و أنا أغادر «مطعم التراب» بمكناس هذا المساء، سافر عصفوري الداخلي إلى روح « فيديريكو غارثيا لوركا» المقدسة و الطاهرة، حيث أحسست ساعتها بقيمة الليل عنده، بمهمشيه و التائهين في أضوائه و المصلوبين على أرصفته.. لم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء حينما لحق بي صديقي المغربي، و اقترح علي تغيير المكان و الذهاب لمؤازرة بعض العائلات الفارين و المطاردين من المدينة. لم أجد بدا من قبول الدعوة لكي لا أعكر مزاجه و لكي لا تنزعج طامو المكناسية.. تركت لغة التفاصيل في مكانها. لم أسأله عن نيته في الذهاب بعيدا الى البحث عن الفوارق في هذه الساعة الليلية. كان الجو باردا و السماء ترهق من ينتظر منها مطرا و أشياء أخرى. لا، لا، لا..هل تكون مكناس و حشية إلى هذا الحد, مقدسة و قبيحة في آن معا, منحطة, لا قلب و لا عقل لها. و حينما لم أجبه، استرسل في كلامه قائلا: لا جمال و لا حياة في هذه المدينة.. التي يعيش أهلها على الماضي و على فنطازيا من سرق أحلامهم و غادرها قبل مطلع الفجر بدون رجعة..! لم أجب عن أسئلته التي كانت تستفزني..فضلت القيد كي لا أثور في وجهه. هذا هو صديقي المغربي، كلما شعر بالحيف و الظلم إلا و ثار بلا طقوس ضد السجود و خداع البصر. لم أكن أريد أن أزعج لوركا في قبره، وهو الذي كان يعشق و يحب الناس حتى العظم. ثم أني فضلت أن أكون مسالما مع صديقي المغربي كي لا أفقد حبه لي و احترامه لصداقتنا التي تنبجس منها هويتنا. حينما اقتربنا من مكان الحادث، لم يكن بين الضحايا جروح و لا أموات.. و حده الحزن كان يجالس نساء مدينة بلا مآذن و لا أسوار. و لا أحد من بين أولائك الذين تحولهم خيوط الضوء إلى سلاسل.. وحدنا كنا تحت خيمة الليل أسرى أحزان من شردتهم مأساة السكن المنهار و الخبز الهارب. تذكرت من جديد لوركا و هو يقول :» لماذا ولدت بين المرايا؟ اليوم يدور من حولي و الليل يصنع نسخا مني...» استسلمت لصديقي المغربي،و هو يطلب مني مساعدته على مسح دموع الأطفال الوحيدين الذين يريدون حقهم في الوطن بدل أناشيد السيوف و الرماح. و حين بدأنا نتوغل في الألم، نحو الضحايا، و بعد ساعة كاملة من الإستعداد للتضامن، تبخرت مهام تحرير الجماهير و تطهير المدينة و بناء صرح التضامن ضد الانقضاض على مكناسة الزيتونة، و لم يبق بيننا إلا لوركا و هو يقول: «جميل أن يطعم الناس أجمعين..لكن يجب أن يحصل الناس أجمعين على المعرفة». نعم، يستطيع صديقي المغربي أن يكون مناضلا. لكن ماذا يعني ذلك؟ يعني أن يحمل المدينة في قلبه. يعني البحث عن شروط الكتابة عنها. يعني أن يسكن مذابحها و خيباتها و ليس النشيد و حده. و حينما لفتت انتباهه بالمكاشفة قال: قبل أن نحب بعضنا يجب أن نختار المغامرة بشهية حياة مجنونة. تيقنت ساعتها أن لوركا لم يمت، و علينا أن نقف كل يوم على حافة أمل جديد. من المؤلم أن نترك لغة المبادئ والأفكار الكبرى تخاطبنا ونركع أمام امتحان المرجعية و الضوابط الوطنية، قلت له. نحن من أدلى بشهادات للمطلق الإنساني و لم نعد في حاجة إلى دم رخيص إلى حد التبذير. لا نرغب في الموت..نريد الحياة بجانب هؤلاء العائلات التي تنام تحت العراء رغم قسوة البرد...حتى نتحرر من خوف الإرهاب الكبير؟ عليك أن تصغي إلي هذه المرة يا صديقي، قلت له. الوضعية لا تحتاج الصراخ.. لا تخاف، أنت ثمن كل شيء. هناك نقاط حيرة و إضطراب في السياسة الوطنية، إذ لم يفكر فينا الوطن بعد. هناك مساومة..نسيان..كلام عابر..نقص في الجرأة..بطء في التنفيذ. و أمام أعين الحاكم و المحكوم مكناسة الزيتونة تحتضر! مكناسة الزيتونة تعيش زمن الإنحطاط! طبيعي، حينما تأكد من ثورتي، سار يبحث له عن بعض الجيران الذين سرقت منهم أحلامهم و فقدوا حتى براد الشاي الذي كان يجمعهم أكثر من جهاز التلفاز... هؤلاء، المسكونون بالمآسي و الحياة البائسة، فقدوا في صباح مشمس منازلهم و دكاكينهم و مكاتبهم و كل ما يملكون من ذكريات و أمل و عمل و طفولة و آباء و أبناء..لم يعد في ذهنهم إلا الأشباح. كنت أتمنى أن لا يجيء بي صديقي المغربي الى هنا..لكي لا أتواطأ معه. فأنا أعتقد أنه كانت تجمعنا قواسم مشتركة، نمارسها بين الحين و الآخر و ها هي اليوم تخرج عن رتابتها لتحملنا معا الى مآوي مختومة سدادتها بالشمع الأحمر. و بعدما امتلأت الساحة الصغيرة بالزوار، و سار العياء أكثر من «أصحاب الوقت»، عشقت فنجان قهوة قبل أي اعتقال أو تحقيق.. لم أودع أحدا، و لم أترك أي شيء و رائي. كانت مكناسة الزيتونة تشبه المسيح و هو يتراجع الى الوراء. في تلك اللحظة، أحسست أن سكانها يعيشون في لجوء واحد.. فراشهم محمول على رأسهم و المدينة في كف عفريت! لماذا يزهو دمهم الى هذا الحد..؟ تساءلت و أنا أتقدم في المسير. و بعدها انكمشت على ذاتي من البرد القارس. و قضيت الليل أتجول في ممرات المدينة، بينما ارتاح الآخرون بعدما التحقوا بمواكب الرعب و الإنسحاق... مرة أخرى، و قبل أن أخلد إلى النوم، استحضرت عشق لوركا لغرناطة التي بدت له مرة..»عالما من ألف شرفة و سماء بألف نافذة...» قفلت: لماذا لا يعشق الناس مكناس مثل ما عشق لوركا غرناطة؟ و تستمر الحياة...!