ينشد مؤلف هذا الكتاب غابرييل كامب (1927-2002) أن يحيط بعالم البربر في كليته، بدءاً من مصر وحتى جزر الكناري، مروراً بالنيجر والسنغال، بالتوسل بالكثير من العلوم ، من حفريات وجغرافيا وعراقة ولسانيات وفنون... والبربر قد عُرفوا من زمن الفراعنة في مصر، باسم الليبو، واحتلوا المنطقة الشاسعة بين الأبيض المتوسط وجنوب النيجر ومن البحر المحيط إلى مشارف النيل. وأما اليوم فلم يتبق من بلاد البربر هذه مترامية الأطراف غير مزق لغوية ومجموعات بعضها كثيرة العدد، متفرقة منعزلة عن بعضها. والمؤلف ينطلق في بحثه من العصور الموغلة في القدم، ساعياً إلى فهم كيف تعرض البربر للتأثيرات الخارجية، من بونيقية ورومانية وإفريقية وعربية... وكيف أمكن لهم أن يظلوا على وفائهم لعاداتهم وتشبثهم بلغتهم واستمرارهم على أساليبهم في العيش. إن الآثار الدالة على عبادة البربر للنجوم نادرة، في ما عدا رسوم الآله الشمس والإله القمر التي تظهر في صورة موكب ساتورن على شواهد عديدة من العهد الروماني. إن القرون التي عمّرها الحكم الروماني هي التي تتيح أفضل إحاطة بالعناصر الرئيسية في الديانة التي كانت للبربر قبل أن تنتشر لديهم المسيحية. وتحفل ديانة الإفريقيين القدامى بجوانب وأوجه على تنوع كبير، ولا تخلوا من تناقض؛ باعتبارها، كما المجتمع الذي كانت تصدر عنه، اجتماعاً وتراكماً لمعتقدات وممارسات تعود إلى أعراق ومستويات ثقافية مختلفة. من الآلهة المورية قديماً إلى الجن حديثاً لن نعرض بالدراسة في هذا الفصل إلى غير المعتقدات الشعبية المعبرة عن هموم الإفريقيين وآمالهم بمنأى عن أي تأثير تقليدي. وليس من اليسير أن نسعى إلى تسليط الضوء على معتقدات البربر المتخفِّية تحت غطاء الوحدانية الظاهرية للديانة الرومانية الرسمية. فنحن لا نعرف الشيء الكثير عن هذه المعتقدات؛ إذ كان طابعها الشعبي سبباً حرمها الوسائل التعبيرية التي تهيأت للدين الرسمي الحضري. فآلهة الفقراء والجن قليلو الحظ هم في حد ذاتهم كيانات محدودة السلطان وضعيفة النفوذ؛ فهم لا يتعدون بتأثيرهم الإقليم أو القبيلة. فكيف تأتّى لذكراهم أن تظل قائمة على مر القرون، بينما المؤمنون بهم قد كانوا لا يقدر معظمهم على التعبير بالكتابة؟ فلهذه الأسباب المختلفة كان التوثيق الكتابي في غاية الفقر وكان عرضة للتحريف أو الإفراغ من بعض مكونه الديني، إذ وقع التعبير عنه في لغة ليست هي لغة معتنقيه. والمصدر الآخر لمعارفنا تكوّنه بعض النتف المستقاة من الأدب القديم، خاصة عند المؤلفين الإفريقيين المسيحيين الذين كانوا هم المؤهلين لينقلوا إلينا هذه المعتقدات. لكن من أسف أننا لا نستطيع أن نطلب من أسقف أو من أحد آباء الكنيسة أن يعمل عمل المؤرخ أو عمل عالم العِراقة. فنحن لا نقع على إلماعات إلى المعتقدات الوثنية الإفريقية الصرفة في غير ثنايا موعظة أو في إدانة لممارسات مدخولة بالوثنية المحلية، أو في تشهير بآلهة غير حقيقية، تتألف من شياطين أو أوثان من خشب أو حجر لا تنفع ولا تضر. وإن جماع هذه التدوينات الكتابية والأدبية يظل غير كاف. كما أنه لا ينبغي الإفراط في البحث فيها لاستخلاص حجة دامغة على المقاومة الإفريقية للحكم الروماني. جبال وكهوف وصخور مقدسة نتعرف في التصورات السحرية والدينية لدى الإفريقيين القدامى على خليط متنافر من ظواهر طبيعية مقدسة وجن غير مسمى وكيانات قد ارتقت إلى مصاف الآلهة المتفردة، ونتعرف فيها على موقف أساسي قوامه الحذر والخوف والتقديس تتأدى بنا إلى عبادة قد تحقق لها قدر معين من التنظيم. فقد كان الإفريقيون، كمثل معظم الأقوام البدائيين، مدركين لوجود قوة منتشرة في الطبيعة ويمكن أن تسفر عن نفسها في كل لحظة، في نتوء تضاريسي كما في ظاهرة غير مألوفة. لكن المقدس قد يقع على حيوان أو يلحقه من غير أن يصير هذا الحيوان بالضرورة إلهاً جديداً. ويمكن للإله أن يظهر كذلك للإنسان من غير وسيط؛ فهو يتمثل له بدرجات متفاوتة في الحلم وفي الرؤيا وفي التجلي. وأكثر تجليات المقدس بروزاً وأكثرها انتشاراً في العالم، وأكثر تلك التجليات التي قيّض لها أن تُحفظ فوق غيرها، هي ما سندعوه بالنتوء التضاريسي؛ ويأتي في مقدمته الجبل، كما تدخل فيه الصخرة البسيطة. فهل يكون شكل الجبل هو ما يجذب إليه الألوهية، أو يكون ارتفاعه الذي يقرب الإنسان إلى السماء وهي مقر الإله الجبار، هو الذي يبرر التقديس الذي يحاط به؟ إن هاتين الوضعتين المتناقضتين في الظاهر، لأن إحداهما تحأرضية والأخرى سماوية، يمكن أن تكونا ساهمتا مجتمعتين في إضفاء طابع القداسة على الجبل. سنقتصر من هذه الأماكن المقدسة على المعابد البونيقية، أو المنتمية إلى التقاليد البونيقية، من قبيل معبد ساتورن المسمى بالكارنيسيس على جبل بوقرنين الذي ينتصب خياله المائز في عمق خليج قرطاج. وربما ذهب بنا الاعتقاد إلى أن تلك المعابد التي أقيمت لبعل أو ساتورن فوق المرتفعات تعود إلى التقاليد السامية، غير أن المصائر التي كانت تعرفها هذه المعابد؛ حيث تتعاقب أحياناً المعابد القديمة المفتوحة والمعبد البونيقي أو الروماني والكنيسة المسيحية البدائية والأضرحة، تكشف لنا عن عمق هذا التقديس وعن قِدَمه. وتشهد على الطابع المحلي لتقديس هذه المعابد مآثر أخرى عديدة، وبعضها أشد قدماً، من قبيل النقائش الصخرية ذات الدلالة الدينية، نراها مجمَّعة فوق قمم بعض جبال الأطلس الكبير في المغرب الأقصى (ياغور وغات). فهذه الأشكال التي باتت اليوم معروفة للجميع منها ما يعود إلى [العصر] الحجري الحديث، لكن معظمها يعود إلى العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي. وقد استمرت زيارة الناس بوتيرة كبيرة نسبياً لهذه الأماكن، حتى بعد أن انتشر الإسلام، فحافظت لها على طابعها الديني المكين. وقال بلين الأكبر عن جبال الأطلس كذلك إنها تأتلق في الليل بألف شعلة وتتصادى فيها أصوات آلهة الرعاة والساتيريين الذين ينفخون في المزامير ويضربون على الطبول. فكيف نستغراب للرهبة الدينية تستولي على من يقترب من تلك الأماكن؟ وزعم ماكسيم دي تير أن الأطلس معبد وإله في وقت واحد. وقد آخذ القديس أغسطين أتباعه بعادتهم في تسلق الجبال ليكونوا قريبين إلى الله. ثم نجد الغوانش في جزر الكناري، وهم الذين لم يتمسّحوا ولا أسلموا، قد حافظوا على المعتقدات الأساسية للإفريقيين القدامى، مع تطويرهم لديانة أصيلة، فكانوا يسمون الإله، حسب الإسباني غالندو ، باسم من المؤكد أنه قد أسيئت كتابته، هو «أتغوايشافونتمان»? أي «رافع السماوات»، وهو الاسم الذي كان يطلق كذلك على رأس تينيريف. وقد كان يقوم في [جزيرة] كناريا الكبرى رأسان منفصلان، هما صخرتان مقدستان، ذانكما هما «تيسمار» و»فيمينيا» اللذان يُحج إليهما. فإذا جاء الزائر هذا المكان المقدس صب حليباً وزبدة على الصخرتين وهو يترنم بأنغام شجية، ثم يتوجه إلى شاطئ البحر فيجعل يضرب الماء بعُصيات وهو يطلق صراخاً حاداً. وكانت تجتمع في هذه الزيارة بعض الممارسات لاستنزال المطر (كصب الخمر والصراخ وضرب البحر...) مع عبادة الصخور. ولا يزال هذا الجبل إلى اليوم موضعاً لمعتقدات ملتبسة غامضة. ومن تلك القمم المسكونُ بالجن إلى حد يجعله يكاد يكون ممنوعاً عن بني البشر، وهذا اعتقاد نجده قوياً جداً لدى الطوارق في الهقار (قارة الجنون)، كما في إيِّر (جبل جريبون). فكيف لا نجد في هذه المحظورات صدى لما ذكر بلين عن الأطلس؟ فينبغي مقارنة عبادة الجبل، أو العبادة فوق الجبل (لأن الجبل قد يكون مجرد رافعة للمقدس)، بالتقديس الذي كان من البربر للمغارات والكهوف في سائر العصور. فوجود المغارة أو الكهف في جوف الأرض يتيح الاتصال بالآلهة الأرضية، وربما أتاح الاتصال كذلك بالإله الأعلى؛ فقد كان بعض معاصري القديس أغسطين يعتقدون أنهم يقتربون من الله إذا غاصوا في أعماق الأرض. ونحن لا نعرف من أسماء الآلهة الذين كان قدماء الإفريقيين يتعبدون بهم في المغارات والكهوف إلا اسماً واحداً؛ هو الرب «باكاكس» في جبل طاية [بوحمدان] على مقربة من المدينة الرومانية تيبليس (عنونة). وفي سفح الجبل يوجد «غار الجماعة» الذي كان واليا المقاطعة يحجان إليه في فصل الربيع من كل سنة. ولاشك أنهما كانا يقدمان قرباناً وينقشان إهداء للإله باكاكس أغسطيس. ومثيلة لهذه العبادة كان يقوم بها والي كاستلوم فوينسيوم في جبل شطابة في منطقة قسطنطينة. ولا تزال تجد هذه الممارسات القديمة المرتبطة بالنتوءات الطبيعية كثيرة وجارية في قرى شمال إفريقيا. ولا تجد إلا القلة القليلة من الثقوب في الصخر أو تجاويف المغارات التي لم تتحول إلى معابد بسيطة (مزارات أو حويطات) توضع فيها بعض القرابين والنذور من الفخار والقناديل والبقجات، بله الحلاوي وكرات المحكومين، لأن تلك الثقوب يتردد عليها بعض الجن أو أحصيص («الحراس»)، الذين تُستحسن استضافتهم، أو ينبغي على الأقل اتقاء شرهم. ماء السماء ونسغ الأرض إن البلاد التي تعيش مناخاً شبه جاف، لا تسلم منه غير حافة ضيقة تنعم بالمناخ المتوسطي، تكون فيها مشكلة المياه مبعثاً لقلق وانشغال دائمين لدى الجماعات الزراعية والرعوية. وقد كان الإلهان نيبتون ونيمفيس الحاميان للمنابع يحظيان في العهد الروماني بالكثير من التوقير. وكانت المقارّ التي شيدت لحوريات الماء في العهد الروماني غاية في العظم. وأشهر هذه المقار هو المعبد الكبير للمياه في زغوان [في تونس]، ومنه تنطلق القناة الرئيسية التي تزود عاصمة الإقليم بالمياه. وقد كان للمياه المبرئة كذلك نصيبها من مظاهر التقديس، وأشهر هذه المظاهر هي المتعلقة ب «مياه سبتميانا» في تيمجاد. وتصور كلمة إهداء مؤرخة في سنة 213م بناء أروقة فريداريوم مزيناً بالرسوم، ومقدمة هيكل وواقياً مكوناً من حاجز من البرونز من حول النبع. كما كانت بعض الآبار موضوع تقديس؛ كذلك شأنها في قلعة ديميدى ، ولا تزال ترى لها وجوداً إلى اليوم في بئر بروطة في القيروان. وفي ما خلا هذه العبادات الرسمية لا يبعد أن يكون السكان الإفريقيون قد كانوا كثيري الإقبال، كفعل البربر اليوم، على الممارسات السحرية لاستدرار المطر. وأشهر هذه الممارسات وأوسعها انتشاراً هو التطواف ب»عروس المطر»، وهي لا تزيد عن مغرفة من الخشب تُلبَس من الخرق والأسمال. إنها ترميز ساذج يقوم على تقديم العروس نفسَها لتحبل من المطر (أنزار، الذي هو اسم مذكر [في الأمازيغية]). وفي الإطار نفسه يقبل الناس على التراش بالمياه المباركة تنزل في المنقلب الصيفي، ويُعرف هذا الطقس باسم «أوسو»، وهو شيء معروف كثيراً في ليبيا وفي تونس، وله شيوع كذلك في المغرب. ولقد استنكر القديس أغسطين هذه الممارسة؛ فقد آخذ أهل زمانه بأنهم كانوا يستحمون عراة في يوم المنقلب الصيفي فيثيرون شهوة المتفرجين. وإن هذه الأعمال من التراش بالماء والاستحمام فيه، التي يتم خلالها رج أدفاق الماء، بل وضرب الغوانش للبحر، إنما الهدف الأخير منه هو إسقاط المطر من السماء. وكانت النساء في هيبون يستحممن فيه عاريات؛ فهي دعوة إلى تلقيح الأرض الجافة. والحقيقة أن لهذه الممارسات اتصالاً وثيقاً، عن طريق سحر قائم على المحاكاة، بالرمزية الجنسية. فالمطر وخصوبة الأرض وتلقيح الماشية هي في تصور الناس أمور مترابطة ببعضها يحدثونها بممارساتهم الجنسية. وقد وجدنا الديانات أكثرها تطوراً تجيز هذا الترابط، سواء أكان في شكله الفج أو بتقنيعه بحجب شفافة من الخرافة. ويرى ج. كاركوبينو أن الحظوة التي تحاط بها عبادة الآلهة عند النومديين مردها على وجه التحديد إلى محافظة هذه الآلهة على مخزون طبيعي قديم من الحضارة المتوسطية القديمة التي تضرب فيها هذه العبادة بجذور بعيدة. وقد كانت عبادة تيلوس وكوري وهما من الآلهة، بحكم منزعها الاتحادي الجنسي وذلك التواصل فيها مع القوى التي تلقح الطبيعة، هي أقرب العبادات إلى الانشغالات السحرية عند المزارع الإفريقي. ولقد انصرف البربر عن أعياد ديميتر التي باتت في اليونان ليس لها غير طابع رمزي، وصاروا يفضلون الحفلات ذات الطابع الواقعي الملموس، كما تجسدها «ليلة الخطيئة»، التي صور نيقولاس دو داماس، وهي مطابقة من كل الوجوه لما لا يزال يجري منها إلى اليوم في بعض القرى والبوادي، في الظهرة [في الجزائر] كما في جنوب المغرب. وقد أقر الحسن الوزان في القرن السادس عشر بوجود الممارسات نفسها في منطقة صفرو من المغرب.