برغم أن أبو إبراهيم وزياد الأطرش كانا نموذجين ليس من السهل مجاراتهما في الإستقامة ونظافة اليد ، إلا أنهما ليسا نموذجين منفردين فهناك الكثير من أبناء الثورة الذين عادوا مع قيام السلطة الوطنية الفلسطينية يتمتعون بالكثير من الطهر والنقاء ، مع وجود بعض الأفراد الذين أساؤوا لسمعة الثورة والنضال خاصة وأنهم كانوا في مراكز حسّاسة ، وجعلوا أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة يكرهونهم ويتمنّون لو لم يعودوا . وتكوّن تيار يتحدث عن أبناء الداخل وأبناء الخارج ، مما شكل خطرا على الوحدة الوطنية الفلسطينية لا يقل خطرا عن الإحتلال الصهيوني الذي لا يجوز أن نتناسى أنه ساعد في تقوية هذه النعرة . أتيح لي أن أكون شاهدا على جلسة التأمت صيف 1998 في رام الله وضمت مجموعة من كوادر السلطة ? عسكريين ومدنيين ? بعضهم من العائدين والبعض الآخر ممن كانوا داخل الوطن ، وقد دار حوار سأكون وفيا تماما وأنا أنقله بحرفيته وبالعامية الفلسطينية . - والله من يوم ماجيتو جبتولنا المصايب - واحنا والله ما حسّينا بالإحباط إلا من يوم ما جينا وشفناكم - ظلّينا فاكرينكم ملايكة ، حتى جيتو ولاقيناكم شياطين - جينا وفاكرين نفسنا جايين على جماعة إخوان الصفا ، ما لقينا إخوان ولا صفا يتدخل أحد الكوادر أكبر سنا ومركزا - اللي بيسمعكم يتصور أن شعبنا خربان عالآخر ، لا مقاتلي القواعد نافعين ولا أبطال الصمود والإنتفاضة نافعين . يا جماعة حرام عليكم شعبكم أعظم من هيك وأنظف من هيك . - يعني انت مبسوط على اللي بيصير في البلد ؟ - بتقصد النهب والرشوة واستغلال النفوذ وفساد الأخلاق ؟ أولا ما فيه أحد يحترم نفسه ويحب وطنه ترضيه هذه الأمور . ثانيا ما في بلد في الدنيا خالي من هذي الأمور . ثالثا ليش انتو ما شايفين غير الأمور العاطلة وبتغمّضوا عينيكم عن الأمور المليحة ؟ - ولكن نحن بلد بينولد جديد وبيحطّ أساساته من جديد ، ما بيصير نبدا بمثل ماهو صايرعندنا . - يمكن لأننا جداد في البناء والتأسيس ، بيصير عندنا هيك . - كيف راح يكون البناء اللي بيتأسس بهذي الطريقة؟ - ما تشكيلي أبكيلك ، وأنا أعرف قد اللي بتعرفه عشر مرات - وشو العمل واحنا شايفين الغلط بيكبر ويمدّد رجليه؟ - هذا السؤال إطرحه على نفسك ، وكل واحد منّا يطرحه على نفسه . ما بيجوز الواحد منّا ينتقد الغلط وهو بيمارس غلط . - قدّيش اللي بيمارسوا صح ؟ - السؤال غلط ، لازم تقول قدّيش اللي بيمارسوا غلط ؟ إحمد ربك أن اللي بيمارسوغلط ، الناس عارفينهم بالأسماء وبيقدروا يعدّوهم . - بس اللي بيمارسوا غلط في مواقع حساسة ، ونتيجة ممارساتهم الغلط ، الدنيا خربانة . - مصيبتنا أننا بدنا نغمض عينينا ونفتحها نلاقي كل شيء تمام .. الشوارع مبلّطة والمجاري ممدودة والكهربا والمية والتلفونات متوفرة والسكن موجود وكل الناس لاقية عمل وكل الموظفين ملايكة وأطهار ، وننسى أن بلادنا من عام 1948 ما انعمل فيها شيء ، لا في عهد الأردن ولا إسرائيل . واذا انعمل شيء فقد انعمل بعد ما إجت السلطة رغم أن هناك ناس في السلطة بتخرّب. - وليش يكون عنا ناس في السلطة بتخرّب ؟ - اللي بيخرّبوا قبل كل شيء أولاد هذا الشعب ، سواء من اللي كانوا في منظمة التحرير وجاؤوا من برّه أو كانوا من أبناء الإنتفاضة ودخلوا السلطة . وحسب علمي أن موظفي السلطة المدنيين والعسكريين عددهم حوالي 120 ألف ، منهم عشرة آلاف جاؤوا من برّه والباقي من الداخل ، واللي كانوا برّه نظاف جاؤوا ودوّروا على النظاف اللي جوه واشتغلوا معهم ، واللي كانوا وسخين برّه جاؤوا ودوّروا على الوسخين جوّه واشتغلوا معهم . - فيه ناس جاؤوا من برّه وكانت سمعتهم ممتازة وتوسّخوا ، وفيه ناس كانوا جوّه وسمعتهم نظيفة لكنهم توسّخوا ، يعني لما تحملوا المسؤولية انحرفوا . - ما فيش بني آدم موش معرّض للإنحراف إلا من حفظ ربك ، ولكن كيف الناس بتنحرف ؟ قالوا لفرعون مين فرعنك ؟ قال مالقيتش اللي يردّني . يتعيّن أحدهم مسؤولا في موقع حسّاس ، يأتيه أحد أصحاب المصالح أو أحد اصحاب الصفقات المشبوهة ، بدهم يمشّوا مصلحتهم ، بيقدّموا لهذا المسؤول رشوة باسم هدية ، بيرفضها المسؤول في المرة الأولى والثانية ، ثم يقبلها في المرة الثالثة وهو خجلان ، وفي المرة الرابعة بيقبلها بدون خجل ، وبعدين بيصير يطلبها بلسانه . يعني لو ما كانش فيه منحرفين يطاردون أصحاب المراكز ويغروهم ما راح ينحرف هذا المسؤول اللي قلت انه كان نظيفا ، دون أن ننكر أن بعض هؤلاء المسؤولين كان عنده إستعداد للإنحراف من الأساس . - بدي اسألك :هل حوسب أحد من المسؤولين اللي انحرفوا ؟ - بقدرش أقول لك لأ وبقدرش أقولك نعم ، المفروض يكون عندنا مبدأ الثواب والعقاب ، واللي يشتغل غلط يتحاسب وإذا ما تحاسبش معناه هناك واحد منحرف كبير بيغطّي عليه ، أو أنه لم يبلغ عنه أحد . وهون بدي أسأل : قدّيش الغلط والجرائم اللي بتصير ولا يدري بها احد ؟ قدّيش فيه ناس بتتعرّض للظلم وبتسكت لأنها خايفة ؟ المفروض أن المواطن ما يسكت وما يخاف ، والغريب أن الناس كانوا ما بيخافوا أيام الإحتلال وليش اليوم بيخافوا ؟ - إذن إحنا متفقين أنه هناك إنجازات لا بأس بها ، ولكن هناك أخطاء ونواقص كثيرة ، والمفروض أن المواطن ما يسكت على الغلط . والسلطة واجبها تضرب على يد الحرامية والمنحرفين ، وإذا ما قامت السلطة بواجبها ، ما نسكت عليها - وما ننسى في الآخر أن هناك جهات كثيرة يهمها أن لا تنجح تجربتنا وتعمل بكل الوسائل علشان ما ننجح . معنى ذلك لازم نكون فاتحين عينينا عشرة على عشرة وواعيين ميّة بالميّة لحقوقنا وواجباتنا حتى ما يشمتوا فينا ويقبروا هالجنين اللي طول عمرنا ننتظره وأولهم إسرائيل. في بداية نوفمبر 1997 أبلغني الأخ يحيى يخلف وكيل وزارة الثقافة قرار الوزارة بتكليفي الإشراف على وإدارة معرض فلسطين الدولي للكتاب في دورته الثانية المقرر إقامته في مدينة بيت لحم الشهر القادم ، الأمر الذي تطلب الإنتقال إلى بيت لحم والإطلاع على كل الإجراءات التي سبق وأن قام بها أو أشار بها الأخ عمر الغول مدير الدورة السابقة في غزة ، والذي لأسباب طارئة لم يتمكن من إدارة الدورة الثانية . صحيح أنه كان لي خبرة سابقة في قضايا المعارض بحكم مشاركتي في الإشراف على جناح فلسطين في مختلف المعارض التي أقيمت في المغرب على مدار ربع قرن . إلا أن هذه الخبرة تبقى محدودة للغاية أمام إدارة معرض يضم عشرات الأجنحة لدول ومؤسسات وأشخاص ، لكل منهم متطلباته ومشاكله ، خاصة مشكلة وصول صناديق الكتب من الخارج عبر نقاط المرور الإسرائيلية . بدأت بالاطلاع أولا على قوائم الكتب التي ألزمنا المشاركين بإرسالها لنا قبل مجيئها . وقد هالني وجود كتب تقطر كرها وعداء لكل ماهو غير مسلم ، فهل من المعقول أن نعرضها في معرض يقام بمدينة بيت لحم التي ولد بها السيد المسيح عليه السلام ؟ وفي بلد يشكّل المسيحيون نسبة تقارب 15 بالمئة من مجموع سكانه ؟ وباسم السلطة الفلسطينية التي تقول بأنها تناضل ضد الصهيونية كحركة عنصرية إستعمارية توسعية وليس ضد اليهودية كديانة سماوية ؟ ووجدت كتبا صفراء لا علاقة لها بالصراع العربي الصهيوني والقضايا المعقدة من سياسية وإقتصادية وإجتماعية يعج ّبها العالم ، ولم يجد مؤِلفوها وناشروها أهم من الحديث عن عذاب القبر وأهوال يوم القيامة ولعنة إبليس . فاتخذت قرارا إنفراديا حرصت على تنفيذه بكل حزم وهو منع عرض هذين النوعين من الكتب . لفت نظري وأنا أتصفح قوائم الكتب وجود عدد كبير من الكتب التي وضعها كبار العلماء والفقهاء منذ مئات السنين وهي تتحدث عن الحب والجنس ، وتتداول هذه الكتب منذ تأليفها ككتب محترمة ولها قيمة ، ولم يوسم مؤلفوها بالكفر والزندقة وقلة الحياء ولم يطالب أحد بإقامة الحد عليهم ، كما فعل بعض المتأسلمين في مصر تجاه الكاتب السوري حيدر حيدر بسبب ورود بعض الجمل في روايته ( وليمة لأعشاب البحر ) فهموا منها أنها تسيء للأخلاق والعقيدة . فقلت في نفسي . . العالم يتقدم ، ونحن لا نتوقف بل نتراجع . وكانت هناك قضية أخرى أخطر وهي ما كان يتردد في مجالس رام الله عن قرار السلطات الأمنية بمنع عرض كتاب المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد الذي يهاجم فيه إتفاق اوسلو والأخ أبو عمار شخصيا . بحثت الأمر مع الأخ يحيى يخلف ، فارتأى أن نذهب معا عند الأخ أبو عمار لنستفسره في الأمر ، خاصة وأنه إذا وقع فعلا فسيكون فضيحة مدويّة لفلسطين التي طالما تمنى المثقفون العرب أن تشكل نموذجا يحتذى به في الوطن العربي من حيث الديمقراطية وحرية التعبير والرأي . ذهبنا بعد منتصف الليل عند الأخ أبوعمار ، ومهّد الأخ يحيى للحديث بقوله للأخ أبو عمار : إنك أنت صاحب مقولة ( يا جبل ما يهزّك ريح ) وصاحب مقولة ( ديمقراطية غابة البنادق ) فقال له الأخ أبوعمارعلى الطريقة المصرية ( هات من آخره)، فقال الأخ يحيى : هناك إشاعة مفادها أن كتاب إدوارد سعيد سيمنع من العرض في معرض الكتاب ، فرد الأخ أبوعمار بسرعة : من قال ذلك ؟ صحيح أنه زوّدها حبتين ولكني لا أقبل أن يقال بأن صدري ضاق بالنقد وأننا نحجر على المثقفين ، لا تمنعوا أي كتاب . فقلت له ولكنني منعت بعض الكتب لأنها كذا وكذا ، فقال : إذا كانت هيك إمنعها ، ولكن إياك أن تمنع غيرها ، وإلا فانت عارف .... كانت أعقد المشاكل التي واجهتني هي السرقة ، ليست سرقة أشخاص لبعض الكتب من الأجنحة ، وإنما سرقة الكتاب من أصله . حيث أن بعض دور النشر أصدرت كتبا بموجب عقود بينها وبين المؤلفين مقابل مبالغ متفق عليها مع حفظ حقوق التأليف ، وأتت بها إلى المعرض فوجدت كتبها قد سرقت من قبل دور نشرأخرى حيث جرى تصويرها بالطرق الحديثة وتم سحب آلاف النسخ منها وتباع بأسعار أقل بكثير من اسعار دورها الأصلية . وكان عليّ كمدير للمعرض أن امنع عرض النسخ المصورة . وامام تكرار المنع والعرض ، إضطررت لمصادرة كل النسخ المصورة إلى حين إنتهاء المعرض . ومع الأسف الشديد فإن أكثر من قام بهذه العملية هو الحاج مدبولي صديقي وصديق كل الكتاب والمثقفين العرب ، والذي قدّم خدمات جلّى للثقافة العربية . على هامش المعرض أقمنا معارض للفن التشكيلي الفلسطيني وكذلك معرضا للتراث الشعبي الفلسطيني متخصصا في المطرزات الفلسطينية من أثواب ومفارش ووسائد وغيرها . وقد اقامت المعرض واشرفت عليه السيدة مها السقا إبنة بلدة بيت جالا المجاورة لبيت لحم ، التي أعجبني فهمها لمعنى التراث وثقافتها الواسعة في هذا المجال وعشقها له كفن ، وكذلك فتحها المجال أمام العديد من النساء للإشتغال في الطرز مما يشكل مصدر دخل لمعيشة أسرهن ، وكذا تدريبها للعديد من الفتيات الصغيرات لإتقان هذا الفن مستعينة ببعض الشابات الماهرات أمثال شريفة الشريف من الخليل وأخريات من مناطق رام الله والقدس . وقد دفعني ذلك لدعوتها للمشاركة في الدورة الثالثة للمعرض التي أقيمت لاحقا في غزة . وعلى ذكر الملابس فإن الأثواب المطرزة التي يؤكد الفنان الفلسطيني الكبير عبد الرحمن المزين أنها متوارثة من أيام الكنعانيين الذين اكتشفوا الصباغة الحمراء ( الأرجوان) وصبغوا بها ملابس نسائهم ، هذه الأثواب منتشرة في المناطق الوسطى والجنوبية من فلسطين ، أما في الشمال فتلبس النساء ملابس أقل أناقة تسمى ( الفستيان) الفستان . وتحكي والدتي أننا عندما لجأنا إلى مخيم النويعمة بمنطقة أريحا الذي كان معظم سكانه من وسط وجنوب فلسطين أي ممن يلبسون الأثواب المطرزة ، كانوا يعتقدون أننا من الغجر لأن ملابس نسائنا غير معروفة بالنسبة لهم وتشبه إلى حد ما ملابس الغجر . وعندما ذهبنا إلى مخيم الجلزون الذي كان غالبية سكانه من الوسط والجنوب أيضا ، كان الناس يعتقدون أننا من الدروز لأن ملابس نسائنا تشبه ملابس الدروز ، لدرجة أن حارتنا في المخيم كانت تسمى حارة الدروز . على هامش المعرض أيضا حرصنا على إقامة أمسيات شعرية وقصصية وحفلات فنية شارك فيها كبار المبدعين الفلسطينيين ، وكم سعدت بأنني حضرت أمسيات شعرية لشعراء كنت أسمع بهم وأقرأ لهم ولم يتح لي الإستماع لإنشادهم من قبل أمثال الشعراء علي الخليلي وعبد الناصر صالح والمتوكل طه وسعيد تيم وغسان زقطان ، ومن داخل الأراضي المحتلة عام 1948 الشاعر سميح القاسم والشاعر سالم جبران والشاعر الزجال سعود الأسدي . كانت مفاجأتي الحقيقية الشاعرة انيسة درويش إبنة بلدة المالحة من منطقة بيت لحم وهي محتلة منذ 1948 ، والتي لم تبدأ بنشر قصائدها ودواوينها إلا بعد أن قاربت على الخمسين من عمرها ، حيث أصدرت أحد عشر ديوانا وكتابا نثريا في الفترة من 1991 و2001 ، صاغتها بالعربية الفصحى والعامية الفلسطينية . ( أنيسة تقول كلمتها وجها لوجه ، وتمشي طاهرة بكل صدق وعذوبة ، وتفتح شبابيكها في وجه كل الرياح قائلة . . كذا أنا يا دنيا ) . لا أحب أن أقارنها بشاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان ولا بأحد غيرها ، فهي فريدة متفردة . وأذكر بكل محبة واحترام زوجها وابن عمها سيف درويش الذي يصعب أن تجد رجلا يحب زوجته كما يحبها .