هذا الفاصل التاريخيّ الحِراك في مصر ضدّ «أَخْوَنة» المجتمع المصري، فاصلٌ تاريخيّ. فهو يتيح لنا القول بأنّ مدنيّة الدولة لم تعُد مجرّد رأي نظريّ تقول به أوساطٌ ثقافيّةٌ عربيةٌ ضيّقة وهامشيّة، وإنّما أصبحت حركةً شعبيّةً. أصبح الفردُ غيرُ «المفكّر» اختصاصاً، شريكاً للفرد المفكّر في رأيه وعمله. نشأ بين الفكر والحياة اليومية لقاءٌ سياسيٌّ فعّال، للمرّة الأولى في تاريخ العمل السياسيّ العربيّ. ولهذا اللقاء أهمّيّة فريدة وخاصّة تتمثّل في أنّه ليس حزبيّاً، وليس إيديولوجيّاً. إنه لقاء حياتيّ. لقاءُ تجاربَ وأعمالٍ وتطلّعات. إنه اللقاء - الحقيقة: الفكرةُ الخاصّة تحوّلت إلى وعيٍ عامّ. هذه هي النّواة الأساسيّة للعمل الذي يمكن وصفه بأنّه ثوريّ: عملٌ في القاعدة يضيئه نظرٌ في القاعدة أيضاً. عملٌ - نظرٌ / نظرٌ - عملٌ في أفق سياسيّ - ثقافيّ - اجتماعيّ: - المدنيّة العلمانيّة، - حكم القانون: الحريّة، المساواة، العدالة، - نَبْذُ العنف بجميع أشكاله النظريّة والعمليّة، - الاستقلاليّة، والرفض الكامل لأيّ تدخّل أجنبيّ، - المرأة شريكٌ للرجل في بناء الحياة والمجتمع، وفي جميع الميادين، من دون تمييزٍ أو فَرْقٍ إلاّ في ما يخضع للطبيعة. هذا يعني أنّ اللقاء الذي أشير إليه يناهض «العقليّة الإخوانيّة» التي تحوّل الإسلامَ - الثقافة والحضارة، إلى مجرّد حِزْبٍ يتمثّل فيه، وحده، الإسلامُ «الصحيح»، وإذاً المجتمع «الصحيح»، والسياسة «الصحيحة». هكذا يُحَوَّل الإسلامُ إلى « مُلكٍ» خاصّ، وتُحَوَّلُ الحقيقةُ هي كذلك إلى مُلكٍ خاصّ. وهكذا يسمح امتلاكُ «الدين» بامتلاك «الدنيا»، بل يقتضيه حُكماً. تؤدّي مناهضةُ «العقلية الإخوانية» ومناهضةُ كل تحزيب أو تسييس آخر للدين، وعلى اختلاف المذاهب، إلى التأسيس لفهمٍ جديد للإسلام. فهو على الصعيد الحضاري - الإنسانيّ مناخٌ ثقافيّ متميّزٌ وخاصّ. وهو على الصعيد الفرديّ، تجربةٌ روحيّةٌ متميّزة وخاصّة في العلاقة مع الإنسان ومع العالم، ومع الغيب، لا تُلزِم إلا صاحبَها. هكذا يظلّ الدين في مستواه الكونيّ، ويبطُلُ أن يكون أداةً أو آلةً سياسيّةً أو سلطويّة لأيّ فرد أو أية جماعة. وفي هذا العلوّ الذاتيّ يفيضُ تحرّرُ المسلمين عن كونه تحرّراً مما هو «خارج»، ويصبح كذلك انعتاقاً من «داخل». لا تعود «الأمّةُ» مفهوماً سياسيّاً، وإنّما تصبح كياناً روحيّاً: مجموعة الأفراد الذين يعيشون الإسلام، بوصفه تجربةً روحيّةً خاصّة، في العالم والإنسان، وفي المصير والموت وما وراء العالم. وفي هذا يتأكّد النظر إلى الدّين بوصفه غايةً لا وسيلة؛ وبوصفه تجربةً في تحرّر الإنسان وسموِّه، لا أداة لترويضه واستعباده. لا تلُمْني إذا كنتُ مِن فرْطِ حبّيَ لا أتودّدُ إلاّ إلى المستحيلْ.