تحرر المرأة و مساواتها في الحقوق و الواجبات مع الرجل يتقاطع في بعض الأحيان مع النصوص الإسلامية خاصة منها القرآن. و يجد هؤلاء المثقفين حرجا كبيرا في الدفاع –من منظور حقوقي معاصر- على النصوص الإسلامية و خاصة منها المتعلق منها بالإرث و بدونية المرأة في نصيبها من المواريث. بيد أن الباحثة المغربية أسماء لمرابط، تكشف في كتابها « النساء و الرجال في الإسلام: أي مساواة؟» المنشور مؤخرا باللغة الفرنسية، في رؤية معاصرة و جريئة من داخل النص التأسيسي للإسلام ، أي القرآن، عن الجوانب المنيرة و المعاصرة لمبادئه و لمقاصده في المساواة بين الرجل و المرأة و خاصة في مسألة المواريث المعقدة و المركبة. «للذكر مثل حظ الأنثيين»: هذا واحد من أشهر نصوص الديانة الإسلامية، التي حددت داخله مسألة الإرث في الإسلام برمتها. بيد أن تشريع الإرث في الإسلام، و هو أمر معقد على كل حال، لا يُلخص في هذا التقسيم الصالح لحالة محددة، لكنه شائع مع ذلك. لذا ينبغي أن نعيد تقييم هذا التقسيم «المجحف» في السياق الذي جاء فيه،أو بعبارة أخرى، في إطار الفهم الجديد للإرث الذي جاء به الوحي القرآني،و الذي أعطى لأول مرة في تاريخ الديانات التوحيدية، حق الإرث للنساء. فموضوعة الإرث ينبغي اعتبارها بهذا المعنى، ثورة كبيرة زعزعت الوضع الاجتماعي للمرأة في تلك الحقبة من تاريخ الحضارة البشرية. و من أجل فهم مقاصد النص القرآني، ينبغي إذن وضعه في زمانه و مكانه الاجتماعيين، و في السياق التاريخي لهذه الفترة. و بالفعل، ففي المجتمع القبلي حينها،حيث كان الغزو و النهب شائعين، كانت النساء هي المخلوقات الأكثر ضعفا في المجتمع، و كانت جزءا من الغنائم التي يتم الاستيلاء عليها. و كانت بالتالي تشكل ثقلا على من تقع عليهم مسؤولية حمايتهن. لم يكن لهن حق الإرث، بل على العكس كن هن أنفسهن متاعا يتم توزيعه بين الرجال بعد وفاة أقربائهن. و ينبغي توضيح أن النساء لم يكن الوحيدات المستبعدات من نظام الإرث، بما أن الأطفال و الشيوخ أيضا كانوا مستبعدين، على غرار جميع من لا فرس له و لا سيف و لا يستطيع خوض الحروب. فقد كان وحدهم القادرون على حماية القبيلة يملكون حق الإرث. هذا الأمر، لم يكن خاصا بالجزيرة العربية، بل كان شائعا في كافة الحضارات الإنسانية لتلك الفترة، المستندة إلى «اقتصاد» الغنيمة و القوة البدنية و الحرب. ففي هذا الإطار ينبغي إعادة تقييم إسهام القرآن في هذه المسألة. و في هذا الاتجاه ينبغي وضع مسألة الإرث، مع استحضار معطى أساسي، هو أن الوحي الإسلامي قد منح النساء الحق في الإرث و هو الحق الذي لم يذكره أي نص سماوي و لا أيديولوجيا و لا أي نظام سياسي في السابق، و لم يتم تطبيقه في أي لحظة من لحظات التاريخ السابقة. فبمنحه النساء هذا حق الإرث، المجهول في باقي الحضارات، دشن الإسلام اعترافا بالحقوق القانونية للمرأة، و هو الأمر غير المسبوق في تاريخ البشرية. و إذا ما عدنا إلى المصدر الأول و هو القرآن، و قمنا بجرد الآيات المتعلقة بالإرث،فسنجد آيتين أساسيتين في توزيع التركة، و هما تلخصان وحدهما فلسفة القرآن فيما يخص هذه المسألة. و هاتان الآيتان هما : «للرجال نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا» (سورة النساء – الآية 7 ) «و لا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا» (سورة النساء – الآية 32) نلاحظ من خلال هاتين الآيتين بأن القرآن قد وضع قاعدة أساسية هي قاعدة المساواة في الأنصبة بين الرجال و النساء في التركة. و هذه القاعدة جائزة «كيفما كانت أهمية التركة و حجمها».و نشير في هذا الصدد إلى تأكيد القرآن في نهاية الآية على «إلزامية» هذا التقسيم بقوله :نصيبا مفروضا». قبل المضي قدما، من المفيد تفحص ظروف نزول هذه الآيات، و هي الظروف التي توضح لنا، كالعادة، سياق المرحلة و الروح المرافقة لنزول هاته الآية. ففيما يخص الآية رقم 7 من سورة النساء، فإن أغلب الفقهاء القدامى يقولون أنها نزلت جوابا على سؤال امرأة تُدعى أم قحة.جاءت هذه المرأة تشتكي إلى الرسول (ص) بقولها أن زوجها توفي و ترك لها بنات و أملاك مهمة ، بيد أن هذه الأملاك جميعها في يد أقرباء زوجها المتوفى بينما هي و بناتها في عوز و حاجة. استدعى النبي (ص) هؤلاء الأقارب، فرفضوا إعطاء الأرملة و بناتها أي حصة من الميراث بدعوى أنهن لا يركبن الفرس و لا يحاربن العدو و لا يتحملن أي ثقل. فهن حسب العرف السائد آنذاك، لا يشكلن أي مردودية و ينبغي بالتالي إقصاؤهن من التركة. استمهلهم الرسول حتى يأتي جواب الخالق، الذي لم يتأخر فنزلت : «للرجال نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا». فهذه الآية جاءت لتضع قاعدة قانونية جديدة في النسق الاجتماعي لذلك الوقت، بإعطاء النساء، ليس فقط نصيبا من التركة – و هو ما لم يكن يحق لهن- بل نصيب مُساو لنصيب الرجال. فهذه الآية هي التي تضع أساس المساواة في الإرث بين الرجال و النساء. فجواب القرآن على شكوى الأرملة ذات البنات، هو في حد ذاته الدليل الواضح و البديهي على تصميم القرآن على وضع حد للأعراف التمييزية تجاه المستضعفين بصفة عامة و النساء خصوصا. فالفقيه المفسر إبن كثير يؤكد في تأويله لهذه الآية : أن الجميع على قدم المساواة أمام هذا القانون الإلهي، و الجميع –نساء و رجالا- متساوون في مبادئ قواعد الإرث» فهذا الرد القرآني ، جاء مرة أخرى مدافعا عن قضية المستضعفين، المقصيين من المجتمع، و أغلبهم من النساء. في كل المجتمعات البشرية، تعمل الأنظمة القانونية التي تضعها النخبة الحاكمة، على أن تستفيد هذه النخبة المكونة من الأغنياء و الأقوياء وحدهم من الثروات الموروثة. بينما يتم إقصاء الضعفاء مثل الأطفال و النساء و الشيوخ الذين يتم استغلالهم و استنزافهم و تركهم في أسفل السلم الاجتماعي. فهذه واحدة من قوانين التاريخ الحضارة البشرية، التي شيدت منذ أزمنة أخلاقياتها على هذا النمط من الانتقاء التمييزي. فالقرآن «رد» إذن من جديد، على مطالب النساء، من خلال شكوى أم قحة، التي شكلت صرخة استنجاد من كافة نساء تلك الآونة سمعها خالق الكون. استجاب القرآن لشكوى هذه المرأة بوضعه قاعدة المساواة في الإرث بين الجميع، رجالا و نساء. بل إن القرآن جعل من هذا التقسيم المساواتي إلزاما و واجبا. هذه الخصوصية ينبغي أخذها بعين الاعتبار، اليوم قبل الأمس، في وقتتشكل فيه مسألة الإرث جزءا مما سنُسميه «اللامُفكر فيه» الديني في أرض الإسلام. أما بخصوص الآية الثانية (32 من سورة النساء) فنذكر أنها تؤكد على نفس قاعدة المساواة بين الرجال و النساء، لكن هذه المرة أخذا بعين الاعتبار الأعمال التي بذلها الرجال و النساء خلال حياتهم على الأرض. فهذه الآية تلعب دورا هاما في التأكيد على الاستقلالية الاقتصادية للمرأة :» للرجال نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا». و إذا ما استعملنا اللغة الشائعة في قاموسنا الحالي، فإن مبادئ هذه الآية تتطابق مع ما نسميه اليوم «الحق في المساواة في الأجر». و بالفعل،كما يؤكد ذلك الفقه الإسلامي، فإن الإسلام، من خلال هذه الآية و غيرها، حريص على الاستقلالية المالية للنساء. فللنساء، على غرار الرجال، حق تدبير أملاكهن و شؤونهن التجارية بالبيع و الشراء، و كذا حقهن في الإيصاء و في الإجارة أو التوكيلات الشرعية. هذه الآية نفسها هي التي تشكل أساس المبدأ القانوني الإسلامي الذي ينص على أنه لا حق للزوج في التدخل في أملاك زوجته و مداخيلها. و بالموازاة مع التأكيد القرآني لهذه المساواة في القواعد المشتركة للإرث، و للمساواة الاقتصادية بين الرجال و النساء، فالنصوص الفقهية تذكر وقائع تاريخية تتعلق بأسباب نزول الآية 32 من سورة النساء كالتالي: فحسب عدة مصادر، فإن هذه الآية نزلت بمناسبة تنافس بين الرجال و النساء، بدأ يتسع في عهد الرسول (ص). إذ جاءت عدة نساء إلى الرسول (ص) يشتكين من أن الرجال يحصلون على غنائم كثيرة بفعل مشاركتهم في الغزوات، و بذلك جئن تطلبن السماح لهن في المشاركة في الغزوات أيضا كي تحصلن على ما يحصل عليه الرجال. و من بين «المطالب» النسائية التي قُدمت للرسول (ص)، يذكر الرازي امرأة دون ذكر إسمها، جاءت تشتكي إلى الرسول (ص) قائلة : إن الله الذي خلق الرجال و النساء واحد و أنت رسول الله إلى النساء و الرجال و أبونا جميعا هو آدم و حواء، فلماذا لا يخاطب الله إلا الرجال و لا يخاطبنا نحن النساء. و من المهم الوقوف عند الحس النقدي و الذكاء اللذين كانت تتميز بهما النساء في تلك الآونة، بعد أن تحررن بقوة الإيمان.مما دفع تلك المرأة إلى مخاطبة الرسول (ص) بهذه الطريقة الاحتجاجية الحرة و الصريحة. و لنقف أيضا عند فضاء حرية التعبير الذي سمح للنساء، على غرار هاته المرأة، بالتدخل بدون أي عقد في اجتماعات مختلطة. فهذه وقائع تاريخية تؤكد أن النساء حينذاك استوعبن بسرعة قيم الحرية و الاستقلال التي بلغتهن عبر الخطاب الروحي الجديد. و لا ننس أخيرا، بأنهن تلقين العون و المساعدة من طرف الروح العالية و التسامح و الحس التعليمي لدى النبي (ص)، الذي بذل كل جهد من أجل إرشاد و تشجيع النساء في خطواتهن الأولى على طريق الانعتاق. فكيف حصل أن النساء، قبل أربعة عشر قرنا، كن تسمحن لأنفسهن بهذا الخطاب و التساؤل و كن تتمتعن بفضاءات حرية واسعة، في حين أن هاته الفضاءات اليوم أصبحت من باب الخيال لدى أغلب الجماعات المسلمة؟ لا يمكن إلا أن نشعر بالتعجب لرياح الحرية التي كانت سائدة في عصر الوحي، و التي تبدو في «مفارقة» تامة مع الوضع الراهن، حيث العديد من النساء المسلمات عبر العالم لا تملكن فضاء محترما للعبادة في أكبر المساجد التي يبدو أنها لم توجد إلا للذكور. لكن الأخطر، في كل هذا، هو أن أغلب المسلمين و المسلمات اليوم يعتقدون بأن تهميش النساء من الحقل و الفضاء الدينيين، يشكل جزءا من الإسلام نفسه, و للعودة إلى أسباب النزول، فإن هذه الآية جاءت ردا على كثير من الشكاوي الصادرة في أغلبها من النساء، بيد أن هناك نصوص تقول أن بعضها صدر عن الرجال أيضا. و بالفعل، فإن التعليقات الكلاسيكية تتحدث عن مطالب من الرجال تدعو إلى حصص أكبر من الغنائم و المنح بدعوى أنهم ذكور. فالآية جاءت إذن في هذا الجو من التنافس بين الرجال و النساء و هو ما تشير له بداية الآية : «و لا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ «. فمن أجل وضع حد لهذا التنافس نزلت هذه الآية القرآنية التي ساهمت بذلك في وضع مبدأ المساواة بين الجنسين، و التي تمنح القيمة بالفعل لمقياس واحد هو «الاستحقاق»: « لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا». ليس الجنس، ذكرا أو أنثى هو المعتمد في تقييم البشر، بل عملهم و قدرتهم على العطاء، أو بعبارة أخرى بذل المجهود الداخلي الضروري للوصول إلى هذه القيمة الأخلاقية التي هي الاستحقاق. فالنص الإلهي واضح كامل الوضوح: المخلوقات البشرية، نساء رجالا، سيُحاسبون على جهودهم المبذولة من أجل الخير في هذه الدنيا و ليس حسب أصلهم أو جنسهم أو ثرائهم. و هذا لسوء الحظ، ليس هو التأويل الذي وضعه كثير من المعلقين القدامى الذين سيبقون رهائن لحقلهم الثقافي، و الذين سيرفضون الاعتراف بالمساواة بين الرجال و النساء، رغم نزول هذه الآيات الواضحة جدا. فالإمام الرازي مثلا يؤكد أن «الرجال لهم نصيب استحقوه بعملهم، أي بإعالتهم للنساء، بينما نصيب النساء يكتسبنه بالحفاظ على عفافهن و خضوعهن لأزواجهن و قيامهن بأشغال البيت...» و هذا التفسير يبعد كثيرا عن الأهاف و المقاصد المساواتية التي أكدها القرآن، في تلك الآية التي لم تذكر أبدا إعالة النساء و لا الخضوع و لا الطبخ. نجد هنا هذا الإصرار –لدى أغلب علماء المسلمين القدامى و المعاصرين- حول مسألة خضوع المرأة لزوجها دون أن نجد له أي ذكر في الآية المذكورة. هذا النموذج في التفسير يُظهر عمق الهوة بين المبادئ القرآنية من جهة، و بينالتفسير الذي قدمه عدد من الفقهاء القدامى من جهة ثانية. يمكن عزو ذلك إلى أن العلماء ظلوا متأثرين بوسطهم الاجتماعي و الثقافي، بيد أن الإشكال هو أنه خلال مرحلة ركود و انحدار الفكر الإسلامي، تم تكريس هذه التأويلات الأولية، إلى درجة الدوغمائية التي تعتبرها «مقدسة» لا يجوز مسها. هذه التفسيرات لم تخضع أبدا لأي دراسة تناصية أو نقدية، و بهذا ظلت إلى يومنا هذا على شكل «حقائق مطلقة» في الدروس التي تلقى في الجامعات الإسلامية عبر العالم. علاوة على هاتين الآيتين اللتين تضعان قواعد المساواة في الإرث، نجد في القرآن عدة آيات تعرض و تحدد بشكل دقيق الأنصبة الواجب توزيعها من التركة.فتقسيم الإرث يستند أساسا على ثلاثة معايير أساسية لفهم المنطق القرآني في تقسيم التركة: - درجة قرابة الوارثين مع الشخص المتوفى: فكلما كانت درجة القرابة من المتوفى أقرب، سواء كان الوارث ذكرا أو أنثى، كلما كان نصيب التركة أهم. - موقع الجيل الوارث: فالجيل الشاب (ذكرا أو أنثى) البذي يستهل حياته و يتطلع للمزيد من المسؤوليات يحظى بنصيب أهم من نصيب الجيل القديم الذي يوجد في نهاية الحياة و يعتبر ثقلا على أعضاء الأسرة الشباب. - المسؤولية المادية التي يتحملها أب الأسرة جميعا.في هذه الحالة وحدها يتم تفضيل الرجال على النساء بسبب مسؤولياتهم العائلية التي ينبغي أن يتحملوها. من الضروري إذن استحضار هذه القاعدة الأساسية في منطق القرآن من أجل فهم الأسباب التي جعلت بعض الأنصبة أكبر من أنصبة أخرى.فالمسؤولية المالية، ممزوجة بدرجة القرابة، هي التي تعطي الشرعية «للتفضيل» الظاهري للبعض عن البعض الآخر ... و نجد هنا نفس الفلسفة القرآنية التي تمنح الأولوية لحماية الفقراء و المستضعفين في البنية العائلية التقليدية، التي تتطابق مع مفهوم العائلة الموسعة و ليس مع الأسرة النووية السائدة حاليا. من المهم تحديد هذه الفروقات ، خاصة و أن الانطباع السائد حول الإرث في الإسلام، هو أنه ليس هناك سوى قاعدة واحدة للإراثة هي قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين»، و هي قاعدة تبدو «غير عادلة» في منظورنا العصري البعيد عن الأسس و المرجعيات الاجتماعية للعائلة التقليدية. و الواقع أن قوانين الإرث في الإسلام لا تُختزل في هذه القاعدة الوحيدة, فهناك أكثر من ثلاثين حالة في القرآن ترث الأنثى فيها نفس الحصة التي يرثها الذكر، بل أكثر منهى في بعض الحالات. فمثلا في حالة وفاة أحد الأولاد، فإن الوالدين –الأب و الأم – يرثان نصيبا متساويا لكل منهما. و الآية الوحيدة التي تحدد نصف النصيب للبنت هي التي تتعلق بالأخت التي ترث نصف نصيب ما يرثه أخوها : «يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين» (النساء آية 11). هذا التقسيميمكن عزوه كما قلنا في السابق، إلى المسؤولية المالية التي تعود إلى الإخوة، بينما تبقى الأخوات حرات في التصرف في أموالهن كما يحلو لهن. و قد أول البعض هذه القسمة بكون الأخت تتسلم «مبلغا صافيا» ينضاف إلى متاعها بينما الأخ يتسلم «مبلغا خاما» ينبغي أن يحسم منه كافة النفقات الأخرى المتعلقة بإعالة الأفراد المسؤول عنهم و من بينهم بطبيعة الحال أخته. فالقسمة التي تحدد نصف النصيب للنساء داخل الأسرة الواحدة جاءت استجابة للشروط المفروضة من طرف البيئة الاجتماعية لتلك الفترة. و يتعلق الأمر إذن بضمان توزيع تقليدي و تضامني لأملاك العائلة. فالأخ حسب المنظور الإسلامي، عليه تحمل مسؤولية إعالة الأسرة بما فيها أخواته و أقرباءه المعدمين أو الضعفاء الذين يتطلبون تحملا دائما. هذا المنطق القرآني لتقسيم التركةينبغي فهمه بوضعه في إطار البنية العائلية المستندة إلى المجموعة المتضامنة. هذه البنية الموسعة للعائلة تتجه في عصرنا الحالي إلى التحول للأسرة النووية و المعزولة، التي لم تعد لها نفس المتطلبات و لا نفس بنية العائلة التقليدية الموسعة. مثل هذا التقسيم أصبح من الصعب تفهمه في عالمنا المعاصر، الذي تسيره الأنانيات و الوحدة و الانعزال، و الذي يتميز بتحرر الفرد و انعتاقه. فالقرآن يوزع بصورة عادلة المواريث في بنية العائلة التقليدية. لكن كيف الحفاظ على أخلاقيات هذه النظرة المساواتية و العادلة، و تطبيقها في عصرنا الحالي، في الوقت الذي لم تعد فيه الإخوان يتحملون إعالة الأخوات و الإنفاق عليهن، بل إن هؤلاء الأخوات أصبحن يساهمن في الاقتصاد الأسري إسوة بالوالدين و الإخوان؟ ما قولنا اليوم في النساء اللواتي يتقاسمن التدبير المالي للأسرة مع أزواجهن، أو يتحملن المسؤولية كاملة في حالة ضعف مداخيل الزوج أو انعدامها تماما؟ ما القول في هؤلاء الرجال جميعا الذين يجدون أنفسهم في حالة عجز كامل في تحمل الإنفاق على أسرتهم وحدهم أمام الصعوبات المهنية لعصرنا الحالي؟ من المحقق أنه في سياقنا المعاصر، الذي يعرف تحولات مجتمعية كبيرة، من الصعب العثور على الظرفية الاجتماعية المثالية التي تسمح بضمان العدالة في الإرث، كما أوصى بها و أرادها القرآن. فالتطبيق «الحرفي» للآية المذكورة آنفا في سياقنا الراهن، و هو ما أصبح بنيويا غير عادل، بل عاملا لتعميق اللامساواة، و هو ما ينحو في اتجاه عكس مقاصد القرآن، الذي يدعو –كما رأينا ذلك- إلى حماية أملاك النساء و المستضعفين و الأقليات الضعيفة، كما ينشد التوزيع العادل للمسؤوليات داخل النواة الأسرية. فقد دشن القرآن ، بقوانين الإرث، عهدا جديدا يسود فيه «الحق» و بذلك ألغى سيادة الأعراف التمييزية. و قد قام بذلك أخذا بعين الاعتبار المرجعيات الاجتماعية و الثقافية لعصره، مع رسمه للقيم القاعدية و الأساسية للمساواة و العدالة، التي ينبغي أن تسود دائما، كيفما كان السياق الاجتماعي و الثقافي. فإلى هذا المقصد القرآني الأول ،ينبغي الرجوع من أجل مواجهة تحديات السياق المعاصر، الغامض و المعقد و الظالم بشكل خاص. لهذا فمن الضروري أكثر من أي وقت مضى، في هذه اللحظة التاريخية، الرجوع إلى الآيات التي تحدد قواعد المساواة العامة في الإرث، من أجل إعادة قراءة الآيات الأخرى التي تبدو اليوم غير ملائمة مع درجة التحرر و التطور الذي بلغته المجتمعات المعاصرة، على ضوء التعاليم الأساسية و المساواتية للقرآن. و الحل موجود في القرآن نفسه، و خاصة في هذه الآية الأساسية التي تُسعدنا بمقاربتها المساواتية في الإرث : « للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و للنساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون مما قل منه أو كثُر نصيبا مفروضا». هذا «التابو» الذي لا زال يثقل على النقاشات المجتمعية داخل أرض الإسلام، خاصة منه مسألة الإرث ، يمكن تجاوزه إذا ما عدنا إلى روح القرآن، و طورنا نقاشنا من داخل الإسلام مع بقائنا أوفياء لأسسه الأخلاقية. إن القرآن يمنحنا هنا أيضا الدليل على أنه ليس هناك أمر نهائي لا مغلق، بل على العكس ينبغي وضع الأمور في سياقاتها مع استحضارنا للمقاصد النهائية للرسالة الروحية، و من ضمنها المبدأ الأول و هو العدالة التي تمثل واحدا من عناصره المؤسسة. فالعودة إلى هذه الآية المركزية و الأساسية في الإرث، تساهم في الإبقاء على روح العدالة في الإسلام حية في القلوب و كذا في واقعنا الاجتماعي اليوم.