يتميز الوضع الحالي على الصعيد الدولي، بوجود تفاوت متصاعد بين القوى المؤطرة للحركة الرأسمالية، والقوى المؤطرة للحركة الاجتماعية، في مجال إنتاج المعرفة بالمجتمع، وبناء الاطروحات والنظريات والبدائل والسياسات والبرامج . تفاوت في مجال إدارة الصراع حول المفاهيم والمراجع الموجهة للاستراتيجيات التدخلية بين سلطة الدولة، ومصلحة الرأسمال، و الممارسة النقابية. فالقطب الأحادي المؤطر للحركة الرأسمالية، يتجه وبقوة نحو عولمة مصالحه والتحكم المتصاعد في إدارة الاقتصاد العالمي, ويوظف المؤسسات المنتجة للخبرة العلمية والتقنية , ويستخدم المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي, والبنك الدولي, والمنظمة العالمية للتجارة, ويعمل على إخضاع باقي المنظمات الموازية والجهوية والقارية لتوجهات وقرارات الرأسمال الدولي المعولم . بغرض فرض إجراءات وتوجيهات تدويل العملية الرأسمالية. أما القطب المتعدد والمؤطر لحركة القوى الاجتماعية والنقابية والتعاضدية والتعاونية والمدنية, والتي توظف مفاهيم ومرجعيات عميقة في التاريخ البشري، والقائمة على المقاومة والتضامن والتعاون الجماعي المنظم . أصبحت في وضع تفتقد فيه قدرتها التاريخية على إنتاج معرفتها الخاصة، والملائمة لمصالح فئاتها، وتصميم استراتيجيات عملية وتنظيمية بديلة ،لمواجهة التكتل الشديد والجديد للعولمة الليبرالية. إن المظاهر المتعددة والبارزة لاختلال التوازن المعرفي بين القطبين, جعل مكونات تأطير القوى الاجتماعية والطبقات العمالية وعموم الفئات المقصية من فوائد العملية الإنتاجية, أمام مخاطر الاستسلام والخضوع والقبول بأمر الهيمنة الكاملة أو مخاطر الاحتجاج والانتفاض والمقاومة الشاملة. وفي كلتا الحالتين فان الأمر يتطلب كضرورة تاريخية استجماع الطاقات المتعددة للقوى الاجتماعية, بهدف إعادة إنتاج معرفة بالأسس العامة والمؤطرة لحركة الرأسمال الخاضع لتوجهات العولمة الليبرالية, وصياغة استراتيجيات وطنية وكونية لحماية المصالح الجماعية للقوى المنتجة. ثلاث استراتيجيات منذ بداية عقد الثمانينات، وخصوصا بعد سقوط جدار برلين. بدأ القطب المؤطر لحركة الرأسمال الليبرالي المعولم , يؤسس لقواعد تفكيك الدولة واستبعاد مقومات وجودها الأساسية . وسطرت لتحقيق هذا الهدف ثلاث استراتيجيات مترابطة عضويا...1 . استراتيجية إفراغ الدولة من جميع آليات إنتاج القواعد القانونية والتشريعية 2 . و استراتيجية السحب التدريجي لآلية تدخلاتها التوجيهية وتصميم السياسات والبرامج . 3 . و استراتيجية تحرير الدولة من جميع التزاماتها مع المجتمع ومكوناته الاجتماعية وصيانة المصلحة العامة. واختصار دورها في إدارة العملية السياسية لمواكبة منطق السوق بمبرر انه ينتج من تلقاء ذاته التوازنات بين الطلب والعرض وبين العملية الاقتصادية والاجتماعية dérèglementation- dérégulation désengagement إن القطب المؤطر لحركة الرأسمال الليبرالي المعولم ،اتجه بالقوة المطلوبة مع بداية عقد الثمانينات ، بأجرأة المركب الثلاثي لسياسته الكونية . من خلال فرض سياسة التقويم الهيكلي ،بهدف تفكيك دور الدولة الاجتماعي ( التقشف الاجتماعي ) . ومع بداية عقد التسعينات ،انتقل إلى مرحلة فرض سياسة النمو الاقتصادي الماكرو- اقتصادي, بهدف تفكيك دور الدولة الاقتصادي ( الخوصصة الاقتصادية ). ومع بداية السنوات الأولى للقرن الجديد بدأت في الأفق ملامح التحكم المطلق لسلطة المال والرأسمال ، في الأدوار السياسية للدولة وتحويلها إلى مجرد مندوب مبيعات للشركات الدولية العابرة للقارات . مع استحضار كل إمكانيات التدخل العسكري والسياسي للقضاء على الدول المارقة . أو للضغط في اتجاه تعديل مواقفها ،وضمان خضوعها ،واندماجها الكامل لخدمة تطلعات السوق وأباطرته. سؤال المعايير الاجتماعية إن تفاصيل الواقع الجديد ، والذي أصبحت فيه المعايير الاقتصادية للعولمة الليبرالية الجديدة . تفرض هيمنتها وتخضع المعايير الاجتماعية ومجموع المكتسبات التنظيمية لمنطق المراجعة الشاملة. وإعادة موقعة القوى العاملة في موقع الخدمة الكاملة لمتطلبات الليونة والسوق والمنافسة . وتقليص الكلفة الاجتماعية للإنتاج. وإخضاع المكونات المهنية والفئوية للقوى العاملة لشرط المنافسة.... كل ذلك جعل القوى المؤطرة للحركات الاجتماعية، وخصوصا المنظمات النقابية .أمام شروط إعادة صياغة مهماتها التاريخية واستجماع قدرتها المعرفية ،لفتح نقاش عملي حول العلاقات الضرورية بين المعايير الاجتماعية ،والمعايير الاقتصادية ،للعملية الإنتاجية والعلاقات الاجتماعية للإنتاج . تعتبر منظمة العمل الدولية ،مكانا حقيقيا للتعبير عن العلاقات الضرورية بين المعايير الاجتماعية والاقتصادية وصياغة مجموع الإجراءات المصاحبة, خصوصا وأنها المنظمة الدولية الوحيدة التابعة لمنظمة الأممالمتحدة ، والتي يعلن دستورها التأسيسي عن مهمة حماية العدالة الاجتماعية كونيا. وأيضا المنظمة الوحيدة عالميا التي يتركب هيكلها التنظيمي من ممثلين للحكومات ، وممثلين للمقاولات ، وممثلين للنقابات, كما تنسحب نفس التركيبة على المجلس الإداري ولجان العمل ،التي تتكلف بصياغة المعايير والاتفاقيات الدولية للشغل. وتصبح بفعل ذلك مراجع معتمدة بقوة القانون ،من طرف الدول والحكومات ،في مجال تنظيم العلاقات الاجتماعية للعمل والخاضعة لنظام مراقبة تطبيق المعايير الاجتماعية الموقعة . إذا كانت التوجهات الكبرى لنظام العولمة الليبرالية، متجهة بقوة نحو إلغاء دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي. والدفع في اتجاه تحرير العلاقات الاجتماعية للإنتاج ،من مجموع المعايير والاتفاقيات والنظم القانونية المؤطرة لعملية الانتاج (déréglementation (. فبالمقابل نجد إن المهمة المركزية لمنظمة العمل الدولية، هو بالضبط وضع المعايير الاجتماعية ،وصياغة الاتفاقيات، وترتيب آليات المراقبة . وفي سياق هذا التناقض بين معيارية التقنين، ومعيارية التحرير ، اتجه القطب الأحادي والمؤطر لحركة الرأسمال الليبرالي المعولم، في اتجاه استغلال تراجع الإنتاج المعرفي لمنظمة العمل الدولية في المجال الاقتصادي ،والعمل على توظيف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمة الأوروبية للتنمية الاقتصادية .... لصياغة تقارير وتصميم توجهات تعلن عن سياسة اجتماعية متحررة من معيارية التقنين . بحيث أصبحت منظمة العمل الدولية في وضعية فقر وانحسار معرفي بالعملية الاقتصادية المعولمة . وفي وضعية الدفاع عن منطق معيارية تقنين العلاقات الاجتماعية للإنتاج. مرتكزات استعادة الموقف المعرفي حاولت منظمة العمل الدولية استعادة موقفها المعرفي ، والتأكيد على العلاقات الضرورية والعضوية بين عملية التحرير الاقتصادي والمعايير الاجتماعية و تقديم وثيقة تحت عنوان «البعد الاجتماعي لتحرير التجارة الدولية» سنة 1996 بهدف التعبير والتأكيد على فكرتين رئيسيتين . الاعتراف بالحقوق الأساسية للعمال بدون شروط وكيفما كان نمط التنمية, قيمها أو مرجعيتها السياسية والتزام الدول بإنعاش التقدم الاجتماعي بالموازاة مع التحول الناتج عن تحرير التبادل والأسواق والرأسمال. وفي اطار تدبير التقائية المصالح المتعارضة بين الاطراف تم تصميم برنامج دولي للعمل اللائق، يعتمد مرجعية منظمة العمل الدولية . خصوصا برنامج الاولويات العملية (2007 - 2015 )، وتقريرها حول النمو والعمالة والعمل اللائق في الدول الأقل نموا لسنة 2011، والميثاق العالمي لفرص العمل في أفريقيا ( 2009 ). وبرنامج تعبئة الحوار الاجتماعي الصادر( 2009 )، وتقرير اللجنة العمالية عن البعد الاجتماعي للعولمة (2004 ). وتحديات النمو والعمالة والتماسك الاجتماعي ( 2010 ) وهي في مجموعها تقارير تستمد منطلقاتها الاستراتيجية من وثيقة المناظرة الدولية حول الشغل المنظمة سنة 1998 والتي تحدد المرتكزات الاستراتيجية لتطوير الإنتاج المعرفي بالقضايا ومعايير السياسة الاجتماعية والتي يمكن محورتها في سبعة محاور . 1- السلام الدولي الدائم Paix universelle et durable. الاقتناع بشرط العدالة الاجتماعية كمدخل استراتيجي لتامين السلام الدولي الدائم 2 - حدود النمو الاقتصادي Les limites de la croissance économique. إن نموذج النمو الاقتصادي ضروريا، لكن ليس كافيا لتحقيق المساواة والتقدم الاجتماعي والقضاء على الفقر والبطالة والحرمان .الشيء الذي يؤكد على الأهمية الاستراتيجية لمجموع القرارات والتوصيات الصادرة من المنظمة في اتجاه إنعاش السياسات الاجتماعية والعدالة الشاملة والمؤسسات الديمقراطية . 3 . استراتيجية شاملة للتنمية La stratégie globale de développement. العمل على تعبئة كل الوسائل العلمية والمعيارية، و تفعيل جميع إشكال التعاون التقني ومباشرة البحث في كل المجالات المرتبطة بصلاحيات منظمة العمل الدولي وخصوصا قضايا الشغل, والتكوين المهني, وشروط العمل في اتجاه بناء استراتيجية شاملة ومندمجة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتقوية علاقاتهما العضوية. 4 - الحاجيات الاجتماعية الخاصة.Les besoins sociaux spécifiques. ضرورة العناية المركزة بمشاكل الفئات ذات الاحتياجات الخاصة. خصوصا المعطلون والعمال المهاجرون وجميع الأصناف الاجتماعية الواقعة في وضعية الحرمان والهشاشة والإقصاء , مع تعبئة وتشجيع المبادرات المدنية والحكومية والنقابية المحلية والجهوية والوطنية والدولية لصياغة وتنفيذ برامج عملية مندمجة مع تنمية سياسة فعالة لإنعاش الشغل باعتبارها المدخل الواقعي مشاكل هذه الفئات . 5 - الحقوق الأساسية في العمل .Les droits fondamentaux au travail إن الهدف الأساسي من ربط التقدم الاجتماعي بسياسة النمو الاقتصادي، هو تأمين الحقوق الأساسية للعمل، وتمكينهم من شروط فرص متساوية وعادلة من حقوق مشاركتهم في الثروات التي ساهموا في إنتاجها وخلقها. 6 - المعايير الدولية للشغل Les normes internationales du travail. ضرورة الاعتراف الدولي والسياسي بالمعايير الدولية للشغل، والعمل على تنمية الحقوق الأساسية للشغل، وإدماجها في القوانين الوطنية المنظمة للعلاقات الاجتماعية للإنتاج، وخصوصا حرية العمل النقابي، والحق في تنظيم عمليات الحوار الاجتماعي و التفاوض الجماعي وتحريم العمل الإجباري وعمل الأطفال وحقوق الأمومة ومحاربة التمييز المهني والجنسي. 7 - الشمولية الاجتماعية العادلة la globalisation sociale juste ضمن هذه التوجهات لإدارة الصراع حول العلاقات الاجتماعية للإنتاج, فالمجال مازال مفتوحا للاجتهاد في حقول إنتاج المعرفة بالآليات الضابطة للعلاقة العضوية بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي وطنيا ودوليا . و صياغة المداخل لطرح مسالة الشمولية الاجتماعية العادلة globalisation sociale juste, . ويمكن اعتبار منظمة العمل الدولية الفضاء الضروري لإنتاج أجوبة حول الموضوع. فالمنطق المتحكم في الأداء العام لمنظمة العمل الدولية مند وجودها والى اليوم هو تنظيم المفاوضة بين أطراف الإنتاج، لتصميم المعايير الاجتماعية والاتفاقيات، وإصدار التوصيات الدولية المنظمة للعلاقات الإنتاجية، و أن تقوم الحكومات والنقابات والمقاولات بالعمل على توطينها ضمن قوانينها الوطنية، واحترام تطبيقها ، وصولا إلى التوحيد التدريجي للأنظمة المحددة لعالم الشغل على الصعيد العالمي ( الحرية النقابية, التفاوض, أوقات العمل,الأجور,قواعد الحماية الاجتماعية, المساواة ومحاربة التمييز....). ومن الملاحظ أن أغلبية النصوص والاتفاقيات الدولية الاستراتيجية، صدرت في العقود السابقة لعقد الثمانينات. وأصبحت منظمة العمل الدولية مند بداية هذا العقد والى اليوم، تجد صعوبة في تطوير مضامين المعايير الاجتماعية ،وتوسيع مجالات تطبيق قواعدها، بسبب اصطدامها المتكرر بمواقف الحركة الأحادية للعولمة الليبرالية ،وتحكمها المتضخم في الرأسمال الدولي ،وإخضاعه لمستلزمات الحرية المطلقة والليونة والمنافسة والسوق...... المهام ... تضامنية وطنيا وكونيا انه بالرغم من الضغوطات القوية للحركة الأحادية للرأسمال الليبرالي المعولم ، فإن الحركة المتعددة للقوى الاجتماعية ( النقابات الوطنية والتجمعات النقابة الجهوية و الدولية ) مطروح عليها كمهمة تاريخية ،(لا تقل عن أهمية المهمات التاريخية التي قامت بها في المراحل السابقة) تطوير قدراتها الإبداعية والاقتراحية والتنظيمية. والتمكن من آليات إنتاج المعرفة العلمية والموضوعاتية . ووضع الأسس العضوية للعلاقات بين السياسي و الاقتصادي والاجتماعي، والتعبئة الكاملة للمطالبة بتطبيق المعايير الاجتماعية و مقتضياتها والقوانين المنظمة لعالم الشغل (مدونة الشغل ) بالنظر إلى تحولات والتطورات الحاصلة في الحقل الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية للإنتاج. ان الأهمية الاستراتيجية لتطبيق و تطوير مضامين المعايير الاجتماعية ، تضل مفتوحة لتنمية المعرفة بالشروط الاجتماعية الجديدة لإنتاج المنتوجات والخدمات. ومتابعة التغيرات الحاصلة في مجال المهن والتكوين والتشغيل . تقييم وترتيب وتنقيط الدول والمقاولات حول تطبيق واحترام القواعد والمعايير والاتفاقيات الدولية المحددة للعلاقات الاجتماعية للإنتاج .ودعم المنظمات النقابية على أجرأتها ومراقبة العمل بها . وتوسيع مضمون المعايير الاجتماعية لتشمل مسالة العلامة الاجتماعيةlabel social للمنتوجات التجارية والخدماتية والاستهلاكية éthique sur l?étiquette . توسيع صلاحية منظمة العمل الدولية من خلال آليات منظمة بين الحكومة والنقابة والمقاولة للتصديق على المعايير الجيدة للسلوك الإنتاجي code de bonne conduite . ووضع العلامة الاجتماعية label social باعتباره تصديق اجتماعي certification sociale يتضح من خلال الاشتغال على هذه المجالات المفتوحة، التمكن من تطوير قدرة العمل النقابي الوطني، في علاقته العضوية بالتضامن النقابي الدولي، وحظورهم الجماعي كمجموعة نقابية في إطار منظمة العمل الدولية والعربية من تنظيم مبادراتهم لإعادة رسم العلاقة العضوية بين السياسي و الاقتصادي والاجتماعي من داخل الآليات المنظمة للعملية الإنتاجية .إن مرجعية توحيد الفعل النقابي لمواجهة الفعل الرأسمالي الأحادي ، يجب أن يقوم على ثلاثة مجالات مرتبطة عضويا بالرغم من اختلاف الأمكنة والمقاربات, تنمية اجتماعية عادلة ، وتنمية اقتصادية مواطنة ، و تنمية سياسية ديمقراطية . مرجعية بإمكانها أن تؤسس منطلقات لمباشرة التعاون بين المنظمات النقابية المؤطرة لحركة القوة العمالية. والمنظمات الجمعوية المؤطرة لحركة القوة المدنية . والمنظمات الدراسية والجامعية والخبرة المؤطرة لحركة القوة العلمية ، في اتجاه تطوير حركة اجتماعية ، تعمل على الإدماج الفعلي للعملية الاقتصادية ضمن شروط سياقها الاجتماعي والمعايير الدولية الناظمة للعلاقة بين أطراف الإنتاج في اطار سياسي لمجتمع ديمقراطي.