علم اللاهوت، كمناقشة حرة وتبادل وجهات نظر مختلفة بين العلماء الدينيين، اختفى من ساحة الإسلام كليا. وبما أنه لم يعد هناك اي فكر جاد ومسؤول في الإسلام فإنه لم يبق أمام الناس إلا الاستخدام المصلحي الانتهازي للتراث الإسلامي عموما، بل والتلاعب به كمجرد أداة لتحقيق أغراض أخرى { أعمالكم ومنشوراتكم العلمية تمتد على أكثر من أربعين عاما. هل تشعرون بأنكم أنجزتم كل مشاريعكم؟ لا، أبدا. كنت قد أشرت في كتاباتي المختلفة إلى مشاريع ورشات بحوث كثيرة لم أستطع تحقيقها لأسباب وجيهة. كانت في رأسي مخططات لأبحاث أساسية، ولكنني لم أستطع الشروع بها وتحقيقها لأني بشكل واع أو غير واع قبلت الدعوات الرسمية لإلقاء المحاضرات في شتى أنحاء العالم. كما وقبلت المشاركة في حلقات دراسية ومؤتمرات لا حصر لها ولا عد. وكل ذلك أخذ مني وقتا طويلا في السفر والتنقل من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة. نعم لقد شغلتني المؤتمرات والمحاضرات كثيرا، وبالتالي فقد كانت عندي مهنة أخرى. نعم لقد شغلتني المؤتمرات والمحاضرات كثيرا، وبالتالي فقد كانت عندي مهنة أخرى موازية لمهنة البحث العلمي. وقد مارست هذه المهنة وتابعتها في جميع بلدان العالم تقريبا. لاريب في أني استفدت من كل هذه المحاضرات والمناقشات والتساؤلات التي طرحت علي، وأعتقد أن الآخرين استفادوا أيضا. كانت متعة متبادلة. هذا شيء مهم. ولست آسفا عليه، ولكن هذه الفعالية الشفهية الضخمة حصلت على حساب البحوث المكتوبة. لولاها لكانت مؤلفاتي أضخم بكثير { وعلى الرغم من ذلك، فقد جددت الفكر الاسلامي في العمق من خلال مؤلفاتك الهامة المنشورة. وللأسف فلا نستطيع التحدث عنها كلها. لنقصر الحديث إذن، إذا تفضلتم، على بحوثك النقدية المتمركزة على العقل الإسلامي، وبخاصة نقدك للشافعي. أولا ينبغي العلم بأن الشافعي يشكل إحدى لحظات الفكر الإسلامي. وينبغي القول بأني أستخدم كلمة "»لحظة"« هنا بالمعنى الهيغلي أو الفلسفي للكملة. بمعنى آخر فإنها لحظة أساسية جدا وليست عابرة أو ثانوية. لقد أسس مذهبا فقهيا كاملا. وهذا المذهب دشن مرحلة جديدة من صيرورة الفكر الإسلامي عبر القرون. فعل ذلك عن طريق تأسيس ما يمكن دعوته للمرة الأولى بنوع من المنهجية، ولكنها منهجية خطرة. وقد بلور هذه »المنهجية« لكي يوقف ذلك النوع من الفوضى الناتجة عن إنتاج الأحاديث النبوية بكثرة وكيفما اتفق. وقد رافق فوضى الأحاديث النبوية هذه تكاثر المواقف الشخصية للفقهاء الذين يطلقون الفتاوى والأحكام الشرعية وكذلك اختلاف مواقف القضاة الذين يطبقونها. ولذا فقد خطرت على باله فكرة مركزة العمل التفسيري: أي طريقة استنباط الأحكام من النص المؤسس بعد تفسيره. كيف فعل ذلك؟ عن طريق القول بأن كل مفسر، وكل متكلم لاهوتي، وكل فقيه، ينبغي أولا الانطلاق من المصدر الأساس للإسلام، أي القرآن بطبيعة الحال. وهو المصدر الذي يتمتع بالشرعية العليا المقدسة التي لا تناقش لأنه كلام الله. ينبغي على هؤلاء أن يستنفدوا كل المصادر النصية لمجمل القرآن، أي كل آيات القرآن، بغية إيجاد حل للمشكلة الفقهية المعروضة عليهم في زمنهم. فإذا ما وجدوا جوابا شافيا على مشكلتهم فإنهم يكتفون بالقرآن. ولكن إذا لم يجدوا جوابا شافيا وواضحا في القرآن فإنه يحق لهم الانتقال إلى الحديث النبوي للبحث عن حل باعتباره الركن الثاني من أركان الوحي والإسلام. وهنا ينبغي على الفقيه أن يستعرض كل الأحاديث للبحث عن حل لمشكلته كما فعل مع أي القرآن. وذلك لأنه قد يجد في الحديث دعما له، أو نصوصا تؤكد ما يقوله القرآن، أو تدعم تفسيره لآيات القرآن. بعد أن يستنفد الأحاديث النبوية كلها كما فعل مع القرآنإذا لم يجد أي حل للمشكلة المعروضة عليه (بسبب جدتها مثلا)، فإنه ينبغي عليه ان يبحث عن مصدر آخر غير المصدرين الاكثر قداسة في الاسلام واللذين هما: اي القرآن والحديث النبوي. { إذن، ماذا عن إمكانية ثالثة؟ نعم. وهذه الامكانية الثالثة هي ما يدعى بالإجماع، اي اجماع المؤمنين. عندما اطلعت على هذه الفكرة للمرة الاولي فرحت جدا و رحت احلم. قلت بيني وبين نفسي: اذن، فالاسلام يمكن ان يمارس الديمقراطية! المقصود بها هنا ما يدعوه القرآن بالاجماع. والواقع ان بعض المسلمين لا يزالون يفتخرون بذلك حتي اليوم. فهمي قولون لك: نعم نحن لدينا الديمقراطية من خلال اجماع المؤمنين. ولكن تبقى هناك مشكلة هي الآتية: اجماع من؟ من اي نوع او سلطة عقدية؟ اجماع على ماذا؟ هل يقصدون به اجماع رجال الدين مثلا؟ ولكن من اين تجيء مشروعية رجال الدين هؤلاء وفي اي هيئة عليا يحصل اجماعهم في كل عصر؟ هل يعني ذلك اجماع كل المذاهب الفقهية الموجودة التي تسهم في استنباط الحكم الشرعي الحالي وتحقق التوافق والاجماع بين آراء مختلف أئمة المذاهب الذين كانوا هم انفسهم قد خلعوا اسماءهم علي التفاسير المختلفة؟ ام انه اجماع علماء كل منطقة على حدة؟ باختصار فاننا نكتشف فورا الحقيقة الاتية: وهي ان هذا الاجماع الذي يتغنون به و يفتخرون هو عبارة عن شيء طوباوي بالكامل. انه عمليا يستحيل على التحقيق. والحق انه لاسباب عديدة جدا فان ممارسة الإجماع لم تتحقق قط في التاريخ، وبالتالي فنحن امام مأزق. ولكنهم حافظوا عليه، اي على الاجماع، على الرغم من ذلك طبقا لمنهجية الشافعي الكاملة. فقد خصصت رسائل ومؤلفات بأكلمها لمتابعة النقاش والبحث داخل هذا الإطار حول مسألة الاجماع. لماذا؟ لان ا لامر يتعلق بفكرة الاساس الثالث الذي ينبغي فرضه وانه يلزم البحث عن شروط صلاحية الى الاساس الشرعي وبخاصة عندما يتعلق الامر بالقرآن والحديث النبوي، و لكن عندما نهتم بتفسير هذه النصوص نلاحظ انبثاق مشاكل عديدة لا تخطر على بال الشافعي اطلاقا، والاجماع يبقى عبارة عن مطلب نظري لا تطبيق له على أرض الواقع. { هل حل المتكلمون والفقهاء هذه المسائل؟ السؤال المطروح هنا هو الآتي: في بعض الحالات اذا كان هناك حديث نبوي يضيء المشكلة ولو على الاقل عن طريق التشابه والقياس ويتيح ايجاد حل جيد هل يمكن ان نهمل القرآن او نتجاوزه؟ بمعنى آخر هل "الكلمات" ا لمعزوة الي النبي، اي تعاليمه الشفهية المنقولة بواسطة التراث وليس عن طريق الوحي، سوف تصبح المرجع الاول بدلا من القرآن؟ ولكن هل يمكن خلع المشروعية على الحكم الشرعي بدون الدعم النهائي للقرآن؟ هكذا نلاحظ ان هذه الاسئلة ا لمتتابعة تطرح علينا مشكلة لاهوتية. اذا لم نجد شيئا يساعدنا على الحل في اي واحد من المصدرين الاساسيين، اي القرآن والحديث والنبوي، فانه ينبغي علينا على الاقل ان نجد علاقة مع احدهما. وعلى هذا النحو راح الفقهاء يجربون المحاجة عن طريق القياس. بمعنى انهم راحوا يدرسون الحالة المعروضة على الفتوى لكي يجدوا في الحديث النبوي او القرآن او كليهما. نقطة تماس تتيح لهم وصل الحالة المعروضة على الحل بما يقوله احد هذين المصدرين على الاقل. لم يعد الامر يتعلق بحل المشكلة مباشرة، وانما بفضل المحاجة القياسية يمكن للفقيه ان يقوم بما كان يفعله النبي نفسه عندما كان يفسر آية صعبة او يواجه حالة طارئة جديدة تتطلب حلا. صحيح انه من وجهة نظر صورية محضة فان هذا العمل لا يمثل قياسا. بمعنى ان القياس حسب منطق ارسطو مؤلف من مقدمتين نستخلص منهما بالضرورة النتيجة (الالزامية) ينبغي القيام بدراسة للنصوص من أجل مقارعتها بالواقع المعيش المحسوس او بالحالة الطارئة التي تتطلب حلا. ولكن في مثل هذه الحالة من لا يرى الصعوبات الجمة المتعلقة بايجاد المعطى الوسائطي؟ ينبغي في آن معا ان ننقب عميقا في المشكلة التي تتطلب حلا وان ننقب ايضا في اعماق النصوص، لكيلا اقول ينبغي ان نلوي عنقها لكي تتماشى مع الحل الذي نرغبه. أقصد نلوي عنق النصوص والمشكلة المطروحة على الحل في آن معا. وهذا ما يدعى بالحل التعسفي: أي إجبار النصوص على أن تقول ما لا تريد قوله، أو إجبار المشكلة على الخضوع لنص لا يتلاءم معها. ولهذا السبب فإن هذه المقاربة الثالثة، أي بواسطة القياس، كانت قد انتقدت كثيرا. وقد أثارت مناقشات ومجادلات لا حصر لها ولا عد. وبعضهم رفضها كليا. نضرب على ذلك مثلا الأوزاعي الذي كان إمام مذهب فقهي ولكنه انقرض على الرغم من أن الرجل كان منظرا دينيا كبيرا، فقد رفض هذه الأساليب. ولكن بما أنه كان يعيش في الأندلس، حيث لا يستطيع أي مذهب أن يفرض نفسه ما عدا مذهب مالك، فان الناس نسوه و أهملوا رأيه. ينبغي العلم بأن مذهب مالك أصبح وحيدا في الساحة تقريبا، كما القرآن، ولا يستطيع أي مذهب آخر أن ينافسه أو ينوجد في حضرته. إنه يهيمن هيمنة شبه مطلقة على العقول. نقول ذلك على الرغم من أن الأوزاعي ألف كتبا رائعة، ودبج رسائل كاملة لتبرير رفضه. ماذا كان رأيه أو الحل الذي يقترحه؟ كان يعتقد بأنه ينبغي الالتزام بالنص فقط وتشغيله أو تأويله بطريقة ذكية مرنة تتيح لنا أن نجد حلا للمشكلة. وإذا لم نجد أي شيء فينبغي أن نستلهم النصين المقدسين والآثار الدقيقة التي يمكن أن نجدها فيهما. وكان معه الحق في ذلك، فعندما ندرس المناقشات التي دارت حول العلاقة القياسية الكائنة بين المعطى اللاهوتي القرآني أو الحديثي من جهة، والمعطى الفقهي أو القضائي من جهة أخرى، فإننا نرى أن هذه العلاقات ضعيفة جدا في الغالب، وبكلمة مختصرة فإنها غير مقنعة. وهكذا نعود من جديد إلى الحلين الأولين: أي عن طريق القرآن والحديث النبوي. ولكن في هذه الحالة تنبثق أمامنا مشاكل متعلقة بصحة الأحاديث النبوية، وذلك لأنه توجد أحاديث كثيرة أصلها غير مضمون، بل وحتى القرآن فإنه يثير تساؤلات شائكة بدوره. وذلك لأن النص كما ذكرت سابقا بخصوص معجمه اللفظي (وضرورة التوصل الى المعنى الصحيح لكلمة ما في ما وراء مشاكل التركيب النحوي للجملة والقراءة)، أقول إن النص القرآني يطرح مشاكل »تقنية« هائلة من حيث تأويله. ولهذا السبب فانه أصول الفقه كعلم يظل عبارة عن بحث عن الاصول التي تهرب من أمامنا باستمرار، أو عن القواعد والأسس التي تنحسر وتتوارى كلما تقدمنا نحوها.. كلما قلنا وصلنا إليها هربت وضاعت. مهما فعلنا فإننا لا نستطيع أن نصل إلى أصل راسخ ،ثابت،موثوق.يضاف الى ذلك انه كلما ابتعدنا عن امام المذهب،ابتعدنا عن علم التفسير كما كان ممارسا حتى لحظة الطبري. وهو المفسر والمؤرخ الشهير، جامع تفاسير القرآن، ومؤلف كتاب ضخم بعنوان: تاريخ الأمم والملوك المعروف باسم: تاريخ الطبري. وكتابه الكبير الآخر اسمه جامع البيان في تفسير القرآن المعروف باسم تفسير الطبري. ومعلوم أنه مات عام 923 ميلادية. يضاف الى ذلك أن التفاسير القرآنية اليت ظهرت بعدئذ على مدار التاريخ كانت مرشحة لأن تختلف في ما بينها أكثر فأكثر، وبالتالي فمن المستحيل التوفيق بينها. لماذا؟ لأنه لم تعد توجد أدوات مضمونة، لا معاجم لفظية موثوقة، ولا قواعد نحوية مثبتة.. وبالتالي فما عاد المسلمون بقادرين على ممارسة ا لتفسير المجمع عليه في حده الادنى بخصوص كل آية قرآنية، بل وراحوا أكثر فأكثر يمشون في الاتجاه المعاكس، أي نحو تكرار أحكام القضاء أو الأحكام الشرعية التي غذت المعيار الفقهي. وفي نهاية المطاف فإنهم توصلوا بدءا من القرنين السادس عشر السابع عشر إلى هذا الحل الأقصى: قانون العرف المحلي! وذلك لأن الجهد التفسيري وبالأكثر المنهجي الشرعي كان قد استنفد طاقته. ولذا، فإن القانون سيظل جامدا طيلة عدة قرون في عالم الإسلام. في الفترة الحديثة، وبخاصة مع ولادة الحركات الأصولية، لم نلاحظ انبثاق المسائل الدائرة حول مناهج التفسير والتأويل وإنما انبثاق أجوبة براغماتية عملية، حالة بعد حالة، إذن تعسفية، ومختلفة باختلاف رجال الدين أو القادة الذين يمارسون عملية التأويل. أضرب على ذلك مثلا كاريكاتوريا تقريبا هو: طارق رمضان. أضربه كمثل ليس فقط بسبب صوته الهام أو إسهاماته الفكرية عن طريق ظهوره المتكرر على التلفزيون وكتبه العديدة، وإنما بسبب مساره وبراعته الشخصية المدهشة. فهذا الشخص الآتي من جهة الإخوان المسلمين المصربين انتقل من نظام إلى آخر حتى وصل به الأمر إلى حد الدفاع عن النظام الديمقراطي العلماني الذي يؤدي فيه الإسلام دورا هاما. ولكن لا تجد لديه أدنى حد من نقد الأصول الإسلامية. إنه يقبل كل شيء آت من جهة التراث كما لو أنه صحيح بالكامل. وهو يعتقد بأنه صحيح لأنه نازل من السماء كليا ولا علاقة له بالأرض أو بالتاريخ. إن مساره يستحق الدراسة لكي نفهم تقلبات »"أصل"« القانون الشرعي. كنت قد أسهمت شخصيا بحصتي من هذا العمل في كتاب صدر بالعربية تحت عنوان: (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، منشورات دار الساقي، بيروت، 1999). اقصد بذلك الفكر التأسيسي واستحالة التأسيس النهائي الواثق من نفسه كليا. نعم يستحيل أن نجد أساسا راسخا يمكن الاطمئنان إليه حتى في الفلسفة وبالأخص في الفلسفة وباتالي في علم اللاهوت أيضا. ولكن كما قلت سابقا، فإن علم اللاهوت، كمناقشة حرة وتبادل وجهات نظر مختلفة بين العلماء الدينيين، اختفى من ساحة الإسلام كليا. وبما أنه لم يعد هناك اي فكر جاد ومسؤول في الإسلام فإنه لم يبق أمام الناس إلا الاستخدام المصلحي الانتهازي للتراث الإسلامي عموما، بل والتلاعب به كمجرد أداة لتحقيق أغراض أخرى. أقصد هنا بالطبع التراث الإسلامي الذي لم يتعرض لعملية النقد التاريخي. لم يبق إلا ضرورة أن يرسخوا في أذهان المسلمين الفكرة القائلة بأن التشريع الي يصوغ القانون هو بالفعل متجذر كليا في القرآن. وبالطبع فإن صلاحية القرآن لا تخضع للتساؤل بل ولا تخطر على البال. هنا تكمن مأساة الفكر التي نعيشها حاليا في أرض الإسلام.