عن سن الخامسة والتسعين، أسلم الروح لباريها الزعيم الافريقي الكبير نيلسون مانديلا يوم خامس دجنبر 2013، وهو بين أهله وذويه. بطل مسيرة الكفاح الطويل والنضال الحافل من أجل ترسيخ قيم المساواة والتكافؤ والعدل في جنوب إفريقيا بلده، وفي جوارها المباشر، وفي كل مناطق العالم التي وجدت فيها شعوب وأقوام نفسها وجهاً لوجه مع ظواهر التسلط ومظاهر نفي أبسط الحقوق والحريات. مانديلا اخترق عطاؤه الإنساني والحقوقي والسياسي فصول القرن العشرين بكامله، وأطل بقلب مفتوح على مداخل القرن الواحد والعشرين، يتأمل مجريات التطور هنا وهناك، يتذكر فصول حياته ويقدمها عبراً ودروساً للأجيال الجديدة الباحثة عن حوافز الاطمئنان إلى حتمية انتصار القيم النبيلة وسط كل المصاعب والإكراهات. مانديلا أصبح على امتداد خمسة عقود من الزمن في المخيال الحقوقي والسياسي والقيمي للشعوب، في كل المناطق والقارات، رمزاً أسطورياً للمكابدة الإنسانية من أجل انتصار الحق على الباطل، والحقيقة على الزيف، والنور على العتمة، والعدالة على الظلم والمساواة على التمييز واللاتكافؤ. بذلك استحق تقدير العالم واحترام الجميع في كل الدول، كبيرها وصغيرها. وحينما تسلم جائزة نوبل للسلام، كان ذلك استحقاقاً حقيقياً لرجل رمزت حياته كلها إلى أنبل ما يختزنه الوعي الجمعي الإنساني من قيم ومن تطلعات. من داخل الزنزانة التي قبع داخلها سبعا وعشرين سنة، استطاع هذا الرجل القادم من أعماق التربة الافريقية العميقة، وفي ظروف صعبة تؤطرها أجواء الحرب الباردة وأثقالها، أن يفتح أمام كل القوى الديمقراطية في إفريقيا والعالم أجمع، طرق ومسالك العمل من أجل التغلب على واحدة من أخطر الايديولوجيات التي ابتلي بها القرن العشرون أي الميز العنصري بمختلف درجاته وصوره، من درجته الأكثر راديكالية ممثلة في الفصل العنصري Apartheid إلى نماذجه الأكثر سيولة ويومية ممثلة في الحركات العنصرية القائمة على إذكاء نزعات الخوف من الآخر، المختلف في الشكل أو اللون أو العقيدة أو الثقافة. من داخل تلك الزنزانة الضيقة، كان مانديلا يرسل إشارات الصمود والأمل. ومن عينيه اللتين أشعت منهما دائماً، حتى آخر أيامه، تلك النظرات التي تختلط فيها دفعة واحدة معاني الوفاء والصبر والإقدام والحكمة المختزنة وبهاء النزعة الإنسانية الصافية، من عينيه أشعت نظرة قارة بكاملها، لماضيها وحاضرها ومستقبلها. ومن خارج الزنزانة، في القصر الرئاسي، حينما أصبح أول رئيس لجنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد، ترجم مانديلا الحلم الذي حمله طويلا وهو داخل الزنزانة ونقل شعار ومقولة لوثر كينغ ihave adream لدي حلم من مجال الإمكان إلى مجال المتحقّق. وظل يردد في كل ساحات بريتوريا وجوهانسبورغ وكيب تاون أمام الحشود عبارة أبداً لن يتكرر Never again أبداً لن يحدث مرة أخرى ذلك الاقتتال الإثني، لن تسمح الديمقراطية الفتية برجوع فصول الماضي الأليم. وكانت تلك الكلمات التي يتحدث بها رجل بالهامة التاريخية لمانديلا تكفي لجبر الخواطر ورأب الصدع وطمأنة الناس حول المستقبل. ولأن الرجل كان يمثل الصدق والمصداقية في أكثر صورها نضجاً إنسانياً، لم يجد أية صعوبة في اقتراح صيغة المصالحة وطي صفحة الماضي واعتماد قيمة السماح والصفح والتسامح مما رمزت له كلمة Forgiveness كطريقة لتدبير الذاكرة، لا تترك أي مجاللنوازع الكراهية أو الانتقام، بعد إحقاق الحق والمرور إلى مرحلة بناء الغد. كل القنوات الإعلامية العالمية الكبيرة أمضت فترات مطولة بعد نشراتها المسائية ليلة أمس تستعرض فصولا من حياة هذا الرمز الأسطورة. وتقدم فقرات من خطبه في مختلف المنابر الإعلامية العالمية. وكل زعماء العالم قدموا شهادات عن مناقب وخصال وفصائل الرجل، السياسية والإنسانية، وفي مقدمتها تلك الفضيلة التي أكد عليها جميع من تحدث عنه، فضيلة الصبر والصدق والعزيمة. وفي كل مدن جنوب إفريقيا، خرجت الجماهير العريضة نساء ورجالا، شباباً وشيوخاً، يعبرون عن الحزن والأسى لفقدان ركن دولي كبير رَمَزَ بالكلمة والفعل والسلوك الداخلي والدولي الى أسمى معاني الحرية والعدالة. نيلسون مانديلا سيبقى أحد عمالقة النضال الإفريقي المعاصر.