في معظم الأحيان، يثير الفوضويون المعروفون بقلة عددهم الشكوك والهواجس. وفي ظل اليوتوبيا التي يعتنقونها والتي تبدو لكثيرين غير قابلة للتحقيق، اقترن تاريخهم بالعديد من الخيبات. مع ذلك، تتخذ العديد من الحركات الإجتماعية اليوم من الأفكار والممارسات التحررية مرجعا لها. في الآونة الأخيرة، كتب دافيد غرايبر، عالم الأنتروبولوجيا الأمريكي وأحد المرجعيات الثقافية لحركة «آحتلوا وول ستريت» المناهضة للعولمة يقول: «في أيامنا هذه، تحتل الفوضوية ضمن الحركات الاجتماعية المكانة التي كانت تحظى بها الماركسية في السبعينات، بل حتى الشخص الذي لا يُصنّف نفسه فوضويا، تستند مرجعيته إلى أفكار فوضوية ويُحدد موقفه بالنسبة إليها». لا شك أن هذا الكلام يتضمّن قسطا من التفاؤل الطوعي الذي يُعبّر عنه مناضل فوضوي، لكن الصحيح هو أن المزيد من عناصر الفكر التحرري تظهر في الحركات الاجتماعية التي ظهرت للوجود في الآونة الأخيرة من قبيل مبدأ التسيير الذاتي والقرارات القائمة على التوافق ورفض الهرميات. وبعد بضع سنوات من التأخير، يبدو أن الحركة الفوضوية تستشعر اليوم تداعيات ما حدث سنة 1989 وانهيار جدار برلين. ويُلاحظ غابريال كوهن، وهو فيلسوف فوضوي من أصل نمساوي أن «الفوضوية تشهد موجة تجديدية منذ خمسة عشر عاما». وبشكل ما، جاء سقوط الأنظمة الشيوعية ليُعطي الحق للفوضويين، من جهته، يُقر اليسار المعادي للرأسمالية أن الفكر الماركسي التقليدي فقد الكثير من وهجه. وفي لقاء أجري معه مؤخرا معه في سان إيميي St-Imier في مناسبة الاحتفال بمرور 140 عاما على انعقاد المؤتمر الذي انبثقت عنه الأممية المناهضة للاستبداد، أشار غابريال كوهن إلى أنه «خلال عقد التسعينات، كان العديد من الأشخاص يتشاطرون الانتقادات تجاه الاشتراكية السلطوية، لكنهم كانوا يُعربون عن بعض التحفظات تجاه الفوضوية. فقد كان يُنظر إلى هذه الحركة على أنها طوباوية ورومنطيقية وغير منظمة. ومع ذلك، فقد اقتبسوا العديد من الأفكار من الفوضوية مثل الديمقراطية القاعدية والتنظيم الأفقي والريبة تجاه الهرميّة والسياسيين ومبدأ التحرك المباشر أيضا». لقد انطلقت المرحلة الأولى من تاريخ الحركة الفوضوية في هذه المدينة الصناعية الصغيرة الواقعة في منطقة جُورا شمال غرب سويسرا، حيث تميزت بحضور بارز للفوضويين في الحركة العمالية لعدد من البلدان وتأثرت بالتجربة الثورية لكومونة باريس وبالسوفيات الأوكرانيين وبالثورة الإسبانية. ولم تنته هذه المرحلة إلا عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. الفكر الفوضوي عاد للظهور مجددا في الحركات التي نشأت في ستينيات القرن العشرين واتسمت بنزوع قوي إلى التحررية حيث يُسجل غابريال كوهن أنه «في إطار اليسار الجديد الذي نجم عن أحداث مايو 1968، تغير طابع الحركة الفوضوية. فالأبعاد الثقافية أصبحت تلعب دورا أكثر أهمية كما تقدّم التمرد على النظام البورجوازي على الصراع بين الطبقات». وفي الواقع، كان التأثير مُتبادلا بين الفوضوية واليسار الجديد، ما أدى إلى انفتاح الحركة على آفاق جديدة حيث أصبح يُنظر ل «المركزية التقليدية للمسائل الاقتصادية بعين أكثر انتقادا، كما اتسعت دائرة الاهتمام لتشمل أيضا أشكالا أخرى من الهيمنة مثل السلطة الأبوية والعنصرية وأشكال التمييز لأسباب جنسية وتدمير المحيط الطبيعي». بعد مايو 1968، أصبحت الفوضوية أكثر تنوعا وأعادت اكتشاف أوجُه من الفكر التحرري التقليدي ظلت حتى ذلك الوقت متوارية في الخلفية من بينها تأملات آريخ موهسام (Erich M?hsam) حول الجنسانية والنزعة الإيكولوجية (حماية البيئة) السابقة لعصرها لإيليزي روكلو (Elis?e Reclus) ومبادرات مارغاريث هارديغر (Margarethe Hardegger) في سويسرا المؤيدة لتحديد النسل. وفي هذا السياق، تقول ماريان إنكل، العاملة بالأرشيف في المركز الدولي للأبحاث حول الفوضوية (المعروف اختصارا ب CIRA) في مدينة لوزان: «إنها دورات أجيال. لقد كان مايو 1968 علامة مهمة لكن جاءت فيما بعد الثمانينات مع ظهور حركة البونك Punk ثم التسعينات مع تمرد حركة زاباتا في المكسيك الذي طبع ميلاد الحركة المناهضة للعولمة وأخيرا ظهور الإنترنت».