كتب رضوان السيد شهادة في حق محمد عابد الجابري بعد رحيله تمثل اعترافا بفكر الراحل مثلما تحيل إلى تدشين أفق علمي في قراءة التراث العربي الإسلامي، دون أن نغفل اختلافه معه في مجموعة من القضايا التراثية. بين الاعتراف والاختلاف إطار عقلاني، يؤسس الممكن في العالم العربي، ليس لأن مجال الحديث في الفقدان والرحيل وما يمليه هذا الحدث من طقوس. والكتابة في الرحيل والموت تشكل، هي الأخرى علامة تؤثث المشهد العام للفقدان، بل إنه لا يخفي جدة مشروع مفكرنا مثلما يتحدث عن بعض مزالق هذا المشروع الكبير. صحيح أن غالبية الباحثين - ورضوان السيد منهم ? يعتبرون أن مشروع الجابري هو مشروع إيديولوجي يروم الإجابة عن أسئلة الحاضر العربي، كما يشكل تجاوزًا مهما للقراءات الماركسية التي تكرست في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. يقول:»وهمي من وراء هذه الرؤية لمشروعه أو كتاباته غير هم نقاده من الحداثيين واليساريين والإسلاميين. إنما المشكلة في هذا التوظيف الكثيف، وفي دعوى تحرير «العقل العربي»، الحاضر بهذه الطريقة التي تتراوح بين القطيعة الباتة، والتواصل المنقطع النظير»1 . لا يهمنا من هذا القول فتح باب آخر حول مسألة القراءة للتراث كمسألة ما انفك حضورها يظهر في العتبة الأولى لأي كتاب مخصص لهذه الموضوعة، مثلما لا تهمنا مقارنة رضوان السيد بمحمد عابد الجابري، بقدر ما ترمينا أسئلة السياسة في الإسلام إلى فتح نافذة هذا المفكر اللبناني، الذي شكلت قراءته للتجربة التاريخية الإسلامية منحى مغايرًا، بمعنى أن قراءته لها ليست استجابة لأسئلة الحاضر، وكأنه يريد التوقف في الوسط. إن هذا التبرير المعلن عنه لا يستطيع ? مع ذلك- مقاومة تلك الأسئلة: الأساس الذي يدفع الباحث العربي- كيفما كان نوع بحثه- للاشتغال وإعمال النظر في موضوعة من موضوعات التراث العربي الإسلامي. وبالتالي فالحياد المعلن هنا يشي بمكر صاحبه (بمعناه الإيجابي). صحيح أن رِضوان السيد اختار استراتيجية خاصة لقراءته متمثلة في قراءة النصوص التراثية بعضها ببعض؛ أي في بنيتها اللغوية والدلالية، ثم في السياق العام لها، وهي طريقة تعلن الحياد والموضوعية منذ الأول، إلا أنه يمكننا مساءلة هذا المفكر اللبناني الذي توقفنا عند كتابين له، الأول: مفاهيم الجماعات في الإسلام، والثاني: الأمة والجماعة والسلطة دراسات في الفكر السياسي العربي الإسلامي، مساءلته في اختياره لهذا الفقيه أو ذاك، ولهذا الفيلسوف دون الآخر، والتركيز على هذه المرحلة التاريخية دون الأخرى. لقد بذل هذا المفكر جهدًا كبيرًا في إضاءة بعض المفاهيم الرئيسة في الفكر السياسي العربي، كمفهوم الجماعة والقبيلة والشرعية والأمّة والدولة. وهي مفاهيم يستشكلها من داخل المتن المقروء بالإضافة إلى سعة إطلاعه على الأصول والدراسات العلمية (نظريًا ومنهجيًا) في الغرب. وكذلك بتمثله الدقيق للاستشراق الأوربي. كل ذلك نتلمسه في دقة مراجعه ومصادره، بل في أسلوبه التحليلي الدقيق والأنيق معًا. إن استشكال موضوعة «المنظومة السياسية العربية الإسلامية» لا يستقيم إلا بالحفر التحليلي في المفاهيم التي أنتجتها هذه المنظومة. إنه يدشن حوارًا بين هذه المفاهيم من داخل النص العربي وليس من خارجه. وهذا ما يثبته الكتابان السابق ذكرهما معا. فمفهوم الجماعة في الإسلام، مثلا، لا يتحدد إلا من داخل النص القرآني كنص حامل لمشروع الأمة. فالجماعة، إذن ، لا نستطيع تحديدها إلا من المرجع المؤسس للثقافة العربية الإسلامية. إن هذا المسعى يفيد البحث المعجمي واللسني معًا، مثلما يقدم الوظيفة الإيديولوجية التي تؤسسها. إن القرآن قد بين تفصيلًا دقيقًا لهذا المفهوم، سواء في المرحلة المكية أو في المرحلة المدنية. إذ تحدث عن جماعة «قريش» وهي تسمية تفيد تلك الجماعة التي تقرشت قبالة الكعبة حسب المؤرخين واللغويين. وهي القبيلة المحددة تسميتها من جدها الأول والذي يعطيها نسبها. إلا أن هذا التعريف لا يصمد كثيرًا مع تصورات أخرى تربط القبيلة بالمصلحة الاقتصادية والتجارية وغيرها... سيتحدث القرآن أيضا عن «العشيرة» وهي الصفة المجازية للقبيلة، لكن ذات خصيصة نسبية في علاقة مباشرة بذوي القربى (بنو هاشم، بنو عبد المطلب...). وثمة مفاهيم متجاوزة لمفهوم الجماعة «القوم»، «الشيعة»، «الفريق»، «الفوج»، « الطائفة» إلخ... إن الدور الذي لعبته القبيلة والعشيرة معا في الدعوة المحمدية، تمثّل في النصرة القبلية دون ارتباطها بالدين. إن قوة العشيرة إذن من حيث عمقها السلالي ووظيفتها الدفاعية على لحمتها هي ما تفيدنا به الأحداث التاريخية، وبالضبط في الأزمات التي تعرض لها نبي الإسلام في مرحلته الأولى. لكن بالمقابل، ستنفجر الجماعة كمفهوم في النص القرآني (المرحلة المدنية) إلى أسماء متعددة: «المؤمنون» ، «الكافرون» ، المشركون، «أصحاب الكتاب»، «المسلمون»، «المخلفون»، «المنافقون»، «الأنصار»، «المهاجرون»: إن القبيلة، إذن، وحدة اجتماعية أساسية في شبه الجزيرة العربية ما قبل وما بعد الدعوة المحمدية. ولأن الأمر يحمل هذه الخصيصة، فإن النبي حاول تشذيبها وتطويعها دون إفقادها للعصبية المؤججة لصوتها. بمعنى أن النبي حاول توجيه القبيلة «بحيث تقبل العيش في إطار سياسي واحد لا يلغيها بل يوازنها وينظم علائقها ببعضها وبالعالم الخارجي على أن تبقى العصبية ذاتها عماد التضامن الداخلي»2. إنه يعني الأمّة من حيث هي اختراق للقبيلة، واستشراف للمستقبل الذي يريد أن يكون العالم كله مغطى بغطاء الدين الإسلامي الجديد. إن قراءة الأحداث التاريخية المؤسسة للدولة الإسلامية في عهد النبي، تظهر لنا ما حدده في الميثاق المبرم بيثرب، وحتى في الهجرة النبوية للمدينة حيث تكون المؤاخاة لحمة جديدة في النسيج الاجتماعي آنذاك رغم أنه من الصعوبة عزل العصبية القبلية في المدار السياسي والاجتماعي العام، لأنها ببساطة الحذر الذي ينبني عليه الاجتماع البشري آنذاك. إن رضوان السيد يرسم جغرافيا سياسية لمكة باعتبارها مركزا تجاريًا وطقوسيًا لما قبل ولما بعد الإسلام وأطرافها المترامية بين الدولة والقبائل (البدو والحضر معا)، لكن بالمقابل سيجد مفهوم الأمّة مفهومًا أساسيًا في تكوين المجال السياسي العربي، لا من حيث التجربة التاريخية فحسب، بل في الكتابات والمرويات التي أنتجتها. ولعل الحديث النبوي الذي أورده الإمام مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول لله قال: « تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه»: دعامتان رئيستان للأمّة، إنهما الخط الأحمر الذي لا يمكن لأي كان تجاوزه. إن فعل اختراقهما هو فساد الأمة وانهيارها التام. لقد قلنا سابقا إن رضوان السيد يجترح المفهوم من المصدر أو المصادر التي أنتجته وحدّدته لذا سيجد في مجموعة من المعاجم، بل في القرآن ذاته، معاني للأمّة من قبيل: ذكر أبو العميثل الأعرابي (340 ه) في «المأثور» في الفتوحات الإسلامية: إن هذه الممتلكات المحصّل عليها لن تؤول إلى ملكية خاصة، بل ستظل ملكًا عموميًا تقوم الدولة بتدبيره، فتسعى من خلاله إلى تحقيقي منفعة عامة. إنها الإمكانية الوحيدة لتدبير مالية الدولة من تجهيز الجند ودفع الرواتب للموظفين، وبالجملة هي ما تشكل دعامة الدولة الاقتصادية، بينما البعد الأخير هو الضامن لوحدة الأمّة. يرسم رضوان السيد الجغرافيا السياسية للعرب عبر رسم الحدود بين المفاهيم المشكلة لها، التي لا تعيش إلا في العلائق التي تربطها بمفاهيم أخرى. أي في العلاقة التي تربط العلاقة القبلية بالأمّة والشرعية والسلطة. وهي مفاهيم ما انفك حضورها يغذي ويتغذى من المجال السياسي العربي، فكأن قراءة الجغرافيا السياسية العربية لا تستقيم إلا داخل هذه المفاهيم التي تعتبر دعامتها الأساسية. لقد لقي الإسلام الوحدوي -في مسيرته لتحقيق الأمّة- معارضة من جانب االتكثلات التجارية التي كرهت السلطة المركزية الواحدة، ومن جانب البدو الذين كان التحالف العابر غير السلطوي هو أعلى أشكال الوحدة التي يقبلونها. وقد أمكن إضعاف التكتلات التجارية والسياسية عبر التصالح معها. أما البدو فلا يمكن استيعابهم إلا بعد نضالات عنيفة استمرت حتى وفاة الرسول. لذلك لا تضاهى دعوات الوحدة والقوة والتضامن في القرآن والحديث ظهورا وتأكيدا إلا الهجمات على الأعراب واتهامهم بالغلظة والنفاق والشقاق3. ستشكل السلطة السياسية مركزًا رئيسيًا في النقاش السياسي الدائر في الإسلام بعد موت النبي وبالضبط في علاقتها بالأمّة والعصبية القبلية. فإذا كان الأمويون قد أسسوا دولتهم على العصبية الأموية دون تدمير العصبيات القبلية الأخرى، فإنهم بحثوا في تقليد سياسي ساساني فارسي على من يبرّر ويدعّم سلطتهم. وقد وجد بعض الخطباء والمتكلمون والشعراء في هذا التراث إمكانية لذلك. وفي المقابل قامت الدولة العبّاسية على العصبيات القبلية المتعددة في ثورتها ضد الأمويين. فإذا كانت الدولة الأموية تروم مركزية الدولة الخاضعة للملك انطلاقًا من دعامتين أساسيتين هما: وحدة الأمّة ووحدة السلطة، فإن الدولة العباسية تروم وحدة السوق التجارية والوحدة الإدارية غير المتمركزة، ولذلك وجدت في الأمّة القاعدةَ الأساس لتوحيد الجموع؛ فلأن السلطان واحد ورمزٌ للوحدة فإن طاعته تصير واجبة علينا. هكذا، وجد العباسيون في المنظومة السياسية الفارسية الساسانية أفقا منفتحا لهم، أو بالأحرى سينفتحون على هذه المنظومة. لم تعد المنظومة السياسية الإسلامية وحدها في المجال السياسي العربي بقدر ما فرضت التجربة التاريخية للمسلمين الانفتاح على المنظومتين الفارسية والهيلينية. إنها منظومات تعلن الوحدة وتقييم نظامها عليه؛ أي على سلطة مركزية تخضع لها الأطراف. لكن، ثمة اختلافات في المعمار الذي تهندس به كل منظومة كيانها الوحدوي. إن هذا التلاقح الذي وجده المسلمون أمامهم، بحكم الاتساع الجغرافي للإسلام، من جهة والحوار الثقافي الذي هيأه المجال السياسي العربي منذ الدولة الأموية من جهة أخرى، هو ما تقدمه لنا الكتابات السياسية الشرعية والفلسفية والفقهية لابن المقفع والماوردي، الفارابي وابن سينا والمحاسبي وغيرهم، وهي اجتهادات تجمع الشرعية الدينية والسياسية للسلطان بالسلطة التي يمارسها والتي تضمن الوحدة للأمّة. في هذا الباب يستحضر رضوان السيد ? بكثير من التدقيق- تلك الاجتهادات، لا لعرضها بل للبحث عن الخلفيات الثاوية خلفها والمؤسسة لخطابها. وبالجملة، فإنه يضع تلك المفاهيم السالفة موضع بحث في الجذور والعلاقة التي تربط بعضها ببعض في السياق والوظائف التي تشغلها. إن المجال السياسي العربي اكتفى بتوظيف إيديولوجي لتلك المفاهيم، سواء من حيث موضعة السلطة المركزية بين الدولة الأموية والعباسية، أو من حيث البحث في الجدلية القائمة بين الشرعية والأمّة والجماعة. إن هذه الجدلية هي الناظم الإشكالي لكتاب رضوان السيد إن لم نقل إنها الإشكالية التي حددت أفق قراءته للفكر السياسي العربي، ورسمت حدودها العلمية رغبة في الموضوعية. وهو بذلك يتحفظ من المراجع الحبلى بإيديولوجية تحزبية. إن منطلق القراءة يبدأ من داخل هذه المراجع والمصادر لتصفيتها والتأمل فيها والتحوط من خطابها حتى لا ينزلق مثلما انزلق باحثون آخرون. إن الخوف من منزلقات القراءة مرده إلى الابتعاد عن الأحكام المعيارية التي تسكن بعض القراءات التراثية. إنها تموقع ذاتها في حياد ممكن، مثلما تضع جدتها، وصرامة تحليل بوابة البحث الرصين. كيف يحدد لنا هذه الإشكالية؟ أو بالأحرى كيف يقرأ جدلية الأمّة والشرعية والجماعة دون إغفال المفاهيم التي تفيض منها؟ لقد قلنا سابقا إن القراءة هي العتبة الأولى لأي بحث يفترض الموضوعية، مثلما يفترض المتن الذي يصنعه موضوعًا لدراسته، لذا وجب- حسب رضوان السيد- قراءته قراءة متأنية لمضامينه وقراءته في سياقه الاجتماعي والسياسي، وهي طريقة تبعدنا عن التشويش والمنزلقات التي تقدمها لنا هذه المصادر. لقد وجد الباحث أن الشرعية تخص القرشيين، لكونهم يتميزون بميزتين رئيستين وهما: أصل النبي ودار قريش. فإذا كانت الأولى تحيل إلى النسب الأموي القرشي، فالثانية تعني موضع دار قريش في الجغرافيا القبلية، من حيث هي الوسط بينهما. وإذا كانت الشرعية قد تم الحسم فيها بشكل أو بآخر حسب توظيف الديني لها (العباسيون والشيعة مثلا)، فإنها ارتبطت بمفهوم الشورى والجماعة. إلا أن الشورى سيتغير مفعولها من مرحلة عمر ابن الخطاب إلى نظام الملك عند الأمويين. فالأمويون سيروجون شعارا: « اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت». وهو الجسر التبريري الذي يربط بينهم والمجتمع. بمعنى أن الشورى لم تكن مؤسسة اجتماعية؛ فالدولة الأموية عزلتها من نظامها السياسي حين اتخذت نظام الملك. صحيح أن الشورى ظلت الشعار الإيديولوجي للمعارضين والخصوم معا، إلا أنها لم تترسخ في المجتمع. إن التسويغ الذي روجه الأمويون لرفضهم مبدأ الشورى هو الجماعة، حتى سمي عام تولية معاوية بن أبي سفيان «عام الجماعة». فكأن هذه الأخيرة تلغي الأولى. لقد وجدت السلطة الأموية ما يدعم رؤيتها للحكم في الأحاديث النبوية التي تفيد أن الجماعة هي الأصل في التنظيم والتأطير وما إلى ذلك. وحتى إذا انشق أحد من الجماعة، وجب قتله درءًا للفتن. إن الأهمية التي يوليها الفقهاء للجماعة تتمثل في الوحدة بين سائر المسلمين، أما التفرقة بينهم فهي رجوع إلى الجاهلية الأولى. لكن العلاقة الرابطة بين الشرعية والجماعة هي ما شكلت اختلافًا في وجهات النظر. فإذا كان توحيدهما هو الأفضل للأمّة، فإن تباعدهما فساد للأمة وانهيار لها. إن فقهاء الدولة الأموية استعانوا بالعقل في تأويل النصوص الدينية رغبة منهم في مركزة الشرعية القريشية في أحد بطونها المتمثل في بني أمية. إن الحديث عن الدولة الأموية هو حديث عن نظام سياسي جديد («نظام الملك») الذي تمت الإشارة إليه في أحد الأحاديث النبوية، التي تعلن عن رؤيا مفادها انه بعد ثلاثين سنة سيحل نظام الملك في الإسلام، والذي سيتميز بالفساد. يتوقف الباحث عند تفكيك هذه الرؤيا من خلال بداية الدولة الأموية والمبنية على مركزة الدولة عبر الابتعاد بقليل عن الدعوة. الشيء الذي جعل تفككًا في كيانها يحدث من خلال التمرّدات الموجودة هنا وهناك، والمبنية (بالأساس) على عصبيات قبلية ستسعى الأمّة في المرحلة العباسية إلى اختراقها وإلى ضم الموالي ثم ضم الشرعية الدينية التي وجدتها في العباس (عم النبي) إليها. ثمة موضوعة وجب الإشارة إليها وهي: الوسيط الممكن بين الحكم والمجتمع وهم من يمكن تسميتهم بإيديولوجيي الدولة، وهم فئة المثقفين الذين اعتني بهم منذ المرحلة النبوية: لأنهم القراء الذين وهبوا حياتهم للدين، والذين أرسلوا إلى قبائل أخرى لتعليمهم أبجديات الدين الجديد، إلا أنهم قتلوا حسب ما ترويه المرويات التاريخية. في عهد عمر ستحيا هذه الفئة بوضع وظيفي لها. فهي من جهة تتشكل من مجموعة من الشباب القارئ، ومن جهة ثانية يعتبر بعضهم مستشارا للخليفة، وبعضهم الآخر سيشتغل معلمًا ومراقبًا إداريًا لجند في رحلتهم الحربية. إن تكوين هذه الفئة المحددة وظائفها بشكل مؤسساتي في عهد عمر، ستتحول على نقيض ذلك في عهد عثمان وعلي بن أبي طالب، ذلك أن القرّاء هم من سيمارس المعارضة ضدًّا على سياسة عثمان، وعلى علي بن أبي طالب. لأن التحوّل السياسي الذي وقع بعد سيطرة معاوية على الحكم سيدمر مفهوم الخلافة، لينهار مشروع عمر المؤسس على تنظيم كوادر مثقفة للدولة الجديدة. إن هذا التحول يتضمن نظرة جديدة إلى التنظيم الاجتماعي، أي في تغيير الأساس الاجتماعي للمثقفين. بمعنى أن الدولة الأموية هيأت المتكلمين والفقهاء للدفاع عن نظامها السياسي، بل الاجتهاد في تسويغ الممارسة السياسية بالنص الديني، رغبة في ترسيخ الشرعية الدينية للحكم. وسيعرف القرن الرابع والخامس والسادس للهجرة أطرًا ثقافية جديدة (الفقهاء...) ملمّة بالقواعد الفقهية والقانونية. إن حاجة الدولة إلى هؤلاء فرضتها الأحداث السياسية والاجتماعية التي عرفتها هذه المرحلة. كما أن عدم الاهتمام بالعلماء وحتى بالمعتزلة، يعود إلى عدم قدرتهم على التأثير في الجموع العامة. كأن جاذبية الفقهاء وارتباطهم باليومي وبالجموع جعلهم المؤهلين لترسيخ وحدة الأمّة وشرعية الخليفة ووحدة الاعتقاد الديني. يعود بنا تحليل رضوان السيد إلى سؤال محمد عابد الجابري، في مقدمة مشروعه الفكري: «نقد العقل العربي»، الذي هو: لماذا فشلت الفلسفة ونجح الفقه؟ وكأني بالجواب الذي يضمره هذا السؤال هو ما يقدمه رضوان السيد في متابعته الدقيقة لمسار المثقف المسلم منذ الدعوة المحمدية إلى الدولة السلطانية. 1 رضوان السيد: «دراسات متباينة»: الجابري، جداول بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص: 67. 2 رضوان السيد: « الأمة والجماعة والسلطة»، دراسات في الفكر السياسي العربي الإسلامي، بيروتا، دار جداول، ط 5، 2011 ص: 62. 3 نفسه ، ص: 107