مرة أخرى، يرحل عنا هرم من أهرامات التشخيص ببلادنا. كان الخبر كالصاعقة خاصة لدى مجايليه من الممثلين والأصدقاء.. وجه سينمائي بامتياز وجه ينال إعجاب الشاشة الكبيرة.. الرزانة القوية في التشخيص حتى يخيل إليكم أن الواقع والتمثيل عملة واحدة... تتصوره لا يبذل أدنى مجهود أمام الكاميرا.. فهو كما هو فنان ممثل بالفطرة.. دور ميلود في شريط حلاق درب الفقراء ما بعده دوره الناس خايبين هي المقولة التي تركها الراحل، ومازلنا نتذكر من خلالها هذه التحفة في سياقها.. لا نختلف بأن نجاح هذا الفيلم كان ولايزال رهينا بقوة تشخيص الراحل.. الممثل قد يخلق نجاح العمل الفيلمي، وهذا ما وقع ذات عام. ترك بصمات قوية في شريط الزفت وشريط السراب، وما كان يوازيه إلا بعض الممثلين العرب الكبار آنذاك، ولن ننسى شمس الضباع للمخرج رضى باهي خلال السبعينيات، وبداية الثمانينيات، كان الراحل أسد الساحة المسرحية والسينمائية بدون منازع.. كنا نطوي الخطوات جريا من سيدي معروف الى المسرح البلدي لمشاهدة محمد الحبشي. قال لنا يوسف فاضل كاتب حلاق درب الفقراء، ممثل عملاق فوق الخشبة، يكفي ان يظهر لتهتز جنبات القاعة، فهو لم يكن في حاجة الى الكلام.. وجهه ووقفته يكفيان للإمتاع واستمتاع الحضور.. حضوره في أي عمل كان بمثابة إشعاع للعمل، نبراسا يضيء العمل.. في المجال الكوميدي او في الحقل الدرامي، قال الراحل كلمته بقوة وانضباط غاب عن الساحة ذات يوم، وترك غيابه فراغا أثار النقاش والجدل الواسعين، كان الانسان إنسانا يحب الحياة، يحب النكتة والسخرية، أخبرنا يوسف فاضل الذي تعرف عليه عن قرب منذ تجربة الحلاق ميلود... وأضاف صاحب اغمات بأن الحبشي كان لطيفا ومتواضعا، والله يعمرها دار.. فممثل من طينة الراحل لا يجود بها الزمن إلا مرة في القرن ، كما قال أحد الممثلين المغاربة الاوفياء الذين اشتغلوا بجانبه. كان يخلق الدور المناسب، ولا يكتفي بتشخيصه أو تمثيله ولعل دور الحلاق المركب لخير مثال. اتصلنا بالممثل نور الدين بكر، ووجدناه في غاية التأثر وقال: لقد فقدت أخي الأكبر.. ضاع مني أستاذي الكبير، والدموع حالت دون إتمام شهادته.. الكبار لا يموتون.. إنه موت رمزي ليس إلا... فالحلاق ميلود سيبقى فاتحا صالونه الفقير إلى أمد بعيد.