ج) وعي وإدراك تيار التجديد والاجتهاد لخطورة تغير الواقع وجمود النص المنطلق الثاني لأصحاب هذا التيار هو، كون مجتمعات القرنين الأخيرين ليسوا كمجتمعات عهد الدعوة الإسلامية، حيث إن الفرق بينهما كبير جدا والفجوة أوسع مما يمكن أن يتصوره العقل البشري العادي و البسيط. فالقيم في جزئياتها ليست هي نفس القيم بحكم أن الأنساق الاجتماعية قد تغيرت وتبدلت بقوة التاريخ والزمان. فقد حلت الأسرة النووية محل الأسرة الممتدة والعشيرة أو القبيلة، وغطت حتى على القرابة الدموية بمفهومها الواسع، ولم يعد يدخل ضمن آية أولي الأرحام التوارث بين الأنصار والمهاجرين. وضمان الأمن والحماية أصبح من مسؤولية الدولة والقانون. كما أن المرأة قد تعلمت وتثقفت واعتلت مناصب هامة في الدولة عن جدارة واستحقاق. وأصبحت تساهم في النفقة على البيت أكثر من السابق وأحيانا تتحمل تلك المسؤولية بمفردها، حيث أثبتت بعض الدراسات في المغرب أن خمس الأسر المغربية تنفق عليهن نساء، سواء في شكل بنات أو زوجات وذلك مع وجود الرجل سواء كان أبا أو أخا أو زوجا أو أخ زوج أو عدمه لسبب من الأسباب...، إلى جانب تربية الأبناء وتدبير شؤون العائلة، والسهر على الشيوخ والمساهمة في تدبير الشأن الوطني وانخراطها بكل جدية ومسؤولية ومهنية واحترافية في تحقيق التنمية كخطة وطنية تتصدر أولويات الدولة خاصة المغربية، مما يحتم حصولها على مجموعة من الحقوق كمساواتها مع الرجل في الإرث مقابل ما تقوم به من مسؤوليات وتكاليف. وتخوض هذه الفئة مؤخرا بكثير من الإصرار والاستماتة نضالات شرسة من أجل تحقيق المساواة في الإرث ورفع التعصيب مؤمنة من أن ذلك لا يخالف مقاصد الشرع الإسلامي، القائمة على العدالة وتحقيق مصالح العباد والتيسير... معتمدة على عمومية ومرونة الإسلام وفعالية عملية الاجتهاد والتجديد التي رافقته منذ فجر الدعوة الإسلامية، مما جعله دينا صالحا لكل زمان ومكان. وكذلك بحجة أن المرأة هي إنسان مثلها مثل الرجل لها مثل ما عليها بحكمة ربانية وليس هناك أي مبرر لتكريس دونيتها وتبعيتها للغير كما حكمت عليها بذلك بعض المجتمعات ذات الأنظمة الباتريكية والقيم الذكورية، التي ورثنا عنها هذه التركة غير المشرفة. والواقع المعيش أثبت للصم والعميان أن المرأة ليست ناقصة عقل ولا ذاكرة ولا هي بشيطان ولا... وإنما المسألة وكل ما يدور حولها مرتبط بطبيعة التربية والتوجيه الذي يعكس الإرادة السياسة للدول والحكومات ومدعومة بالمؤسسة الدينية، مع بعض الاختلافات البيولوجية التي ليس لها من الأثر ما يجعلها تشكل أساس ما تعانيه المرأة من تبخيس وتحقير واستغلال. وانطلاقا من وضعيتنا فإن الصواب، هو أن يتم التجديد على أساس معطيات الواقع وأدواته وأساليبه، وفي إطار المقاصد الإسلامية، مما يجعل النصوص تستوعب التغيرات والتحولات وتستجيب لمصالح العباد. وليس أن تخضع هذه التغيرات للنص كما يؤوله السلفيون الذين يغيبون حقيقة أن القرآن في جزئه التشريعي على الأقل، نشأ من أسباب النزول أي أولوية الواقع على الفكر. ومن الناسخ و المنسوخ أي أولوية الزمان والحركة والتقدم على النص. وبالتالي فالنص التشريعي على الأقل، ما هو إلا إجابة لنداء الواقع، فالواقع يسأل سؤالا و النص يجيب عنه، فالأولوية للسؤال على الجواب (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها تشتكي إلى الله و الله يسمع تحاوركما)، كما أشارت إلى ذلك، د زينب إبراهيم شوربا..إضافة إلى كل الآيات التي تبدأ بعبارتي، يسألونك أو يستفتونك، فكلها نصوص تؤكد بما لا يترك مجالا للشك أن النص القرآني في جانبه التشريعي هو عبارة عن أجوبة عن أسئلة الناس التي كانت تهم مشاكلهم ومصالحهم وقضايا عيشهم حتى في أبسط جزئياتها» يسألونك عن المحيض». ناهيك عن أن تنزيل القرآن مرتلا ومتفرقا سببه هو كون أن كل آية تنزل كانت مرتبطة بحدث معين و استجابة لحاجة محددة. ولا أحد ينكر على أن هذه أمور- كما تثبتها العلوم الاجتماعية والجغرافية البشرية...- تتبدل ليس على مر خمسة عشر قرنا بل بين عشية وضحاها. يؤكد ذلك خليل عبد الكريم من خلال قوله: (إن تغير الظروف المادية لدى مجتمع معين يؤدي بطريق الحتم واللزوم إلى تغير أنساقه الاجتماعية وعاداته وأعرافه وأفكاره بل وعقائده وعلى أحسن الفروض تفسير تلك العقائد تفسيرا مخالفا وجديدا). والنبي المصلح (ص)، كان يجتهد وييسر حتى في نصوص العقيدة. وعمر اجتهد وأوقف أحكام المؤلفة قلوبهم وقطع يد السارق... وهناك فقهاء اجتهدوا ...وهناك مجموعة من الأحكام التي تم تجاوزها عمليا بفعل الزمان وإن بقيت ثابتة في النص مثل أحكام ملك اليمين وأحكام الرق وأحكام العتق والغنائم والفيء وكل الأحكام المرتبطة بخصوصيات حياة البدو آنذاك. والعبرة هو أن النص القرآني من طبيعته القابلية للاجتهاد والتجديد وفي قدرته احتواء التغيرات والمستجدات عن طريق تحقيق الحاجيات والتحسينات وليس تجاهلها وإلغاءها أو احتواءها كما يعبر عن ذلك السلفيون المعارضون للتجديد سرا أو علنا. د) وجود قواعد إسلامية تدعم الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في الإرث ورفع التعصيب: - الحكم الشرعي المبني على علة يدور مع علته وجودا وعدما ومعنى هذه القاعدة هو أن الأحكام التي تكون وراءها أسباب تزول بمجرد زوال أسبابها مثل ما قلناه عن «للذكر مثل حظ الأنثيين» فالسبب وراء هذا التفضيل بين حصص كل من المرأة والرجل في الإرث، هو أن الرجل، كما يدعون، كان قواما على المرأة وحاميا لها وإن كان التاريخ يثبت بأن العادات كانت تختلف بين القبائل والعشائر وبالتالي التعميم هو خطأ. وكيفما كان الحال، فالظروف قد تغيرت والمرأة أصبحت تعمل وتنفق كما أنها حققت تفوقا في تحصيل العلم والمعارف مما سمح لها أن تتولى مناصب عليا عن جدارة واستحقاق وإن كره التيار الذي كان، في يوم ليس ببعيد، يحرم عليها الخروج للدراسة والعلم ويتهمها بضعف قدراتها على الاستيعاب والتحصيل. أما عن الحماية فهي مسؤولية الدول والحكومات. بمعنى إذا كانت قوامة الرجل على المرأة قد انتهت كسبب للتمييز في الإرث، فما هي علة استمرار الحكم الذي هو»للذكر مثل حظ الأنثيين»؟ وفي هذا الباب تقول الدكتورة بشرى الشقوري: (فالنصوص المتعلقة بالمتغيرات الدنيوية ليست - كما تشهد بذلك بداهة الفطرة - مرادة لذاتها، وإنما هي مرادة لعللها و غاياتها و مقاصدها، و هي تحقيق مقاصد العباد.. فهذه الأحكام المستنبطة من هذه النصوص تدور مع هذه العلة الغائية - المصلحة - وجوداً و عدماً. و يشهد على ذلك اتفاق أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي على ضرورة الاجتهاد مع الأحكام التي ارتبطت بعلة تغيرت، أو بعادة تبدلت، أو بعرف تطور، حتى ولو كانت هذه الأحكام مستندة إلى نص، وانعقد عليها إجماع في العصر الذي سبق تغير العلة، و تبدل العادة، و تطور العرف.... الاجتهاد في هذه الحالة؛ أي مع وجود النص (القطعي الدلالة والثبوت، والمتعلق بالمتغيرات من الفروع الدنيوية) ليس معناه الاجتهاد الذي يرفع وجود هذا النص رفعا دائما و مؤبدا، فهو اجتهاد لا يتجاوز النص فيلغيه، وإنما يتجاوز الحكم المستنبط منه، وهذا التجاوز للحكم ليس موقفا دائما و أبديا. إن مبدأ « لا اجتهاد في مورد النص» يسري على «الاجتهاد» الذي يقصد به «تقييم» أصل الحكم، وما إذا كان « صوابا» «خطأ» وقت تقريره في النص. و لا يسري على الاجتهاد الذي ينطلق من الإيمان بسلامة أصل الحكم وقت وروده في النص، و لكن يرى أن الظروف المستجدة جعلت الحكم لا يحقق «المصلحة» التي شرع من أجلها، فيقترح تعويضه - مؤقتا و ما دامت تلك الظروف قائمة - بحكم يحافظ على المصلحة الشرعية المقصودة في الحكم الأصلي، أو مصلحة أعم تفرضها مقاصد الشريعة). - التيسير مقصد من مقاصد الشريعة وقاعدة من قواعدها قاعدة التيسير، تتمثل في كون «العبد» إذا كلف بعمل معين و صدر في حقه أمرا شرعيا و كان ملزما بهذا الأمر الشرعي و شق عليه العمل به أو شق الالتزام به، فإن الشريعة جاءت باليسر و التيسير على هذا العبد الذي أمر بهذا الأمر الشرعي الذي كان سببا في وقوع هذا العبد في المشقة و هذا من رحمة الله تبارك و تعالى و هذه القاعدة أدلتها كثيرة جدا في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن ذلك قال تعالى: - (... يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر... ) [البقرة: 185]. - (... و ما جعل عليكم في الدين من حرج...) [الحج: 78]. - قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل و لأبي موسى الأشعري و لمن أرسلهم دعاة ومعلمين: 0إنما بعثتم ميسرين و لم تبعثوا معسرين.) وقال: ( إن هذا الدين يسر و لن يشاد الدين أحد إلا غلبه). - قالت عائشة رضي الله عنها: (ما خير النبي عليه الصلاة و السلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما.) الخلاصة هو أن شريعة الله جل جلاله، من مزاياها العظيمة أنها شريعة قائمة على التيسير و لذلك فمن تأمل نظام الإرث والتعصيب في وقتنا الحالي يجد أنه يضع الأسرة النووية في حرج وضيق وعسر مما يجعل الآباء، وهم معذورون في ذلك، يتخذون أكثر من سبيل لتمرير تركتهم لأولادهم بالتساوي لأنهم لا يجدون مبررا للتمييز بين الذكور والإناث. فقد ربوهم على نفس المبادئ وعلموهم في نفس المدارس وحملوهم نفس المسؤوليات وينتظرون منهم نفس الإنجازات والعطاءات. فبأي حق سيميزون بينهم؟ أو كيف سيفضل الرجل أخاه أو ابن أخيه أو عمه أو ابن عمه عن ابنته التي هي من صلبه؟ أي الأشد قرابة إليه؟ أو كيف سيرضى بالضرر للزوجة التي أفنت عمرها إلى جانبه في عراك الحياة وصراعها؟... - الضرورات تبيح المحرمات: الضرورة من الاضطرار ، والاضطرار لغة هو: الاحتياج إلى الشيء بمعنى أحوجه وألجأه ، والضرر هو خلاف النفع وضد النفع، وهو كل ما تمس إليه الحاجة. والضرورة شرعاً: أن تطرأ على الإنسان حالةٌ من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويباح عندئذٍ ارتكاب الحرام أوترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعا للضرر عنه في غالب ظنه ، ضمن قيود الشرع. ومن تجليات التأصيل الشرعي للضرورة في القرآن قوله تعالى: ( فمن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) سورة البقرة الآية 173 . ( فمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْم ) سورة المائدة الآية 3 . وفي السنة النبوية قوله (ص) : عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا مَخْمَصَةٌ ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ الْمَيْتَةِ ؟ قَالَ : (إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا وَلَمْ تَغْتَبِقُوا وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا) رواه أحمد (36 / 227) . و الإباحة بحكم قاعدة (الضرورة تبيح المحرمات) لها ضوابط لأن الضرورة تقدر بقدرها. ومن هذه الضوابط حسب ما جاء بقلم آدم يونس: - أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة بمعنى أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على الدين أو النفس أو المال أو العرض أو العقل، وذلك بغلبة الظن والتجارب عندها يجوز الأخذ بالأحكام الاستثنائية لدفع الخطر. - أن يتعيّن على المضطر مخالفة الأوامر أو النواهي الشرعيّة وأن لا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى من الأمور المباحة إلا المخالفة... وإذا كان مفهوم الضرورة واضح وإذا كانت الضرورة ثابتة في المطالبة بالمساواة في الإرث بين المرأة والرجل، يؤكد أهل التجديد والاجتهاد - وانطلاقا من الواقع واعتمادا على مجموعة دراسات وأبحاث - على أن الضرورة المتعلقة بالمساواة في الإرث هي ضرورة ملحة تتجاوز الحدود التي وضعها الفقه وهي (الخوف على هلاك أو تلف الدين أو النفس أو المال أو العرض أو العقل). فمن ناحية الحد فمسألة عدم المساواة في الإرث قد تجاوزت الخوف من الهلاك إلى حدوثه فعلا، وعلى مدى ما يزيد على أربعة عشر قرنا تقريبا. أما عن الجهة التي يصيبها الهلاك والتي حددت في الدين أو النفس أو المال أو العرض أو العقل، فبالنسبة لمشكل عدم المساواة في الإرث، الجميع يعرف أنه في جوهره مشكل مالي / اقتصادي، والجميع يعرف مدى أثر المال و الاقتصاد على باقي جوانب الحياة الأخرى، ومنه يجدون بأن الهلاك الذي ينجم عن التمييز في الحقوق الاقتصادية بما فيها الإرث لن يمس فقط جانبا أو جانبين مما حددهما الفقه وإنما يمس جميع الجوانب، المال والنفس والعقل والعرض، وبل أنه مس ويمس حتى مبادئ الدين من حيث أنه يعطي دلالة على أن الدين لا يخدم مصلحة الإنسان وهذا بعيد كل البعد عن حقيقة وجوهر الإسلام. انتهى