البطولة الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة ال 26).. حسنية أكادير يفوز على نهضة بركان (2-0)    الاعتداء الخطير على بعثة "المينورسو" في تيفاريتي يدفع للتعجيل بتصنيف بوليساريو على قائمة الارهاب الدولي    رغم الأمطار.. آلاف المغاربة في مسيرة من أجل فلسطين والتأكيد على وحدة التراب الوطني    الجزائر تدافع عن مشتبه به في جريمة محاولة اغتيال... وتتهم الآخرين بالتآمر    علماء ودعاة مغاربة يُدينون رسوّ سفن أمريكية تحمل عتادًا موجّهًا للاحتلال الإسرائيلي    تحقيق دولي لواشنطن بوست يكشف: إيران جنّدت مقاتلي البوليساريو في سوريا لتهديد أمن المغرب    إحداث مراكز الدراسات بسلك الدكتوراه في العلوم التمريضية وتقنيات الصحة ابتداء من الموسم الجامعي المقبل    المباراة الرسمية للقفز على الحواجز بتطوان : الفارس الغالي بوقاع يفوز بجائزة ولي العهد    حمزة إيغامان يقود ريمونتادا رينجرز أمام أبردين    اسبانيا .. تفكيك شبكة تهرب المهاجرين من المغرب إلى إسبانيا عبر رومانيا    مندوبية السجون تنفي صحة مزاعم وردت على لسان السجين السابق (ع. ر)    الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية: مبادرة مغربية تكتسب شرعية دولية متصاعدة    قرعة كان أقل من 20 سنة.. المنتخب المغربي في المجموعة الثانية    إدريس لشكر بدون لغة خشب : «وطنيتنا هي التي تملي علينا مواقفنا»    اللجنة المشتركة المغربية العمانية: شراكة متجددة تعكس عمق العلاقات الثنائية    تافراوت : مجهودات جبارة لرجال الوقاية المدنية ساهمت في إنجاح النسخة ال 12 لمهرجان اللوز    القرعة تضع "الأشبال" بمجموعة قوية    المغرب يطلق مبادرة إنسانية جديدة لدعم الأطفال الفلسطينيين في غزة والقدس    مصدر ينفي تعرض موقع وزارة للاختراق    وفاة أستاذة أرفود متأثرة بإصابتها بعد الاعتداء الشنيع من طرف أحد طلابها    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    مؤشر الحرية الاقتصادية 2025.. غياب النزاهة الحكومية وتصلب سوق الشغل يُفرملان نمو الاقتصاد المغربي    قطاع مكافحة سوء التغذية يحذر من «كارثة»    في ورقة لمركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي .. مرسوم دعم المقاولات الصغيرة خطوة تعيقها معضلات التوزيع والبيروقراطية وهذه توصياته    أخبار الساحة    الوداد والرجاء يقتسمان نقط الديربي، والمقاطعة تفقده الحماس والإثارة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين.. نزول أمطار بمنطقة طنجة    رشيد المرابطي يحطم الرقم القياسي لماراطون الرمال وعزيزة العمراني تفقد لقبها    في قبضة القصيدة الأولى: ذاكرة النص الأول بعيون متجددة    بينبين مستاء من تغييب وزارة الثقافة له خلال معرض الكتاب بباريس    الدرك الملكي يشن حملة أمنية واسعة عبر التمشيط بالتنقيط الإلكتروني    الصين تدعو الولايات المتحدة الى "إلغاء كامل" للرسوم الجمركية المتبادلة    عبد الوهاب الدكالى يعود بجمهور الرباط إلى الزمن الجميل    مكتب الصرف يحقق في تهريب العملة من طرف منعشين عقاريين    طبيب: السل يقتل 9 أشخاص يوميا بالمغرب والحسيمة من المناطق الأكثر تضررا    اندلاع النيران في سيارة على الطريق الساحلية رقم 16 نواحي سيدي فتوح    درهم واحد قد يغير السوق : المغرب يشدد القيود على واردات الألواح الخشبية    محاميد الغزلان ترقص على إيقاعات الصحراء في اليوم الثالث من مهرجان الرحل    من خيوط الذاكرة إلى دفاتر اليونسكو .. القفطان المغربي يعيد نسج هويته العالمية    'واشنطن بوست': إيران دربت مسلحين من البوليساريو وسوريا تعتقل المئات منهم    الدورة السابعة للجنة المشتركة المغربية–العمانية تُتوّج بتوقيع مذكرات تفاهم في مجالات متعددة    المغرب وسلطنة عمان يؤكدان عزمهما على تطوير تعاونهما في شتى المجالات    دراسة: الجينات تلعب دورا مهما في استمتاع الإنسان بالموسيقى    تيفلت.. توقيف شخصين انتهكا حرمة مسجد في حالة تخدير    المغرب يستقبل 4 ملايين سائح في الربع الأول من 2025    تحسن ملحوظ في نسب امتلاء سدود المغرب مقارنة بالعام الماضي        مستقبل الصحافة في ظل التحول الرقمي ضمن فعاليات معرض GITEX Africa Morocco 2025    الدوزي يمنع من دخول أمريكا بسبب زيارة سابقة له للعراق    أمسية فنية استثنائية للفنان عبد الوهاب الدكالي بمسرح محمد الخامس    التكنولوجيا تفيد في تجنب اختبار الأدوية على الحيوانات    غموض يكتنف انتشار شائعات حول مرض السل بسبب الحليب غير المبستر    الذئب الرهيب يعود من عالم الانقراض: العلم يوقظ أشباح الماضي    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    









سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب : ملاحظات أولية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 06 - 2013


1- العمل الجمعوي في ظل الحماية الفرنسية :
ينبهنا الباحث عبد الله حمودي، إلى أنه من الصعب الحسم قطعيا في مسألة استمرار أو انفصال التنظيمات المدنية التي عرفها المغرب في السياق الاستعماري، وتلك التي ميزت المجتمع المغربي تاريخيا. فهناك تشكيلات مدنية نابعة من التجربة التاريخية الخاصة لمجتمعنا. لكن بعض تشكيلات المجتمع المدني لم تبرز في الواقع إلا ضمن السياق الاستعماري، أي في الهامش المدمج والمفرق بين التجربتين:المغربية والغربية.
وهكذا فقد شهدت فترة الحماية تأسيس عدد من الجمعيات، من أبرزها : جمعيات قدماء تلاميذ الثانويات في المراكز الحضرية مثل «جمعية قدماء ثانوية مولاي يوسف»بالرباط و»جمعية قدماء ثانوية مولاي إدريس»بفاس، وجمعيات الكشفية الإسلامية والحسنية، وجمعيات التربية والتخييم والفرق المسرحية...والفرق الرياضية المختلفة، والجمعيات الثقافية..الخ. ويذكر الباحث محمد سبيلا نماذج أخرى من هذه الجمعيات، أهمها: «النادي الأدبي» بسلا، «حماة الحقيقة «بالرباط، الرابطة المغربية للطالب» بتطوان، «جمعية المغرب الحديث»، جمعية الشباب المغربي»، «رابطة طلبة شمال إفريقيا»، «رابطة العمل المغربي»..الخ .وقد تأرجحت على العموم مواقف السلطات الاستعمارية تجاه هذه الجمعيات بين التشجيع، خاصة عندما يتعلق الأمر بجمعيات تخضع لتوجيه الإدارة وتخدم غاياتها، أو على الأقل لا تشكل أي تهديد لوجودها، وبين التضييق والحصار، في حالة العكس، كما حدث لجمعية قدماء تلاميذ ثانوية أزرو ، التي رفض الحاكم العسكري لجهة مكناس الترخيص بتأسيسها بتاريخ 27 مارس 1942، قبل السماح بذلك عندما ضمن إمكانية التحكم فيها عبر فرض قانون أساسي تحكمي و»تعيين» أعضاء الجمعية.
وفي مجال الحريات العامة، كانت المرتكزات الأساسية لقانون الحريات العامة، خلال نظام الحماية هي ظهائر 27 أبريل 1914، و9 فبراير 1918 و20 نونبر 1920 حول الصحافة، وظهير 24 ماي 1914 المنظم للحق في تأسيس الجمعيات ،و ظهير 26 مارس 1914 حول حرية الاجتماع .وتستمد هذه النصوص روحها من التشريع الفرنسي، لكن درجة ليبراليتها كانت أقل، لدوافع سياسية مرتبطة بضمان استمرارية الحضور الفرنسي بالمغرب.فعلى سبيل المثال تميز ظهير 24 ماي 1914 بطابعه التضييقي ، حيث كان يفرض على كل من يريد تأسيس جمعية، سواء كان مغربيا أو فرنسيا، ضرورة التصريح القبلي بذلك، كما كان يمنح للإدارة حق المراقبة الإدارية الضيقة، التي تصل إلى حد معارضة تأسيس جمعية ما ، في أجل ثلاثة أشهر انطلاقا من التصريح الأخير.
وعلى العموم يمكن القول ، مع الباحث محمد جسوس ، إن المجتمع المغربي ظل طوال قرون يعتمد على الأسرة والقبيلة والعشيرة والزاوية والجماعة، وكانت هذه التنظيمات تتكفل برعاية الأطفال، والاهتمام بحاجات الكبار والنساء ومختلف الأجيال وإدماجهم داخل المجتمع.كما كانت هذه التنظيمات قريبة من حياة المواطنين، بحيث يعتمدون عليها بشكل كبير في مختلف مجالات حياتهم .لكن مع بداية القرن الماضي بدأت هذه المؤسسات التقليدية تعرف تراجعا كبيرا من حيث سلطها ومواردها، وفعاليتها وقدرتها على الاستمرار في تلبية تلك الحاجيات.
وقد ساهمت السياسة الاستعمارية الفرنسية، في نظر الباحث علي الكنز ، في الحط من قيمة هذه الأشكال المحلية للتنظيم والتعبير، من خلال تأكيدها على التقابل بين «السيبة والمخزن»، أو بين ثورة الجموع و إرهاب الدولة.ونتيجة لذلك تقوى عند الوطنيين المغاربة احساس بالرفض لكل البنيات الاجتماعية التقليدية..
و بالمقابل لم يتمكن المجتمع المغربي من بناء مؤسسات بديلة للتنظيمات التقليدية إلا بصفة جزئية ، سواء تعلق الأمر ببناء تنظيمات المجتمع المدني ( الحزب والنقابة ..) أو ببناء صرح الدولة الحديثة ، من أجل التكفل بضمان الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والسكن والأعمال الاجتماعية..الخ، والتي شابتها عدة اختلالات، أفضت إلى بناء دولة متعالية ، مركزية وبيروقراطية ، تنزع نحو الاستبداد والاستغلال وسوء استعمال المسؤولية الإدارية والسياسية والموارد العمومية.وفي هذا الصدد حاولت الحركة الوطنية بناء أدوات أخرى وأجهزة أخرى تتكلف بتغطية حاجيات المجتمع، التي لم يعد يتكلف بها أحد، خصوصا عبر خلق الجمعيات، التي هي تنظيمات ذات طابع وسائطي، تستهدف تلبية حاجيات وحقوق إنسانية واقتصادية واجتماعية، لم تعد تلبيها التنظيمات التقليدية، ولا تستطع الدولة تلبيتها وحدها.
والواقع أننا نجد بوادر الوعي بأهمية الجمعيات في بناء المجتمع المغربي في فكر الحركة الوطنية، التي لم تراهن على مؤسسة الحزب والنقابة فقط، بل نجد استحضارا للجمعيات أيضا وللتنظيمات المدنية عموما، ولعل هذا ما نلمسه، على سبيل المثال، في خطاب أحد قادة هذه الحركة، الذي يقول « هدفنا هو تكوين مجتمع مغربي صالح جدير بتراثه وبما يصبو إليه من مستقبل رفيع، وذلك لخير الإنسانية.فيجب أن نعمل بكل ما في المستطاع لبث هذا الهدف في النفوس حتى يبعث فيها الشعور العام به ويؤلبها لخدمته.ولنشر هذه الفكرة يجب استخدام كل ما في متناولنا من مؤسسات اجتماعية عتيقة أو جديدة.» ولن يتحقق هذا الهدف ، في نظر صاحب «النقد الذاتي»، إلا بتنظيم الشباب ضمن الفرق الكشفية والرياضية والتنظيمات الجمعوية.
وهكذا فقد هيمنت النزعة الوطنية على العمل الجمعوي في مرحلة الحماية ، من خلال انخراط الفاعلين الجمعويين في الجهود الوطنية الرامية إلى توعية المغاربة بالتحديات المطروحة عليهم، واستنهاض هممهم من أجل مكافحة المستعمر، و الحفاظ على الهوية الثقافية والوطنية والدفاع عنها ، وذلك عبر برامج وأنشطة ثقافية وتربوية.
2- العمل الجمعوي بعد الاستقلال :
لم تتطور الحياة الجمعوية ، خلال السنوات الأولى التي أعقبت استقلال البلاد، على عكس ما كان متوقعا، حيث ظلت هذه الحياة تتمحور حول شبكة جد ضيقة من الجمعيات.حيث ظهرت في هذه الفترة، مجموعة من الجمعيات الموازية لحزب الاستقلال، وأخرى أقل تخصصا، وأقل ارتباطا بالحزب السياسي، مثل جمعيات قدماء التلاميذ، الجمعيات الرياضية، الجمعيات الإحسانية ، جمعيات العلماء. كما تميزت السنوات الأولى من الاستقلال بظهور مفهوم التطوع بمعناه الحديث، ، إذ تمثل سنة1957 حدثا مهما في هذا الإطار، حيث يمثل مشروع «طريق الوحدة» الهادف إلى الربط الطرقي بين المناطق التي كانت خاضعة للاستعمار الاسباني وتلك التي كانت خاضعة للحماية الفرنسية، تعبيرا عن روح التطوع، كما يجسد رمزا لوحدة البلاد.والأساسي أنه شهد مشاركة آلاف المتطوعين القادمين من مختلف جهات المغرب.وبحكم التأثير القوي الذي كان لهذه التعبئة الجماهيرية على العقليات ، خاصة على الشباب، شهدت هذه الفترة نشأة عدد من جمعيات الشباب، نذكر منها الطفولة الشعبية، الشعلة، الجمعية المغربية لتربية الشبيبة...الخ، والتي هي جمعيات تشتغل بشكل خاص في المجال التربوي والسوسيو-ثقافي، لكن بخلفية سياسية.
وعلى العموم تبنت الدولة المغربية ، ذات الموقف الحذر الذي حكم تعامل سلطات الحماية مع الجمعيات. وكما يذكر الباحث ريمي لوفو، حول الفترة التي أعقبت استقلال البلاد مباشرة، فقد كانت الإدارة تنظر بعين الريبة إلى كل تجمع للأشخاص ، ولو كان لأسباب بعيدة كل البعد عن الفعل السياسي، فهي تعتبر أن ، كل قوة قادرة على التعبئة، مرشحة من حيث المبدأ، لكي تنحرف عن هدفها الأصلي. وهكذا، فبدل أن يخف أو يتلاشى الضبط الاجتماعي و المراقبة السياسية للساكنة ، بعد خروج المستعمر، ازدادا وتعمقا في ظل الدولة الوطنية المستقلة، لدرجة أن المواطن لم يكن يتصور إمكانية وجود أي كيان مدني مستقل عن المخزن.
فقد كشف بحث منجز بعد أكثر من عشر سنوات بعد الاستقلال، حول آراء ومواقف الشباب القروي من مجموعة من القضايا، منها السلطة، بأن الدولة و المخزن في عالمهم ، كانا يحيلان أولا على السلطات المحلية، ثم ثانيا على «ممثلي الساكنة»، أي المستشارين الجماعيين، الذين ينضاف إليهم نواب الأراضي السلالية أو الجموع، ورؤساء التعاونيات..
ولهذا ظل الحق في تأسيس الجمعيات يتعرض لتضييق كبير، إلى حدود إصدار ميثاق الحريات العامة، في نونبر 1958، بل وحتى فيما بعد ، حيث لم تتطور الممارسة الجمعوية كثيرا، ولم تلق التشجيع المطلوب .
ومن خلال ملاحظة مؤسسات وقوانين المغرب المستقل يتبين لنا انشغال الدولة، باستنساخ التشريع والمؤسسات الفرنسية ، من قبيل : لامركزية الإدارة المحلية مثلا، المؤسسات الدستورية، وقانون الحريات العامة...الخ.فعقب الاستقلال، نشرت الجريدة الرسمية ل 15 نونبر 1958 قانون الحريات العامة، ويتضمن ثلاثة ظهائر، منظمة لحقوق تأسيس الجمعيات، الاجتماع والصحافة، تقترب في روحها من قوانين 1881 و 1901 الفرنسية.
ذات الملاحظة يؤكدها الباحث محمد عابد الجابري ، عندما يقول « عندما يريد المرء أن يفهم الطريقة التي عالج بها المغرب المستقل هذا المشكل أو ذاك من «مشاكل الاستقلال» سيرتكب خطأ كبيرا إذا هو أغفل حقيقة أساسية تحكمت في عمل جميع حكومات المغرب منذ الإعلان عن الاستقلال سنة 1956، هذه الحقيقة هي أن استقلال المغرب لم يدشن أية قطيعة مع فرنسا في أي ميدان كان.»
ويرجع أحد الباحثين الفرنسيين سعي الدولة المغربية الحثيث إلى استنساخ المؤسسات والقوانين الفرنسية إلى عدة اعتبارات أهمها : القيمة المبالغ فيها، التي كانت تمنح لمؤسسات سلطة الحماية، استمرار حضور المساعدة الفرنسية التقنية بعد استقلال المغرب. حيث ظل يتواجد، حوالي 15 ألف مساعد تقني فرنسي في المغرب المستقل إلى حدود يناير 1958، وما بين 5 و 6 آلاف إلى حدود يناير 1961.والمؤكد أن الاتجاه الطبيعي لهذا العدد الهائل من المساعدين التقنيين الذين هم في الغالب موظفين سابقين في الإدارة الاستعمارية، هو استنساخ المؤسسات والقوانين التي يعرفونها بشكل أفضل.
ولاشك أن التدخل الاجتماعي للدولة خلال العقود الأولى التي أعقبت الاستقلال، خصوصا من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية ، دعم المواد الأساسية ، تشجيع السكن الاجتماعي الخ، ومراقبة الدولة لجزء مهم من الاقتصاد ، شكلا أداة أساسية لضبط النظام، إلى غاية أزمة سنوات الثمانينيات وتطبيق برنامج التقويم الهيكلي.فقد نجحت هذه السياسة ، رغم بعض الانفجارات العنيفة، في ضمان استقرار كبير للدولة منذ الاستقلال.وجاء برنامج التقويم الهيكلي في سنوات الثمانينيات للإخلال بهذا التوازن.فسياسة التقشف المالي التي تميزه، انتهت إلى تخلي الدولة عن التزاماتها désengagement de L?Etat في المجال الاجتماعي(التعليم، الصحة..الخ)، مما انعكس سلبا على قدرة الدولة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي والإيديولوجي الذي كانت تضطلع به في الفترات السابقة على التقويم الهيكلي. وكما هو معلوم طبق المغرب برنامج التقويم الهيكلي ، عقب أزمة مالية خانقة، وقد استهدف بالأساس خفض النفقات الاجتماعية ، من أجل تقليص النفقات العمومية ، بالنظر إلى حجم عجز الميزانية الذي بلغ أكثر من 12 % من الناتج الداخلي الخام.ويتضمن التقويم الهيكلي محورين، فمن جهة تدابير من أجل تقليص الطلب العام على المدى القصير، وتندرج هذه التدابير أساسا ضمن الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، ومن جهة أخرى تدابير من اجل الزيادة في العرض، بفضل الإصلاحات الهيكلية، وبعض هذه التدابير ممولة بقروض من البنك العالمي.والتدابير الأولى هي التي شكلت تهديدا بالنسبة للنفقات الاجتماعية، بما أنه ينبغي تقليص السريع لعجز الميزانية..
فكان من نتائج ذلك بروز الجمعيات كفاعل جديد في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية، فاعل يحظى باعتراف متزايد، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
وقد تحولت الجمعيات، في ظل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية إلى فضاء لإعادة رأب صدع الرابطة الاجتماعية المبتورة بين الفئات الاجتماعية المقصية من النظام وباقي الفئات الأخرى داخل المجتمع، وإلى مجال لمواجهة آثار الإقصاء الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي والثقافي.
ومثلما توضح الباحثة فاطمة المرنيسي فان أجيال ما بعد التقويم الهيكلي وجدت نفسها مطالبة أكثر من غيرها بتحمل المسؤولية والمساهمة في تدبير الشأن العام ، عبر تأسيس جمعيات غير حكومية والأكثر من ذلك مطالبة بالخلق والإبداع ،وتنويع مجالات التدخل ،من أجل تجاوز الأزمة المجتمعية العامة.وفي هذا السياق ترى هذه الباحثة، أن هذه الدينامية الجمعوية التي عرفها المغرب، منذ عقد التسعينيات، تعكس بداية وعي المواطن المغربي بحقيقة أن النقد لا ينبغي أن ينصب دائما على أداء الدولة لوحدها( برنامج التقويم الهيكلي) ، وأن المواطن أيضا يتحمل جزءا من المسؤولية في ما يحدث،لأنه أصبح اتكاليا ويراهن بشكل مطلق على الدولة، في الوقت الذي كان أسلافه يتعبؤون وينتظمون ويبادرون في استقلال نسبي عن الدولة، كما رأينا سابقا.
لكن الدولة من جانبها قامت خلال سنوات الثمانينيات بخلق مجموعة من الجمعيات الجهوية ، للقيام ظاهريا على الأقل ، بأنشطة ذات طبيعة ثقافية واجتماعية، تدخل في إطار مساعدة الإدارة في المجالات التي تعرف فيها خصاصا.
لكن في الواقع ، يستهدف إنشاؤها منافسة نشاط الأحزاب الوطنية والنقابات، والجمعيات.ذلك أن فترة الثمانينات شهدت على المستوى الجمعوي، الذي يهمنا أكثر في هذا المقام ، انتشارا ملحوظا للجميعات الثقافية في العديد من الأحياء الشعبية للمدن الكبرى وكذلك في العديد من المدن الصغيرة والنائية بل حتى في العديد من القرى. لهذا يمكن القول بأن العمل الجمعوي لم يعد فقط ظاهرة ثقافية بل أصبح أيضا ظاهرة اجتماعية، تعبر عن حاجة أعمق لدى عدد كبير ومتعاظم من المثقفين والمتعلمين.وتكفي ملاحظة المعجم الذي وظفه الشاعر والباحث عبد اللطيف اللعبي للحديث عن واقع العمل الجمعوي بالمغرب خلال الثمانينيات من القرن الماضي، في مقاله» المسألة الثقافية والعمل الجمعوي»، لاستنتاج حقيقة تمحوره حول القضايا الثقافية والإيديولوجية، فالعمل الجمعوي في نظره، هو إطار للممارسة الثقافية، مرآة عاكسة للقضايا الفكرية والثقافية المركزية، تسمح بربط جمهور الهوامش ( الأحياء الشعبية في المدن الكبرى، المدن الصغيرة والنائية، القرى...الخ) بالإنتاج الفكري والثقافي المركزي...و الجمعيات هي عامل لإعادة إنتاج و توزيع للمنتوج الثقافي والإبداعي الخ.
ويرى الباحث عبد الله العروي في مبادرة خلق هذه التنظيمات إحياء شكل من الاخوانيات والهيئات الحرفية القديمة في حلة جديدة.ولم يعرف هذا المشروع النجاح المنتظر منه، على مستوى الواقع.ويشير الباحث إلى أن الدولة شجعت شخصيات نافذة مقربة منها، من أجل تأسيس هذه الجمعيات، ليس لها أي دراية بالعمل الجمعوي، فكانت النتيجة هي، تسيير من طرف أفراد غير أكفاء وفاسدين، لا يقومون بأي شيء لإخراج المدن والمناطق، التي ينحدرون منها، من تخلفها فقد كان هناك مشكل مجتمعي حقيقي ، لكن الحل المعتمد، لم يفهم أبدا، لأنه من وحي الإدارة وخاضع لمراقبتها.و قلة قليلة فقط من هذه الجمعيات ، هي التي استطاعت فرض نفسها، لكن مع ذلك كان تأثير هذه «التجربة» كبيرا على الأذهان، يظهر ذلك بوضوح على مستوى الخطاب السياسي المعارض، الذي تمحور حول نقد هذه التنظيمات ، التي توصف في نوع من السخرية بأنها» جمعيات الهضاب والأنهار والسهول والجبال».
ولو أن البعض يعتبر أن هذه الجمعيات الجهوية لعبت دورا مهما في مرحلة لم يكن فيها المغرب مستعدا لانبثاق مجتمع مدني فعلي.فهي ملأت الفراغ الذي كان يتهدد المجتمع المدني المغربي، كما شكلت ما يشبه»المختبرات» التي سبقت ظهور المجتمع المدني.
ومع ذلك ، فلا يمكن الحديث عن» مجتمع مدني» ، وعن تعبئة المواطنين بالمغرب إلا في سنوات التسعينيات ، التي شهدت دينامية جمعوية غير مسبوقة في تاريخ المغرب الحديث.لا سيما في هذه المناطق النائية والمهمشة التي ظلت لعقود تفتقر التنظيمات الجمعوية كفضاءات للمشاركة والإبداع. والمثير ، أن سكان هذه المناطق، استوعبوا بسرعة فائقة التنظيم الجمعوي كأداة للتنمية، حتى ولو أن خلقها لم يصبح بعد مسألة سهلة التحقيق، خصوصا في المناطق المعزولة، المفتقرة إلى موارد بشرية متعلمة ومؤهلة.
و لا يمكن فهم هذا التطور المضطرد للديموغرافيا الجمعوية منذ بداية التسعينيات ، ولمساهمتها في ملء الخصاص الديمقراطي و التخفيف من أشكال عجز السياسات التنموية الرسمية ، دون الأخذ بعين الاعتبار تغير سلوك الدولة، التي بدأت تعيد النظر،شيئا فشيئا، في سياساتها تجاه الجمعيات، والمجتمع بشكل عام، من خلال تجاوز مقاربتها الفوقية، السلطوية ، المركزية والتوجيهية ، التي تنظر إلى السكان وإلى تنظيماتهم المدنية، ككيانات سلبية، وعاجزة عن تنفيذ المشاريع التي تتعلق بها، نحو اعتماد مقاربة تشاركية ، لامركزية، تصاعدية، ومنفتحة على الجمعيات، وعلى باقي الفاعلين المجتمعيين الآخرين.
ومع ذلك فلا يمكن فهم التطورات التي شهدها العمل الجمعوي ببلادنا مع مطلع عقد التسعينيات، بدون ربطها بالدينامية التي شهدها المجتمع المدني الدولي، في سياق مجابهته للتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، المتمخضة عن العولمة، والأخطار التي تمثلها.حيث تطورت إستراتيجية الممولين الدوليين في تجاه تقديم تمويلات ومساعدات أكثر للجمعيات، خصوصا أمام تفاقم مشاكل الدولة (سوء التدبير و الفساد..الخ).
ولا بد من الإشارة في الأخير إلى أنه علاوة على الطفرة النوعية، التي شهدها عقد التسعينيات، خاصة على مستوى البروز الملفت للجمعيات التنموية، في المناطق النائية والمهمشة ، عرف هذا العقد تأسيس جمعيات جديدة، تستهدف تجديد التفكير في البنيات السوسيوسياسية للبلاد وتأثيرها على التنمية الاقتصادية، ارتبطت في الغالب بأحزاب سياسية، مثل مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد ، مؤسسة علال الفاسي ، مركز عزيز بلال مؤسسة بن الحسن الوزاني، مركز الدراسات لحسن اليوسي...الخ ،و إن كان البعض يعتبر نفسه مستقلا عن التنظيمات الحزبية، مثل جمعية بدائل، مؤسسة زاكورة ، إضافة إلى ظهور تنظيمات مدنية ، تابعة للمقاولات والأبناك المغربية، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمؤسسة البنك المغربي للتجارة والصناعة، مؤسسة مجموعة البنك الشعبي، مؤسسة مجموعة بنك الوفا، مؤسسة محمد كريم العمراني، مؤسسة مجموعة أونا...الخ.بل إن الدولة ذاتها قامت، منذ نهاية عقد التسعينيات، بإنشاء مؤسسات، مثل مؤسسة محمد الخامس للتضامن، صندوق الحسن الثاني، وكالة التنمية الاجتماعية..الخ، رصدت لها إمكانات مالية مهمة جدا، وألحقت بها موارد بشرية مؤهلة، يمكنها التدخل بمرونة، سرعة وإجرائية، من أجل تجاوز الاختلالات الملاحظة أحيانا على مستوى تدخل الوزارات ومصالحها الخارجية في السياسة التنموية المنتهجة . مما يطرح التساؤل حول ما إذا كان خلق هذه المؤسسات و هذه «الجمعيات»يستهدف تيسير الشراكة بين الدولة والجمعيات أم أنه يشكل تهديدا بتوظيف واحتواء الجمعيات من طرف الدولة، وتحويلها إلى تنظيمات أشبه بإدارات ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.