خطاب آخر لجلالة الملك، زاخر بالمعنى.....والمعنى هو ما نحتاجه لكي تكون السياسة سياسة.....تدبير للشأن العام الوطني، بما يجسر انسياب المغرب نحو الوطن الذي يليق بالمغاربة. يبدو كما لو أن الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى «المسيرة الخضراء»، من حيث سياقه من حيث حمولة بعض فقراته، كما لو أنه رد على رسالة الرئيس الجزائري إلى مجتمعين في «أبوجا». غير أني وأنا لا أرد إمكانية قراءة الخطاب الملكي من زاوية أن الكثير من فقراته من شأنها أن تقصف « الأطروحة الجزائرية»، فإني لا أولي البعد «السجالي» مع الجزائر أي اهتمام . الخطاب الملكي يقول، دون أن يصرح، بأننا ودون حاجة إلى خطاب، المغرب على الأرض يرد يوميا على الانفصاليين وعلى أربابهم وعلى مواليهم. قضية الصحراء المغربية، كفت عن أن تكون مجرد قضيةاسترجاع أقاليم مغربية من قبضة الاستعمار، ومع النقلة النوعية في المسار التنموي وفي نمط الحكامة الديمقراطية للبلاد، أضحت الأقاليم الصحراوية جزءا من السياسة التنموية للوطن بأكمله. الأقاليم تلك معنية بمجمل ما يجري على المغرب من تحول في طرائق وغايات تدبيره لموارده البشرية والطبيعية، ويشملها نفس الحماس الوطني لضخ النفس الديمقراطي في آليات مسيرته الحثيثة لتقليص فجوات التاريخ، وضمنها الفجوات التي خلفها الاستعمار. الخطاب الملكي، خطاب رئيس دولة، مؤتمن على توجيه المعنى السياسي العام الذي يخترق الحياة السياسية للبلد. وهو بذلك لابد وأن يقرأ كونه ردا على معنى آخر للسياسة يسكن الدولة الجزائرية، وقد بات بمعاني عصرنا بلا معنى. النظام المغربي أخضع نفسه، منذ تحقيق الاستقلال، لتحولين هيكليين وتاريخيين وفي اتجاه التطور. تحول وطني مع حدث المسيرة الخضراء وما تناسل منه من مسارات ديمقراطية وتنموية. وتحول ديمقراطي مع تحمل الملك محمد السادس للحكم، وما نتج عنه من دينامية إرساء نمط حكامة جديدة، جسر العلاقة بين الدولة والمجتمع في شراكة تدبير السياسات العامة. وهو التحول الذي بلغ السرعة القصوى مع إقرار الدستور الجديد سنة 2011 . بينما في الجهة الأخرى، النظام في الجزائر هو نفسه، « بعقيدته» السياسية بنفس رهاب سياسي تجاه المغرب ( ملصقات في شوارع الجزائر إحياء لذكرى الاستقلال شعارها « حكرنا وما زلنا واقفين» )، بنفس مركزيته الشديدة وبالكثير من رجالاته، وبنفس تحصين الجنرالات له وبنفس انسداد المسارب الشعبية إليه، بنفس كل ذلك الذي صنع به في ستينات القرن الماضي. الخطاب الملكي أوضح بعض مميزات معمار الدولة المغربية حين أبرز كيف أننا معنيون، بكل مؤسسات الدولة والمجتمع، وفي كل مناطق البلاد وبينها الأقاليم الصحراوية، بترسيخ الممارسةالعملية بالأجيال الجديدة لحقوق الإنسان ( الحقوق الاقتصادية، الثقافية، النوع....). وذلك انسجاما مع إقرار الاختيار الديمقراطي ضمن ثوابت الدولة، وكنتيجة منطقية لتجاوز مراحل التمرن على الأجيال الأولى لحقوق الإنسان، وهي التي أنضجت مؤسسات الوساطة في ممارسة حقوق الإنسان وقد أضحت لها مصداقيتها الوطنية والدولية. هنا تكون لمغربية الصحراء دلالة اكتسابها لكل مميزات المغرب، وانخراطها في كل التحولات الاجتماعية والثقافية التي تخترق كل المغرب، أرضا، فئات اجتماعية ومؤسسات. بهذا المعنى تمدنا حياة المغاربة في الصحراء المغربية، بأهم ثروة وهي ثروة ترسيخ قيم المواطنة المنتجة « للتنمية وللوطنية». وبالعلاقة مع ذلك، أضحى لدينا مثال جلي حول نجاعة مؤسسات الحكامة الجديدة للدولة عبر ما توقف عنده الخطاب الملكي من توصيات «المجلس الاقتصادي الاجتماعي والبيئي» بخصوص تطوير قواعد وآليات نمط تدبير حكامة الأقاليم الصحراوية. مرة أخرى نلمس أن تلك المؤسسة لم تحدث لمجرد تأثيث وتزيين أروقة الدولة، مؤسسة فاعلة وتمارس صلاحياتها باستقلالية وباقتدار وتستبطن كل القيم الديمقراطية وكل ثقافة حقوق الإنسان الشمولية، وكل المنطق التشاركي الذي اشترطه المغرب على نفسه. إنه ليس خطاب ترضية للذات وليس خطاب الزهو بالمنجزات، وإن كان من حقنا أن نزهو بما تحققه بلادنا من تقدم يحفزنا على إضعاف الانجذاب إلى الماضي، ومقاومة العثرات ومناهضة الاختلالات. ولكنه خطاب الصرامة في الالتزام بالاختيار الديمقراطي الذي يصون كل حقوق الوطن وضمنها استقلاله ووحدته. في هذه الحالة، والنظام الجزائري يراوح الخطى في مفاهيم تجاوزتها الإنسانية منذ عقود، وهو نفسه يواصل عزل نفسه عن محيطه الاجتماعي، وقد شاخ حتى بات مدمنا على منشط «تقرير المصير» لتسكين آلام صراعاته وتحريك مفاصله. هذا النظام لابد وأن يجد في مثل الخطاب الملكي ما يمكن اعتباره مساجلة معه... مع أن جلالة الملك ما تحدث إلا عن المغرب، وما تحدث إلا مع المغاربة متلمسا منهم المزيد من الاعتزاز ببلدهم والمزيد من العمل للنهوض به .