يتميز الدخول الاجتماعي في قطاع الصحة هذه السنة بارتفاع الحرارة، فقد أشهرت النقابات والتنسيقيات سلاح الاضراب في وجه السيد الوزير، ردا على مشروع مرسوم المدرسة الوطنية للصحة العمومية التي ستعوض المعهد الوطني للإدارة الصحية، حيث حرمت فئات الممرضين والتقنيين والإداريين والمتصرفين من الولوج إليها، وكذلك على تمرير والمصادقة على مشروع مرسوم يغير ويتمم المرسوم رقم 620-06-2 الصادر في 13 أبريل 2007 في شأن النظام الأساسي الخاص بهيئة الممرضين بوزارة الصحة بهدف فتح مباراة التوظيف لحاملي دبلوم التقني المتخصص في إحدى شعب التكوين شبه الطبي المسلم من مؤسسات التكوين المهني الخاص. هذا وقد كانت الوزيرة السابقة ياسمينة بادو قد أجابت الفريق الاشتراكي بمجلس النواب بعدم امكانية ولوج ممرضي القطاع الخاص للوظيفية العمومية، مما اعتبر آنذاك إشارة ايجابية على عدم رضوخ الوزيرة للوبيات معلومة وقرارا شجاعا في اتجاه الحفاظ على صحة المواطن المغربي. من أسباب اشتعال القطاع تجميد الوزير الحالي لاتفاق 5 يوليوز مع وزارة الصحة في العهد السابق، وعدم تخصيص ميزانية وخارطة طريق تنفيذ الاتفاق. كما يؤاخذ مهنيو الصحة على الوزير الحالي استسلامه للوبيات وتقاعسه في محاربة الفساد والصراع مع الكاتب العام للوزارة الذي اخذ لبوسا حزبيا وكاد ان يعصف بالتحالف الحكومي الحاكم، ومحاورته نفسه في خرجاته في الاعلام الحكومي والتحريض على مهنيي الصحة في لقاء حزبي بأكادير. لهذه الاسباب وغيرها خاض التنسيق النقابي الرباعي الذي يضم النقابة الوطنية للصحة العمومية ,العضو في الفدرالية الديمقراطية للشغل والنقابات القطاعية لكل من الكونفدرالية والاتحاد الوطني والاتحاد العام للشغالين, اضرابا يوم 13 شتنبر وسيخوض اضرابات 19 و20 شتنبر مع وقفة وطنية امام الوزارة يوم 19 شتنبر. كما كانت التنسيقية الوطنية للممرضين وطلبة معاهد تكوين الأطر الصحية العمومية أول من بادر إلى إعلان وقفة وطنية يوم 20 غشت أمام مقر وزارة الصحة للمطالبة بوقف مسلسل التراجعات وإقرار جملة من المطالب التقليدية أهمها تقنين المهنة ووضع نظام تكوين جامعي (اجازة-ماستر-دكتوراه) وإخراج الهيئة الوطنية للتمريض وتفعيل مؤسسة الحسن الثاني للأعمال الاجتماعية. كما تنظم المنظمة الديمقراطية للصحة وقفة وطنية يوم 20 شتنبر مع اعلان اضرابات ايام 13 و19 و20 شتنبر، وجامعة الاتحاد المغربي للشغل اعلنت اضرابا واحدا يوم 20 شتنبر. هذا الدخول الساخن سيصعب مهمة الوزير الوردي الذي أقام خلال شهري يونيو ويوليوز جلسات استماع عمومية في اطار برنامج "انتظارات" قاطعته نقابات التنسيق الرباعي، ويستعد للإعلان عن المناظرة الوطنية للصحة والميثاق الوطني للصحة وعن استراتيجية وزارته. ورب ضارة نافعة، لعلها مناسبة ليأخذ موضوع الصحة حقه من النقاش العمومي، وهو القطاع المغيب من الفضاء العام، فلا ندوات حزبية أو علمية حول السياسات الصحية إلا نادرا، ويكاد حضوره في الإعلام يقتصر على فضائح الرشوة والولادة والشهادات الطبية المزورة، ولا يحظى إلا بجمل عامة وسطحية في برامج الاحزاب. في مقالنا اليوم، سنتطرق بعجالة إلى المفهوم الجديد للصحة الذي يبتعد عن تمثل المواطنين العاديين، ومحاولة لتشخيص وضعية القطاع، مع التعليق على برنامج انتظارات، لنختم بإعطاء بعض البدائل والاقتراحات. مفهوم الصحة لا يمكن اختزال مفهوم الصحة في حالة الخلو من المرض، ولا حصر عمل مهنيي الصحة في محاربة المرض بعد اليوم، ولا حتى الوقاية منه، بل يتوسع المفهوم ليشمل حالة من اكتمال السلامة البدنية والعقلية والإجتماعية، وعمل مهنيي الصحة (والمجتمع المدني) إلى تعزيز انماط الحياة الصحية. والحق في الصحة يوفر أحسن مثال على شمولية حقوق الإنسان حتى أصبح يقال ان الصحة لم تعد تعني وزارة الصحة. ففي تقرير الخمسينية (ص120) نجد أن "ارتفاع حجم الوفيات لدى الأطفال والأمهات متفاقم بالوسط القروي، ولدى الساكنة الفقيرة، حيث تنتشر الأمية، وكذا في الأوساط ذات المستوى التعليمي المتدني". من هذا المثال نستشف ارتباط الحق في الصحة بالحق في التنمية والتعليم، ولا شك اننا سنجد عشرات الامثلة الأخرى تبين ارتباط الحق في الصحة بحقوق أخرى، وهو ما طورته منظمة الصحة العالمية في المؤتمر الدولي لتعزيز الصحة بجاكارتا 1997، حيث اضافت للصحة متطلبات السلم والمسكن والتعليم والأمن الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والغذاء السليم والمياه النقية للشرب، والدخل وتمكين المرأة والاستخدام المستدام والعادل للموارد والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان. ارتباط الصحة بالحقوق الأخرى يعني في حقل السياسات العمومية ان تدبير موضوعة الصحة لا يجب ان يكون قطاعيا، بل مندمجا، حتى يحصل هدف تعزيز صحة الناس. فلا يخفى على احد الانعكاسات السلبية لإضاعة هذا الهدف/الحق وما يترتب عنها من تكاليف اجتماعية مهمة وتراجع في انتاجية الساكنة. فما الذي حققته السياسات العمومية في مجال الصحة منذ فجر الاستقلال إلى اليوم؟ الصحة على باب مصلحة الإنعاش لقد تحقق الكثير، أمد حياة المغاربة ارتفع وتناقصت أعداد الوفيات واختفت امراض كثيرة وارتفع عدد الاطر والمراكز الصحية، لكن بالمقارنة مع بلدان الجوار او بلدان تشبهنا نلاحظ ان المنجز لا يلبي طموحنا، ولغة الأرقام هنا خير معبر، فيكفي الرجوع للأرقام الرسمية بخصوص وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة ونسبة الاطباء والممرضين قياسا لعدد السكان ونسبة الانفاق الاجمالي على الصحة لكل فرد (56 دولار حسب تقرير الخمسينية) ستجعلنا بصراحة نشعر بالخجل. كما يعاني النظام الصحي المغربي من ازمة ثقة، وسوء صورة المستشفى العمومي. ويجمع المتتبعون على تنامي احتجاجات المواطنين وفضائح الرشوة والإهمال والمحاكمات والصفقات والأخطاء الطبية، وسوء توزيع الخدمات العلاجية مجاليا (لاعدالة الخريطة الصحية). وتتكاثر إضرابات الطلبة والممرضين والأطباء والإداريين والتقنيين وباقي الفئات، مما يؤشر على عدم تثمين عمل الأطر الصحية، فضلا عن قلة عدد الموارد البشرية وسوء توزيعها. في البحث عن أعطاب المنظومة الصحية في المغرب لا بد ان تقف طويلا على مشكل الحكامة التي ينبغي تجويدها. تتحدث تقارير رسمية عن الفجوة بين التخطيط والتنفيذ، وعن بقاء المشاريع المهندسة مجرد حبر على ورق، في غياب تام للمساءلة وتغييب لمؤشرات التقييم وآليات للتقويم، وهو ما يلاحظ مركزيا في الاستراتيجية القطاعية والبرامج الوطنية في الصحة، ومحليا في المخطط الاقليمي للتنظيم الصحي ومشاريع المؤسسات الاستشفائية PEH. مع ضرورة الجهر بالصعوبات والجمود الذي يخلقه تضارب مصالح مختلف المتدخلين في المنظومة الصحية وتنامي الريع والفساد وقوة اللوبيات (مشروع مرسوم المدرسة الوطنية للصحة العمومية وفضائح اللقاحات وصناعة الادوية ومدارس القطاع الخاص خير مثال). السياسات الدوائية في المغرب بدورها بحاجة إلى إعادة نظر، في ظل النقاش حول فعالية الأدوية الجنيسة، وغلاء فاتورة الدواء، وتضخم هامش ربح المقاولة. ويمكن تسجيل أن جهود الوزارة الوصية لا زالت متجهة نحو العلاج (حماية الحق في الصحة) وإهمال التربية الوقائية والصحية (النهوض بالحق في الصحة)، وان مقاربة الاشتغال لا تزال قطاعية، وان توزيع الخدمات الصحية غير عادل، وأن التمويل غير كاف. ولعل الوصول الى تشخيص علمي وحقيقي لوضعية القطاع الصحي في المغرب لا يمكن دون اشراك الفئة المستفيدة، أي إشراك المواطن ومؤسسات الوساطة بين الدولة والمجتمع من نقابات وأحزاب وجمعيات في تحديد الحاجيات والأولويات وتقديم الاقتراحات. فهل نجح برنامج انتظارات الصحة في تحقيق هذا الهدف؟ ملاحظات منهجية حول برنامج انتظارات الصحة أطلقت وزارة الصحة في عهد البروفيسور الحسين الوردي برنامج "انتظارات" الذي يروم إطلاق "حوار وطني" حول الصحة عبر جلسات استماع عمومية ودراسة تعليقات المواطنين في الشبكات الاجتماعية (الفايسبوك) والراديو، وذلك في أفق عقد مناظرة وطنية للصحة، والخروج بميثاق وطني للصحة. والحق يقال، إن جلسات الإستماع هي تقليد جديد وآلية من آليات الديمقراطية التشاركية التي ناداها بها المجتمع المدني المفتون بتجربة (بورتو ألغري)، ورسخها الدستور الجديد، وهي أيضا منبر لإسماع صور الفاعلين الإجتماعيين والجمعويين والمهنيين، وإيصال تصوراتهم حول موضوعة الصحة. وقد تداعت في الذاكرة لدى العديد منا بجلسات الإستماع العمومية والتي كانت تنقلها قنواتنا العمومية أيام الإنصاف والمصالحة من أجل حفظ الذاكرة، ولعلها لعبت دورا في حماية حقوق المغاربة، ولعل جلسات الاستماع هذه تلعب دورا في النهوض بالحق في الصحة للمغاربة. إن مبادرة "انتظارات" حسنة، لكن هذا لا يمنعنا من ابداء الملاحظات التالية بغية التجويد: - إن برنامج انتظارات لم يرق لمستوى الحوار الوطني حول الصحة، مثلما شهدته قطاعات أخرى في وقت سابق كالتربية وإعداد التراب الوطني، وتم اعداده قطاعيا، ولم يرق لمستوى الحوار الوطني الذي تشرف عليه الحكومة وتتدخل فيه كل القطاعات المعنية بالصحة، - كان من الأنجع في البداية من تقييم رسمي موثق ومكتوب ومتاح للجميع لاستراتيجية وزارة الصحة 2008-2012، حتى نقف على النواقص ونثمن الايجابيات، - إن الديمقراطية الترابية والإنسجام مع روح الجهوية يجعلنا نظن انه كان من الأجدى عقد لقاءات جهوية من اجل الوصول إلى كل صاحب رأي أو إضافة أو مقترح، والاستماع إلى مهنيي القرب، بدل مركزة الحوار في مدينة الرباط. - إن التشاور والتشارك أمر محمود، لكنه قد لا يحقق النتائج المرجوة منه، بل قد ينقلب إلى ضده إذا تحول إلى حوار مناسباتي. إن قطاعا اجتماعيا كالصحة بحاجة إلى إبداع آلية ناجعة ومستمرة للإستماع والتشاور والتشارك، ليس على مستوى الوزارة فقط، ولكن على مستوى المديريات الجهوية والمندوبيات الاقليمية والمراكز الصحية. بدائل من اجل سياسات صحية شعبية إن السياسات الصحية يجب أن تحدد توجها ناظما لبرامجها منطلقا من التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان باعتبار الصحة حقا لا امتيازا، وبعيدة عن المنطق التجاري، وان هدف هذه السياسات هي الحفاظ على اعلى مستوى للصحة يمكن بلوغه لدى الساكنة دون اعتبار لمستوى اجتماعي او انتماء عرقي أو سياسي أو ديني أو مناطقي. وان تتحمل الدولة مسؤوليتها في ضمان وحماية وتعزيز هذا الحق لكافة مواطنيها بتكامل مع القطاع الخاص الذي يجب ان يبقى تحت مراقبة الوزارة الوصية على القطاع، وأول الغيث هو تمويل القطاع، حيث تخصص 5 في المائة من الميزانية العامة للصحة في حين ان منظمة الصحة العالمية توصي ب10 في المائة. كما يجب أن تتسم هذه السياسات الصحية وطنيا وجهويا بالعدالة والاندماج، وتبني المقاربات الحقوقية والتشاركية والمجالية والنوع، وتنفتح على القطاع الخاص والمنظمات المدنية في جميع مراحل البرامج الصحية، وتتم تعبئة وسائل الاعلام العمومية والجديدة، وضمان الإلتزام والتنسيق مع باقي القطاعات الحكومية. وان لا تتناسى الوزارة تعزيز الصحة الوقائية وأنماط العيش الصحية، خاصة لدى النساء والشباب والطلبة، وتجويد حكامة المؤسسات الصحية ودمقرطتها، وتحيين القوانين المنظمة للمهن الصحية. ولأننا ننطلق من الربط بين حقوق الناس وحق العاملين في القطاع، نرى ضرورة عاجلة لتثمين الموارد البشرية لقطاع الصحة، وتحسين الأوضاع المادية والمعنوية للشغيلة الصحية، والاعتناء بالتكوين الأساسي والمستمر على أسس حديثة (LMD بالنسبة للممرضين خصوصا..)، وتحسين العمل الاجتماعي الذي يضل الأضعف من بين كل القطاعات والمؤسسات. وفي مجال السياسة الدوائية، تبدو الحاجة ماسة اليوم إلى مراجعة شجاعة للأثمنة وتقليص هامش الربح، ومراقبة الجودة. تلكم بعض الأفكار الأساسية حول الصحة، مع كثير من مساحات الحذف وجهود الاختزال والتكثيف، لموضوع لازال محتجزا في جيب المهني أو في أروقة الإدارات الصحية، وحان الوقت لتحريره وتملكه من طرف المواطن والمؤسسات الوسيطة من أجل حوار وطني حقيقي يؤسس لميثاق وقوانين وسياسات تقطع مع التدبير القطاعي للصحة ومع غربة المؤسسات الصحية عن محيطها، ويعزز مشاركة الساكنة والجماعات الترابية في تعزيز الصحة، وينهي اسطورة فشل القطاع العام ويقف على حقيقة إفشاله بالتقشف والريع والفساد والفراغ القانوني وغياب التقييم والحساب، وهو ما حاولت التعبير عنه بضرورة تعزيز الموقع السياسي للصحة. (*) ممرض متخصص في التخدير والإنعاش، عضو المكتب الوطني للمنظمة الديمقراطية للممرضات والممرضين، وزير الصحة في حكومة الشباب الموازية