القنيطرة: 14 يونيو 1916 (تتمة 1) (يواصل الماريشال ليوطي، هنا حديثه عن كيفية تأسيس مدينة القنيطرة من عدم، بعد أن كانت مجرد قصبة صغيرة مسورة. وبعد حديثه عن ظروف بناءها ما بين سنتي 1913 و 1915، وتحديده الأسماء التي كانت وراء ذلك، يواصل هنا الحديث عن الشق المالي والإقتصادي لأهمية إنشاء مدينة كاملة على ضفاف نهر سبو، العميق حينها بحوالي 5 إلى 8 أمتار، مما يسمح بولوج السفن الكبيرة إلى ميناء المدينة الجديد). لنتحدث الآن، قليلا، عن عالم الأعمال. حتى وأنا أعلم أن طيبوبتكم وذكاءكم، لم يجعلكم تستغلون فرصة هذا الحفل المنظم لتمرروا إلي مطالبكم. وحشمة مثل هذه، أريد أن أقدرها حق قدرها، بأن أذهب رأسا إلى ما يشغل بالكم، وأن أبادر أنا للحديث معكم عنها، وباختصار يشمل النقط الأساسية التي تعنيكم. إن ما يسكن وجدانكم جميعا، والذي حملكم على المجيئ للإستقرار عند ضفاف نهر سبو، هو أنكم تحلمون بميناء جديد هنا. وما أستطيع التأكيد عليه أمامكم، ليس فقط أننا نفكر مثلكم جديا في ذلك (وهذا كلام لا يغني ولا يسمن من جوع بالنسبة لكم)، بل إننا شرعنا فعليا في التخطيط له وبداية إنجازه. وأنتم أعلم، أن ظروف الحرب هي السبب في تعطيل الأمور وأنها تتسبب لنا في الكثير من المشاكل. ولا أراني في حاجة إلى تفصيل القول في ذلك. وبصفتكم رجال أعمال، فأنتم أعلم، أكثر مني، بثقل وضعيات مماثلة على المشاريع. لقد حققنا بداية، منجزا مهما، يتمثل في الرصيف الذي قبل مشروعه ورصدت ميزانيته وسيتم إنجازه قريبا. أما في ما يرتبط بالميناء في مجمله فأنتم أعلم بالمشاكل المحيطة به. لقد كنا أنهينا كل المفاوضات حوله، وما أن بلغنا مرحلة التنفيذ، حتى تفجرت الحرب (الكونية الأولى). والأمر لم يلغى، بل إن المفاوضات متواصلة دوما. والسيد دولير (Delure) في باريس الآن، للدفاع بشراسة عن مصالحنا جميعا. وما أود أن أؤكده لكم، هنا، أن الظروف الحالية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقبل البقاء تحت رحمتها تفعل بنا ما تريد. الأمور صعبة نعم، والمال نادر، والأسعار ارتفعت، لكن ذلك ليس سببا أن لا نتفاوض. إننا مصممون، رغم استحضارنا لتحديات الواقع، أن لا نرهن مستقبل تجارتنا وأعمالنا، بأن نستكين لتحديات اللحظة الآنية. وفي نظري، علينا البحث عن حلول وسطى. فالأفضل أن نبدأ بالقليل والآن بسرعة، بدلا من أن ننتظر تحقق الظروف للقيام بالعمل الكامل، وأن نبقى بالتالي سجيني موقف الإنتظار واللاعمل. في كل الأحوال، فإنه مع تواصل المفاوضات نحن غير جامدين أو واقفين. سنبدأ ببناء الرصيف، وقريبا أتمنى أن ننجز عملية التجريف (في النهر)، من أجل الإستفادة دون إبطاء، من الموجود وتطويره. وهكذا، أعتقد أنني ربما أجبت عن أحد أسباب قلقكم. وإذا كنا نهيئ ميناء، فلأجل أن نحضر إليه شيئا. بالتالي، لابد من توفير السبل للولوج إلى مناطقكم النائية. وعلى هذا المستوى فإن سفري إليكم ليس بدون غايات محددة. لقد جئتكم من فاس ومن تازة ومن وجدة. وفي كل تلك الأماكن هناك أعمال تنجز، ومن موقعي كحام للمصالح، فإن واجبي يفرض علي دعم كل الجهود وضمان أسباب تنمية كل المصالح المشروعة. لكن، من واجبي أيضا ضمان التوازن العادل بين مختلف تلك المصالح، وأن لا تستبد مصلحة على أخرى. والحال أن هناك جهة كاملة مصبها الطبيعي هو محور القنيطرة/ الرباط. وكل جهدي منصب على جعل هذه الجهة خاصة بكم دون غيركم، وأن لا ينافسكم فيها أحد. لقد فهمتموني طبعا؟ (1). إن الأساسي اليوم، هو أن نضمن لكم خط سكة حديدية. لقد نجح السيد دولير، عبر آلية ضغط فعالة، هو المتواجد في باريس منذ ستة أشهر، ورغم الظروف الصعبة هناك، أن يضمن تجمعا ماليا قويا وصلبا، ستكون مهمته إنجاز الدراسات وتنفيذ أول شطر من السكك الحديدية سيربط القنيطرة بخط طنجة/ فاس، الذي هو حيوي لكم، أي أن ترتبطوا بالجزء الرابط بين بوتي جون (سيدي قاسم) ومكناس (2). ولم أكن لأجرأ، أن أتمنى منذ شهور قليلة، الحلم بتحقق أمر مماثل في زمن الحرب هذا. وأهتبل هذه المناسبة لأحيي ممثلي السلطات الفرنسية والإسبانية من شركة «طنجة/ فاس»، الذي سمحت الظروف أن يكونوا بيننا اليوم، والذين يقومون بعمل جبار يقوي من زمن منجزاتنا. تلك، فيما أعتقد أهم أسباب قلقكم؟. ولقد حرصت أن أقدم لكم مختصرا عنها، لكنني أرجو منكم أن لا تسقطوا قط من أعينكم تحديات الحالة العامة السائدة، التي نواجهها. فالكلفة تتضاعف والصعوبات تتعاظم يوما وراء الآخر، وكل التنبؤات تذوب، ويوميا نجدنا مضطرين لتغيير برامجنا. وعلى قدر تواصل الحرب، عليكم أن لا تضيعوا البوصله، بأن تدركوا أن الأساسي هو مواصلة العمل، ضدا على الكل، من أجل مواصلة تحقيق منجزنا الإقتصادي بالمغرب. إنني أراهن هنا على حصافتكم وعلى ذكائكم في التجارة والأعمال، كي تتيقنوا أن حجم المصاعب التي تواجهها أعمالكم وتجارتكم، تواجهها إدارتي أيضا. وتيقنوا أن ذات الرغبة تجمعنا لمواجهة هذه الأزمة التي طالت، وأن لاشئ سيحبطنا في إنجاز ما أراه المهمة الأعظم لنا في زمن الحرب (3). لن أكلمكم هذه الليلة عن الأشغال المنجزة محليا، والتي تعنيكم مباشرة، لأن ذلك هو موضوع لقاءنا غدا صباحا، بحضور رؤساء مصالحي، وأريد أن أراها في الميدان بشغف خاص. لقد قال النقيب كودي (Coudert) كلمة، منذ لحظات، عن رغبتكم في إنشاء تجمع، وهو حق كامل لكم. لقد تأخر قبول المسألة لارتباطه فقط بمسألة اختيار اللقب، حيث توقفنا بداية عند: «لجنة الدفاع». ومن يقول «الدفاع» يقول «هجوم»، والحال أن لا أحد يهاجم القنيطرة. بالعكس، كلنا شغوفون بدعم المصالح بها، والمطلوب ببساطة هو إيجاد لقب يترجم فكرة «دعم المصالح» هذه، وستسلس الأمور بعدها. لقد تبنى النقيب كودي ما قاله السيد أوزير (Oser) حين حديثه عن قوة وحدتنا. وهي كلمة تنعشني عاليا. فأنا أيضا أدعو لهذه الوحدة بالذات بكل قواي. فأن نحققها، هذا مهم، لكن أن نحافظ عليها هو أهم. والدعوة إلى الوحدة هنا، ليست ترفا عاطفيا، ولا ترجمة لرغبة في إقناع أنفسنا باطمئنان أن كل شئ على ما يرام، بل إنها ترجمان لإرادة في الفعل والإنجاز. فتماما، مثلما يحدث في أي آلة، كل احتكاك داخلها أو تصادم، إنما يبطئ من سرعة عملها ومن إنتاجيتها، ونفس الأمر يحدث مع المعارك الصغيرة المحلية والصراعات الداخلية والتنافس بين الأحياء، فذلك كله إنما يقودنا إلى تضييع الوقت والفرص. إننا جميعا، أنتم ونحن، أناس مضغوطون بالوقت ولن نصل إلى نتائج عملية ملموسة سوى بالعمل التكاملي التعاضدي المنتصر قبل كل شئ للمنفعة العامة لا المنفعة الخاصة. إنني أدعوكم أن نواصل رحلتنا بهذه الروح. ففي ظروف مماثلة، ومع فريق عمل حر مثل الذي يحيط بي، الذي تربى أفراده في نفس المدرسة التي تعلمت فيها، المتجاوزين عن خطل البيروقراطية وعن العسكرياتية، والذين هم أهل بناء وعمل، سنصل رغم الظروف الصعبة الآنية والمخاطر المحيطة بنا يوميا، أن ننجز الأساسي، وأن نمنح الجهد الأكبر، الحي، عنوانا عن الطاقة البناءة التي ترمزون إليها أنتم كلكم الحاضرون. أرفع نخبي لكم. * هامش: * (1) كتب ليوطي على الهامش ما يلي: «كنت أقصد ميناء العرائش القريب التابع لمنطقة النفوذ الإسباني». * (2) إسم «بوتي جون» الذي أطلق أولا على مدينة سيدي قاسم، قبل أن تحمل اسم دفينها في ضريحه العالي فوق ربوة (سيدي قاسم)، أول من أطلقه عليها هو الكولونيل غورو الذي سبق وقدمنا تعريفا عنه. وكانت في البداية مركزا عسكريا فلاحيا، قبل أن يكتشف البترول غير بعيد عنها سنة 1919 بمنطقة تدعى «تسلفات»، لتصبح مدينة تكرير للبترول ومحطة قطار إلزامية لنقله سنة 1920. وكان أغلب المعمرين بها من الفرنسيين القادمين من الجزائر ومن الإسبان أيضا. وبعد استقلال المغرب، أصبحت تحمل اسم الولي الصالح بها «سيدي قاسم بوعسرية» أو «سيدي قاسم مول الهري»، وهو ضريح كان يزار على مدى 4 قرون من قبل قبائل الغيش التابعة للشراردة، وهي قبائل فلاحية بالدرجة الأولى. * (3) الحقيقة، أن ميزة مدينة القنيطرة المغربية التي تأسست من فراغ سنة 1913، هي أنها مدينة ولدت مع الميناء النهري الوحيد في المغرب إلى اليوم. وأنها مشروع كامل للماريشال ليوطي، كما ستصبح مدينة خريبكة بعد ذلك مدينة لذات الرجل بعد اكتشاف مناجم الفوسفاط، حيث بنيت المدينة في الخلاء. أما القنيطرة، فهي مدينة حملت لسنوات إسم «بور ليوطي» أي «مرسى ليوطي» ولذلك دلالته. * ملاحظة: * نصل هنا مع هذه الحلقة إلى نهاية الجزء الأول من مذكرات الماريشال ليوطي حول المغرب. وسنعود إلى باقي تفاصيلها بعد العطلة الصيفية بحول الله. شكرا.