ما من شك أن المتتبع للشأن العربي لا يمكن له أن يعتبر التحولات التي تعرفها المنطقة مجرد تحولات عادية مرتبطة بالصدفة. ما وقع وما يقع وما سيقع على صعيد الدول العربية والمغاربية يشكل اليوم مسارا سياسيا جديدا بأحداثه ومنطقه، مسار يتطلب التأمل والتحليل والتفكيك وإعادة التركيب. بالطبع هذا المطلب لا يمكن النجاح في تحقيقه بدون تمكين المفكر بحمولاته الثقافية والسياسية من المواقع التي تجعل منه العارف الأول بخبايا الاستراتيجيات الداخلية والخارجية، والمؤثر في منطق التوازنات الجيواستراتيجية، والمساهم في بناء الوساطة المجتمعية القوية القيادية للمجتمعات نحو الاستقلالية السياسية والتنمية الاقتصادية. إن المنطقة العربية تعيش فعلا زمن «الربيع العربي»، ولا يمكن للخطابات التشاؤمية أن تشكك في التغيير وأن تنجح في ترويج إمكانية استبدال العبارة السالفة الذكر ب»الخريف العربي». اليقين هو كون المنطقة تعيش اليوم مرحلة سياسية جديدة بأحداث وعمليات تاريخية مركبة ومعقدة تحتمل في إلى حد بعيد النجاح وحدوث انكسارات متفرقة في الزمن. المطلوب من القوى الديمقراطية والشعوب في هذه المرحلة الحرجة بذل المزيد من الجهد، والاستمرار في التحليل والتعقيب والنقد البناء (التحليل أفضل من الأرقام)، والحرص على تجنب الوقوع فيما يسمى ب»أخطاء الشعوب» لأنها مكلفة جدا ومؤلمة. الخطأ القاتل في المسارات السياسية للأمم هو سقوط الشعوب في اليأس والاستسلام للاستبداد بكل أشكاله، واللجوء إلى الانغلاق الطائفي والقبلي والعقائدي والمذهبي. المطلوب اليوم هو استحضار كون الانتقال الديمقراطي بالنسبة للدول النامية ليس بالأمر السهل، والمرور إلى حكم ديمقراطي سليم يتطلب صفاء الإرادة الشعبية، الشيء الذي يستدعي تحمل عثراته، والإصرار على اليقظة الثورية، ودعم القوة الناعمة في المجتمع، والاستثمار في المعرفة بكل أنواعها. لقد تبين تاريخيا أن حركة الشعوب بطيئة لكنها قوية، وتأكد أن تغييب ثقافة العمل والإبداع هو مصدر متاعب السلطات المستبدة، وأن السبيل الوحيد لتحقيق الرقي هو تربية وتعليم الأجيال على الاجتهاد والإبداع والعمل الجاد. إن الإطاحة بالأنظمة في كل من تونس ومصر وليبيا، وانتقال العدوى إلى اليمن وسوريا، عبرت في مدلولها السياسي عن حدوث نقطة تحول كبرى بأبعاد جغرافية وزمنية. ما وقع ليس أمرا عاديا مرتبطا بالمسار الطبيعي للأنظمة السياسية ذات المراحل المعروفة (الانطلاقة، النمو، النضج، التراجع والاندحار)، أو كونه مرتبط بإرادة الله في إحياء «الخلافة الإسلامية»، بل هو تعبير واضح عن حدوث تحولات عميقة في بنية المجتمعات العربية والمغاربية، تحولات أفرزت انتفاضات شعبية قوية أطاحت بالأنظمة ورفعت من مستوى اليقظة الجماهيرية إقليميا ودوليا. لقد برزت لأول مرة في تاريخ المنطقة الحديث قوة تفاعلية ربطت الجوانب الهامة في حياة الشعوب وعلى رأسها الجانب السياسي (رفض الاستبداد والقهر)، والاجتماعي (رفض التخلف وتكريسه)، والاقتصادي (رفض الفقر والتهميش)، والثقافي (رفض الرجعية والانغلاق). إن أبرز الظواهر التي ميزت زمن الانتفاضات هو تحويل الصراع العمودي بعد الإطاحة بالأنظمة السالفة الذكر إلى صراع أفقي ثقافي بين من يرفضون سلبيات الماضي والدعوات الإيديولوجية للرجوع إلى الوراء، وبين من ينتقدون الحاضر وثوراته الحضارية والتكنولوجية. إنه عودة واضحة إلى الجدل في شأن «الحداثة/التقليد» في معناه العميق والأصيل، جدل الغاية منه تدقيق الفهم بالواقع الثقافي والسياسي والفكري لشعوب المنطقة، والوقوف على الجوانب المشرقة في التراث، وبالتالي تعميم النقاش بشأنها لتكون الطاقة القوية المحركة لقطار النهضة العربية. إن تراكم الأحداث أبان، بما لا يفيد الشك، عن قابلية الفكر العربي على التجديد والتطور انطلاقا من ذاته وبدون أي تدخل سلطوي أجنبي. ما وقع في مصر من التحام شعبي ضد الإخوان أكد اليوم أن تسليح المعارضة السورية كان خطأ جسيما، وتعبيرا عن انتهازية التيارات الإسلامية السورية المشكلة من معارضة غادرت البلاد منذ عقود. ومن أجل مناقشة قابلية التحولات للمرور من وضع قوة تأثير الفكر التقليدي إلى مرحلة الديمقراطية السياسية والتنوير الثقافي، سأخصص ما تبقى من المقال إلى تجميع عدد من الأفكار في فقرات بمدلول يزكي ما قلناه أعلاه بشأن تطور الأحداث، ويقف على أهم مؤشرات النهضة الفكرية العقلانية عند فئات عريضة من شعوب المنطقة. الشرق الأوسط وسرعة تراكم الأحداث السياسية الجديدة إقليميا ودوليا إن التطورات التي عرفها ويعرفها الشرق الأوسط، وعلى رأسها تطور الملف المصري والملف السوري، أحدث نوعا من اليقظة الشعبية، وترتب عنها نقاشات شعبية واسعة، وبرزت الحاجة إلى اتخاذ المواقف المناسبة في التوقيت المناسب، مواقف أساسها الدفاع على الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية ودولة القانون والمؤسسات. لقد تطور الملف المصري بسرعة فائقة مباشرة بعد الإطاحة بنظام مبارك : وصول حركة الإخوان المسلمين إلى الحكم، وبروز عدة ممارسات أضرت بالانتقال الديمقراطي منها الإعلان الدستوري ومعاداة الصحافيين ورجال الفن، ودخول في صراع مع رجال القضاء، وخروج المظاهرات الصاخبة التي دعت إليها حركة تمرد، والإطاحة بنظام مرسي، وتعيين رئيس جمهورية مؤقت، وإعلان خطة طريق، وتعيين حكومة مؤقتة، وإعلان تشكيل اللجنة التقنية لإعداد دستور جديد، وفض اعتصامي رابعة والنهضة، وإعلان حالة الطوارئ، وإعلان تشكيل لجنة الخمسين السياسية للحسم في التعديلات الممكنة في المشروع الدستوري الجديد، ولجوء جماعة الإخوان إلى العنف والتخريب ورفض الآخر (حرق الكنائس)،... أما بخصوص الملف السوري، تتبع العالم منذ مارس 2011 تطور الأوضاع إلى أن وصلت إلى مستويات كارثية، مستويات توجت بإبادة بشرية شنيعة استعملت فيها الأسلحة الكميائية. كما ترتب عن تضارب المواقف الدولية في شأن توجيه ضربة عسكرية لسوريا انقساما واضحا في المواقف السياسية إقليميا ودوليا. لقد تعددت التصريحات منها المؤيدة ومنها الرافضة في وقت كان المطلوب فيه التشبث بالشرعية والمشروعية والقوانين الدولية. فبالاحتكام إلى القانون الدولي، لا يمكن استعمال القوة إلا في حالتين، الأولى تتعلق بالدفاع الشرعي (حالة دخول النظام العراقي إلى الكويت في عهد صدام حسين كنموذج)، والثانية مرتبطة فإجازة مجلس الأمن لتدخل قوى دولية أو دولة معينة. إن المآسي التي يعيشها الشعب السوري تتطلب اليوم تعميق النقاش بمسؤولية تامة لإيجاد الحلول المناسبة لتمكين المنتظم الدولي من تجنب صعوبة استصدار قرار أممي منصف للشعب السوري والحد من حدة تضارب المواقف ما بين المعسكر الغربي والمعسكر الروسي-الصيني. إن تطور النزاعات الإقليمية والخلافات الدولية جعل من قرار إيجاز الضربة دوليا أمرا في غاية الصعوبة سواء تم الاحتكام إلى مجلس الأمن أو الذهاب إلى الجمعية العامة (تستدعي موافقة ثلثي أعضاءها). إن وقوف أغلب دول العالم والرأي العام الدولي في صف معارضة الضربة نظرا لغموض أهداف الجهات التي دعت إليها (هل هي من أجل إسقاط النظام أم الضغط على بشار من أجل تقديم التنازلات الضرورية لإنجاح مؤتمر جنيف الثاني)، أثبت دخول العالم إلى مرحلة جديدة بتقاطبات سياسية جديدة، مرحلة توجت فيها المفاوضات بشأن التدخل الأجنبي في سوريا بانعزال كل من أمريكا وفرنسا، والتعبير عن عدم الرضا عن المواقف المؤيدة للنظام السوري، وتجاهل المصير السياسي للشعب السوري ومستقبله. فالإدانة الدولية للمجازر التي يرتكبها النظام السوري ضد مواطنيه منذ اندلاع هذه الأزمة، واستنكار اللجوء إلى استخدام الأسلحة المحرمة دوليا ضد الأبرياء، لا يمكن أن يبررا اللجوء إلى القوة ضد سيادة سوريا خارج الشرعية الدولية. المطلوب اليوم هو دعوة كافة الدول المساندة لجرائم النظام السوري بالتراجع عن ذلك، والضغط على الأسد قصد توقيف اعتداءاته والانخراط الفوري في مسلسل البحث عن الحل السياسي السلمي، والتشبث بكون الجهة المختصة في التأديب دوليا هي المحكمة الجنائية الدولية. ما وقع في مصر ثورة شعبية ثانية المنتظر أن تتوج ببناء الدولة المدنية الديمقراطية إن المعطيات المادية القائمة، التي ميزت التطورات الأخيرة في مصر، تؤكد اليوم أن ما يقع في مصر لا يمكن إدراجه إلا في خانة التغيير السياسي المبني على تحرك شعبي كبير تمت حمايته من طرف مؤسسة الجيش الوطنية ضد قطاع آخر من الشعب يمثله الإخوان المسلمون كأقلية. الثابت في الوضع المصري هو خروج الشعب المصري بالملايين إلى الشارع ضد نظام الإخوان، كما برز أن التعامل مع المعارضة الإخوانية لا يمكن أن يكون أساسه إلا الاتفاق المشترك على تثبيت الحريات وحقوق الإنسان والتعامل بالقانون مع المتورطين في الأحداث الدموية سواء بالتحريض أو التنفيذ. ما وقع هو ثورة شعبية ثانية ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار ذلك بمثابة «وقف أو إيقاف للمسار الديمقراطي في مصر». مرسي ألغى الديمقراطية ولم يكن بوسعه، نتيجة ضغط الجماعة، أن يتحول إلى قائد لمسار ديمقراطي جديد. لقد لجأ بعد وصوله إلى السلطة إلى توسيع سلطاته الرئاسية دستوريا، واستغلالها في تهميش القضاء والإعلام، وتعيين أعضاء جماعته في مفاصل مؤسسات الدولة، ومهاجمة الفن والفنانين، ودعم الإرهاب في سيناء. فما وقع ما بين 25 و 30 يونيو هو مواجهة حقيقية بين أغلبية الشعب المصري والإخوان. إن قضية لجوء الإخوان إلى استعمال السلاح ثابتة والتحريض على العنف من طرف القيادات الإخوانية ثابت كذلك. الوعي الشعبي بتجاوز مفهوم الجماعة ومنطق التقليد في سياق تطور الأحداث السياسية أصبح متداولا في الإعلام وعند عامة الناس أن الشرعية الدينية للحكم لم تكن متداولة في عهدي النبوة والخلافة الراشدية، بل لم يتم تكريسها بشكل مفضوح إلا في عهد الأمويين. لقد تم تعمد عدم توضيح التمييز بين المرحلة المكية في الإسلام بمفاهيمها المتجاوزة المكرسة لمفهوم الجماعة (القوم، الشيعة، الفريق، الفوج، الطائفة، الإخوان،...) والمرحلة المدنية التي سيتجاوز من خلالها النص القرآني مفهوم الجماعة حيث استبدلها بعبارات أخرى متعددة ذات دلالة مختلفة جدا (المؤمنون، الكافرون، المشركون، المسلمون، أصحاب الكتاب (الآخر)، المختلفون، المنافقون،....). فمدلول المرحلة المدنية قرآنيا كان واضحا حيث تم تحويل مسألة التدين إلى مسؤولية فردية خالصة. وهو إشارة واضحة للحث على تجنب جعل قدر الماضي أمام الشعوب وليس وراءها. لقد أصبح واضحا اليوم أن «القبيلة» كمفهوم تم تداولها قرآنيا في المرحلة المكية لأنها كانت في تلك الفترة فعلا وحدة اجتماعية أساسية مهيكلة لمجتمع شبه الجزيرة العربية، وأن الدولة الأموية بترويجها للعبارة «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» كانت تروج لنظام سياسي خاص لا علاقة له بروح الدين الإسلامي. وقد جاء في كتب التاريخ والفقه التنويري أن الأمويين لم يدخروا جهدا في تجنيد المثقفين والفقهاء للدفاع على منطق نظامهم السياسي وحثهم على ابتداع الحجج الدينية وتحويلها إلى مراجع للممارسة السياسية الاستبدادية. دعم الإخوان والحلم التركي في إحياء الخلافة لقد تأكد اليوم أن الحلم التركي المتجسد في العودة إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية أصبح اليوم من الانشغالات الأساسية عند أردوغان. إنه حلم إخواني مضمر تأكد اليوم استحالة تحقيقه على أرض الواقع لأن الغرب الأمريكي والأوروبي، بقدر ما يعتبر تركبا كحليف لتنفيذ إستراتيجيته في منطقة الشرق الأوسط، بقدر ما يراقب عن كتب المبادرات التركية وأهدافها المضمرة. وهنا لا يمكن استبعاد كون ما وقع في تركيا مؤخرا من انتفاضات هو إشارة بنفحات غربية لإبلاغ أردوغان تجاوزه الخطوط الحمراء المرسومة له. فتركيا، مهما حلمت، لا يمكن أن تسترجع أمجاد تاريخها البائد باغتيالاته، ومشانقه، ومهما أظهرت من قابلية في تقوية علاقاتها التطبيعية مع تل أبيب، لا يمكن أن يطمئن لها الغرب. فالدعم الغربي للإخوان هو دعم تم إقراره بلا شك في إطار إستراتيجية غربية محكمة الأساس فيها حماية أمن إسرائيل. والدليل على ما نقول يتجلى في كون خلق جماعة الإخوان، وحرص مؤسسها حسن البنا على اختيار كلمة «جماعة» بالرغم من تجاوزها قرآنيا خلال الدعوة المحمدية، كان سنة 1928، أي مباشرة بعد مرور ما يقارب أربع سنوات فقط على سقوط الخلافة العثمانية. ويمكن القول أن الإعداد لسيناريو اليوم استمد مقوماته من ماضي حركة الإخوان. فصراع هذه الجماعة العنيف مع جمال عبد الناصر في زمن الحرب الباردة، ولجوئهم إلى العمل السري بعد ذلك، والعودة إلى الساحة السياسية تحت غطاء دعوي بقيادة التلمساني في عهد أنوار السادات، يؤكد بالواضح تواطئهم الخارجي منذ نشأتهم. كما أن وصول مرسي إلى الحكم، وتقوية تطبيعه مع إسرائيل، وموافقته على الاتفاق المضمر مع أمريكا وإسرائيل وحماس على توسيع تراب غزة في المجال الترابي المصري في سيناء،...كلها دلائل تؤكد تآمر الإخوان ضد الشعب المصري. كما أبانت التجربة تواطؤ رجال الدين الحركي مع الغرب ولجوئهم إلى إصدار الفتاوى تحت الطلب الوظيفي الغربي (القرضاوي كنموذج). إنها إستراتيجية للنيل من المؤسسات الدينية التنويرية في المنطقة، كمؤسسة الأزهر المصرية ومؤسسة أمير المؤمنين المغربية، وتعويضها بالخطابات الإخوانية السياسية التقليدية، وبالتالي طمس فكرة كون الإسلام يحتاج إلى مؤسسات محايدة سياسيا، تعلم الناس التعاليم الدينية الصحيحة المتنورة، ولا يحتاج إلى وسيط سياسي له مصالح وطموحات وأجندات خاصة. أما عن علاقة جماعة الإخوان بالعنف فهي ثابتة تاريخيا، فهي التي اغتالت رئيس الوزراء أحمد ماهر عام 1945، ورئيس الوزراء حسن النقراشي باشا عام 1948 انتقاما منه بعدما أمر بحل تنظيمهم، وهي التي حاولت اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية سنة 1954 (لرفضه المثول لطلباتهم الرامية إلى تطبيق الشريعة وفرض الحجاب على النساء)، وهي التي اغتالت الرئيس المصري أنوار السادات،..... كما ثبت لجوئهم إلى العنف بعد الإطاحة بالرئيس مرسي. فمحمد البلتاجي اشترط العودة إلى الهدوء بعودة مرسي إلى قصر الاتحادية رئيسا، وصرح مرسي للسيسي كون الجماعة جاءت لتحكم مصر 500 عام، وصدر عن الجماعة عبارة «من يرشنا بالماء نرشه بالدم»،.....إلخ. كما ورد في وثائق الجماعة عدم إيمانها بالجنسية والحدود الجغرافية وأنها ضد تقسيم العالم إلى دول وحدود جغرافية. سوريا: المعارضة مستوردة وتركيا بوابة لدخول المتطرفين إلى الأراضي السورية لقد ثبث اليوم أن عسكرة المعارضة لم يكن تعبيرا عن الإرادة الشعبية، بل هو خطوة أساسية في الإستراتيجية الغربية لإنهاك واستنزاف الجيش السوري. والدليل على ذلك هو كون الجماعات الجهادية المعارضة كلها مستوردة من الخارج. فقبل خروج الشعب السوري إلى الشارع في مارس 2011، كان الجيش السوري يعد من أحد الجيوش الثلاث القوية المهددة لأمن إسرائيل في المنطقة إلى جانب الجيشين المصري والعراقي. بالفعل، لم ترفع الانتفاضة الشعبية السورية شعار العنف، بل كانت شعاراتها المرفوعة في بداية الثورة تطالب بتغيير النظام الشمولي السوري، ولو لم يلجأ النظام السوري بسرعة فائقة إلى خيار القوة والقمع لما انزلق الوضع إلى المواجهة المسلحة، ولما كان في مقدور المعارضة الخارجية الدخول على الخط وفرض المواجهة العسكرية على الثوار. إنها معارضة غريبة عن الشعب السوري لكون أغلب مكوناتها إخوانية غادرت سوريا منذ أربعين سنة. لقد اغتنمت فرصة لجوء النظام السوري إلى العنف لإعلان قرارها المدعوم غربيا والرامي إلى الإطاحة بالنظام بالسلاح. إنه انزلاق مفتعل اعتبره المتتبعون خطأ قاتلا في مسار تطور الأحداث الدامية، خطأ ضرب عرض الخاطئ شعار «اللاءات الثلاث» التي اعتمدتها الإستراتيجية الثورية في بدايتها وعلى رأسها «لا لعسكرة الثورة» و»لا للتدخل الأجنبي». لقد أعد الغرب سيناريو دفع المعارضة إلى الصراع بدون إستراتيجية وتم توهيمها بإمكانية النجاح في تقليد السابقة الليبية بدون استحضار تعقيد البنية الشعبية في سوريا وتضارب المصالح والقوى الدولية. وكنتيجة لهذا الاندفاع غير المدروس، انقسمت المعارضة السورية إلى عدة جيوش منها الجيش الحر تحت سيطرة الإخوان، وجيش حماية الشعب الكردي بمواقف غامضة، وجيش الدفاع على الشمال، وجيش جماعة النصرة التابع للقاعدة، وجيش دولة الشام والعراق الإسلامية، ومجموعة مجاهدي القوقاز والشام،...، وبالتالي ساد التخوف في الأوساط الشعبية من احتمال انفجار الصراع الطائفي وانزلاق الوضع في اتجاه المس بالوحدة الترابية السورية (تقسيم التراب السوري إلى عدة مناطق عسكرية). كما اعتبر المتتبعون اختلال التوازن العسكري ميدانيا ما بين النظام، المدعم إقليميا أساسا من طرف إيران ولبنان (حزب الله) والعراق والسودان ودوليا من طرف روسيا والصين، والمعارضة، المدعمة إقليميا أساسا من طرف السعودية وقطر والإمارات ودوليا من طرف الغرب، خطأ استراتيجيا ارتكبه النظام السوري. إن لجوء هذا الأخير، مباشرة بعد انتصاره في معركة القصير، إلى تحقيق نوع من التقدم في استرجاع عدة مناطق كانت تحت سيطرة المعارضة واحدة تلو الأخرى، أثار غضب الغرب حيث تم اعتبار ذلك من طرف أمريكا بمثابة إعلان واضح عن سقوط اتفاق جنيف1. وهنا أكاد أجزم لو حرص النظام السوري استراتيجيا على الحفاظ على نوع من التوازن العسكري الميداني، لما برزت تخوفات الغرب ولتمكنت سوريا من التقدم في الحل السياسي تحت مضلة الأممالمتحدة. وأمام هذه الأوضاع المعقدة داخليا وإقليميا ودوليا، فإلى جانب تضارب المواقف الدولية بشأن الضربة، لا زال الغموض يلف وبحدة أكبر مستقبل سوريا نظرا لعدم بروز محددات النظام السياسي البديل. فالمجلس الوطني، بالرغم من توسيعه، لا زال تحت سيطرة الإخوان المسلمين، ولا زال مسلسل دعم الأطراف المتنازعة غير واضح، وبرز أن هناك من له مصلحة في تأجبل الحل السياسي. إنه وضع مقلق جدا وملتبس وضع القوى العظمى في مأزق سياسي واضح. لقد تطور الصراع بدون تحديد الجهة التي ستعمل على ضمان الأمن والسلام الداخلي والإقليمي في حالة سقوط النظام، والحيلولة دون تسليح الطوائف والسقوط في فتنة داخلية لا يمكن الخروج منها إلا بتدخل بري. وما زاد الوضع غموضا هو اشتداد الصراع الميداني بعد استعمال الأسلحة الكيميائية. لقد تطور الملف إلى درجة وجدت روسيا نفسها في وضع اضطراري لاقتراح مبادرتها الرامية إلى وضع ترسانة النظام السوري من هذه الأسلحة قيد الرقابة الدولية، ثم التخلص منها نهائيا. إنها منفذ سياسي مشترك جنب المعسكرين المتصارعين المخاطر المحتملة لسيناريو الضربة العسكرية. إنه في اعتقادي منفذ إغاثة، أستبعد أن يكون أساسه زلة لسان كيري التي التقطها لافروف، بل هو بمثابة السبيل الممكن أمام الأقطاب المتصارعة لتجنب احتداد الأزمة بمخاطرها ومزالقها المحتملة. سندي في هذا الافتراض يتجلى في كون التخلص من الأسلحة الكيميائية يعتبر مهمة صعبة للغاية، تتطلب عقود من الزمن، وميزانية ضخمة، وتجهيزات خاصة، ومهارات وتقنيات متطورة، وبالتالي لا يمكن تنفيذ هذا القرار في المدة المحددة المعلنة. لكن في نفس الوقت، نعتقد أن هذا المخرج سيمكن القوى الدولية من توفير الوقت والظروف للعمل على إنجاح مؤتمر جنيف2. ونرى في إضافة إمكانية اللجوء إلى القوة وفرض العقوبات في حالة عدم التزام الأسد بالقرار خيارا سيتم التهديد بتنفيذه للضغط على النظام السوري لتقديم التنازلات الضرورية لتسريع وثيرة التقدم في مسار الحل السياسي. وفي نفس الوقت، إضافة إلى كون هذا المخرج سيمكن أمريكا من تجنب التدخل غير الشرعي في شؤون سوريا، فإنه سيجنب روسيا الاستمرار في الدفاع بدون مبررات عن عدم استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية الفتاكة، وسيمكن القوى الدولية من عدم السقوط في سيناريو سيطرة التيارات الإسلامية الجهادية على المزيد من الأراضي السورية. إن مبادرة روسيا، التي عقبت ما سمي بزلة لسان كيري، جاءت بعد انتهاء عمل لجنة التفتيش الدولية، ولاقت ترحيبا سريعا وواسعا من طرف الدول الغربية. لقد أعطت المبادرة الانطباع وكأن الملف السوري دخل مرحلة انتقالية في تسويته، واتضح في نفس الوقت أن الضربة ليست هي الحل، وأن الغرب خرج من الورطة، وأن الحل السليم هو الضغط على الأطراف المتصارعة من أجل التقدم في المسلسل التفاوضي الذي يعطي حق المشاركة إلى كل مكونات الشعب السوري. وعليه، يمكن أن نفترض أن التوازن في القرارات المدعمة للضربة العسكرية والرافضة لها إقليميا (الموقفين المصري/السعودي) ودوليا (الغرب/روسيا-الصين) كان إيجابيا إلى حد ما. إن مصر في حاجة إلى المال السعودي والإماراتي، وحماس السعودية الزائد غير واضح لأنها تعلم أن عواقب الضربة ستكون لا محالة كارثية (اعتبار المنطقة بمثابة برميل بارود، واحتمال اشتعال حرب شاملة بين السنة والشيعة أمر وارد). مبارك كان شريكا لأردوغان قبل الإطاحة به، ومع ذلك تم إعلان تركيا لمساندتها للشعب المصري في اللحظات الأولى من الثورة. الأسد كان كذلك شريكا لأردوغان وتحول هذا الأخير إلى فاعل مباشر في الملف السوري، وتحول إلى مدعم للمكونات الإسلامية وبرزت ميولاته للنزاعات الطائفية والمذهبية بالرغم من كون 70 بالمائة من الشعب التركي ضد الضربة العسكرية والتدخل الأجنبي في سوريا. خلاصة لقد أثبتت الأحداث أن الشعوب العربية خرجت بشجاعة إلى الشارع، وطلبت الكلمة، ونددت بالاستبداد والقهر، وأطاحت بالديكتاتوريات... لقد قال الشعب المصري «لا» لمرسي ونظامه عندما أحس أن هدفه هو إلغاء جميع آليات الديمقراطية، وإعلان نفسه فوق القانون وفوق المساءلة دستوريا، طامعا في التحول إلى حاكم بأمر الله (الحاكمية)... لقد اتضح للمصريين ميول مرسي إلى خدمة الجماعة على حساب الوطن... لم يعد السكوت صفة أبدية للشعوب العربية كما توهم الغرب، بل أكدت الأحداث تكسير جدار الخوف من الأجهزة القمعية، وتأكد عدم استمرار إمكانية مناصرة الاستبداد شعبيا، وتبين أن التوفر على أجهزة أمنية جد فعالة لم يمنع الشعوب من الثورة على الحكام... كما أكدت الأحداث كذلك، أن التقدم الذي حققه «المحور الشيعي» بعد الإطاحة بنظام صدام لم يمنع حركية الشعوب ولم ينل من تشبثهم بالدفاع على مقومات العيش المشترك... إيران لم تعد في وضع مريح لإتمام برنامجها النووي، وحماس أصبحت منعزلة بعد الإطاحة بالإخوان في مصر... ويمكن أن نقول، موازاة مع ظهور بوادر فشل المشروع الخلافي التركي، أن المشروع الإيراني بدوره في طريقه إلى الفشل. فمشروعه الرامي إلى استغلال سقوط بغداد، والاستثمار في تقوية حزب الله وحماس وتسليحهما من أجل الوصول إلى الحدود الإسرائيلية كأساس لرد الهجمات الغربية المحتملة على نظام الخميني، أصبح اليوم مهددا بالفشل... أكثر من ذلك، لقد أكدت الأحداث فشل الفكرة القومية والنزعة الشيوعية وفكرة بناء مشروع دولة دينية أو شبه دينية، وبرز بالواضح أن لا بديل سياسي لشعوب المنطقة سوى دعم الدولة المدنية الديمقراطية. لقد أصبح شائعا أن الدولة المدنية ليست نقيضا للدولة العسكرية فقط بل هي نقيض للدولة الدينية التي يحكمها رجال الدين. فإذا كان أساس الاستبداد العسكري هو القوة، وأساس الاستبداد الديني هو القداسة والسمو على القوانين والمحاسبة (التفويض الإلهي)، فإن أساس الدولة المدنية هو صناديق الاقتراع وفصل السياسة عن مهام المؤسسات الدينية التنويرية. لقد أصبح واضحا لفئات عريضة من الشعوب العربية أن ميزة السياسة هو التغيير وميزة الدين هي الثبات، وأن أساس العيش المشترك داخل المجتمعات يتطلب الاتفاق على الثوابت والقيم الديمقراطية. لقد بينت ردود فعل الإخوان أنهم في جهة الإرهاب وخدمة الأجندات الخارجية وليس في جهة بناء الديمقراطية والدولة الوطنية. كما بينت التطورات بالموازاة إمكانية مرور مصر من إسلام الطائفة إلى إسلام المجتمع. وفي هذا الشأن أعتقد أن مؤسسة الأزهر الشريف بمصر، ومؤسسة أمير المؤمنين بالمغرب، يمكن أن يشكلا نموذجين للتحديث الديني ودعامة لمسلسل الانتقال الديمقراطي في المنطقة. بخصوص تركيا، لم يعد بإمكانها دعم جماعات الإخوان في مصر وفلسطين (حماس) وضمان امتداد نفوذها في المنطقة كما هو مسطر في تحالفاتها مع الغرب. إن الشعب المصري أصبح واعيا بالأطماع الخارجية نتيجة أهمية موقع بلاده وتاريخها وحضارتها وعدد سكانها. إن تمييع الثورة في سوريا دفع برواد الجبهة السلمية المعارضة للنظام الشمولي الاستبدادي في سوريا، وعلى رأسهم برهان غليون، إلى الانسحاب من المعركة. إنها تطورات مكشوفة تفرض على العالم الغربي، الأمريكي على الخصوص، العودة إلى المنتظم الدولي واحترام إرادة الشعوب، وبالتالي الكف عن دعم الإسلام السياسي انتخابيا وإيديولوجيا، وعن الاستمرار في جعل تركيا منفذا لإدخال الإرهابيين إلى سوريا. إن تطورات الأحداث في مصر أكدت اليوم أن الصراع المصلحي الإيديولوجي الأمريكي-الروسي في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن يستمر بمنطق الماضي. لقد سقطت الأنظمة العربية الحليفة للإتحاد السوفياتي سابقا، لكن ما وقع في مصر وما يحدث في سوريا وتونس يفرض على الأمريكان والروس الجلوس على طاولة المفاوضات بمسؤولية تامة تستحضر من جهة كون زمن الترويض الإيديولوجي والثقافي لشعوب المنطقة باسم الشيوعية وديكتاتورية البروليتاريا قد ولى، وأن تجربة دعم التيارات الإسلامية الإخوانبة والجهادية واحتضانها قد فشلت من جهة أخرى. لقد أبانت الشعوب عن قدرتها على الفهم، ولم يعد ممكنا استغلالها لا من طرف هذا المعسكر أو ذاك. لقد اتضح أن مستقبل المنطقة مرتبط بمدى استعداد القوى العالمية عدم تكرار أخطاء الماضي. العمل المستقبلي لا يمكن أن ينجح بدون إشراك الشعوب في بناء مصيرها في إطار الديمقراطية والحداثة والمدنية. لقد تأكد على مر التاريخ أن الإسلام السياسي كان دائما مصدر فتنة، وسببا في نشوب الحروب الأهلية الفتاكة وفي حدوث الانقسامات في المجتمعات. وعليه، لقد أصبح واضحا وضوح الشمس أن الإسلاميين لا علاقة لهم بالديمقراطية وأن ترديدها في خطاباتهم ما هو إلا وسيلة للوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع والعمل بعد ذلك بكل الوسائل المتاحة على إنزال مشروعهم الخلافي المضمر.