ينشد مؤلف هذا الكتاب غابرييل كامب (1927-2002) أن يحيط بعالم البربر في كليته، بدءاً من مصر وحتى جزر الكناري، مروراً بالنيجر والسنغال، بالتوسل بالكثير من العلوم ، من حفريات وجغرافيا وعراقة ولسانيات وفنون... والبربر قد عُرفوا من زمن الفراعنة في مصر، باسم الليبو، واحتلوا المنطقة الشاسعة بين الأبيض المتوسط وجنوب النيجر ومن البحر المحيط إلى مشارف النيل. وأما اليوم فلم يتبق من بلاد البربر هذه مترامية الأطراف غير مزق لغوية ومجموعات بعضها كثيرة العدد، متفرقة منعزلة عن بعضها. والمؤلف ينطلق في بحثه من العصور الموغلة في القدم، ساعياً إلى فهم كيف تعرض البربر للتأثيرات الخارجية، من بونيقية ورومانية وإفريقية وعربية... وكيف أمكن لهم أن يظلوا على وفائهم لعاداتهم وتشبثهم بلغتهم واستمرارهم على أساليبهم في العيش. 29) صارت بلاد البربر مسلمة في أقل من قرنين من الزمن، بينما لا تزال لم تتعرب بالكامل حتى الآن، بعد مرور ثلاثة عشر قرناً على الغزو العربي الأول. نشر الإسلام ليس نشر العربية من المهم في البداية أن نميز بين الإسلام والعروبة. حقاً إن هذين المفهومين، وأحدهما ديني والآخر عراقي اجتماعي، قريبان جداً إلى بعضهما لأن الإسلام ظهر لدى العرب، وكانوا هم في البداية من قاموا على نشره، وأن هنالك أقواماً من العرب أو المستعربين قد بقوا على مسيحيتهم (في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق ومصر)، وملايين من المسلمين الذين ليسوا من العرب ولا من المستعربين (السود الأفارقة والبربر والأتراك والكرد والألبان والإيرانيون والأفغان والباكستانيون والأندونيسيون...). وقد كان يمكن للبربر أن يدخلوا جميعاً في الإسلام، مع البقاء على هويتهم، والمحافظة على لغتهم وتنظيمهم الاجتماعي وثقافتهم، أسوة بالفرس والترك. بل إن هذا الأمر كان من الناحية النظرية سيكون عليهم أسهل وأيسر، ذلك بأنهم كانوا أكثر عدداً من بعض الأقوام الذين حافظوا على هويتهم في صلب أمة الإسلام، وأنهم كانوا أبعد عن المركز الذي كانت منه انطلاقة الإسلام. وكيف نفسر أن تكون إفريقيا ونوميديا، وحتى الموريتانيتان، التي وقع عليها التمسيح بالوتيرة نفسها التي وقع على المقاطعات الأخرى من الإمبراطورية، وكانت لها كنائس تتميز بالشدة والصرامة، كيف نفسر أن تكون تحولت بالكامل إلى الإسلام، بينما بعض الأقوام على أبواب شبه الجزيرة العربية قد لبثوا على المسيحية؛ كالقبط في بلاد النيل، والموارنة في لبنان، والنسطوريين واليعاقبة في سوريا والعراق؟ نهاية عالم دخل الإسلام إلى إفريقيا، كما دخل إلى الشرق الأدنى، بطريق الغزو العربي، وهذه من المسلمات. ولقد رأينا مدى الجهل الذي يرين على وقائع ذلك الغزو؛ وهي وقائع تزيد في إرباكها الحكايات الأسطورية الكثيرة التي وضعت بهدف الإشادة بمنجزات مقاتلين جُعلوا على رأس سلالات قوية. وإن بعض ما أورده ابن عبد الحكم والنويري قد كان يغلب عليه النفس الملحمي للأناشيد البطولية. وكان في ضعف البيزنطيين ما يسَّر الغزو الإسلامي. وكان البطريق غريغوار الذي هُزم وقتل في معركة سبيطلة هو نفسه تمرد على إمبراطور القسطنطينية. وكانت إفريقيا قبل قرنين من ذلك العهد نهباً للفوضى؛ فلقد اجتمعت كل عوامل الاختلال والخراب الاقتصادي على هذا البلد البائس. فمنذ عهد الوندال بقي القسم الأكبر من المقاطعات القديمة متأبياً عن إدارة الدول وريثة روما، وما كانت مملكة الوندال في إفريقيا تغطي غير تونس الحالية وجزءاً صغيراً من شرق الجزائر تحده في الجنوب الأوراس وفي الشرق خط الطول في سيرتا. وقد بيّن ك. كورتوا، بالاستناد إلى روايات بروكوبيوس وكوريبوس، أن الرّحل الجمالين توغلوا تحت قيادة كاباون في بيزاسين، وذلك منذ نهاية حكم ثراساموند في سنة 520م أو نحوها. ومنذ هذا التاريخ كان على الوندال والبيزنطيين أن يتصدوا لهجمات الرحل الجمّالين المتواصلة يشنونها من الجنوب الشرقي. وخلال ذلك الصراع المتجدد كان الوندال يجدون في بعض الأحيان حلفاء من الرؤساء أو الملوك على الأقوام الجبليين المستقرين أو أشباه الرحل، لكن كان يتعين عليهم في كثير من الأحيان كذلك أن يواجهوا تحالف المجموعتين البربريتين المجتمعتين تحت اسم الموريين. وأما ما تبقى من إفريقيا، ذلك القسم الذي أسماه ك. كورتوا «إفريقيا المنسية»، فلا نعرف منه في هذه الفترة الممتدة على قرنين من الزمن غير أسماء الرؤساء ونصب مقابرية قليلة جداً، من قبيل الجدارات بالقرب من سعيدة أو الكور بالقرب من مكناس وكتابات ماستيس الشهيرة في أريس (الأوراس) وكتابات ماسونا في ألتافا (منطقة وهران). ويذهب بنا الظن، من خلال قراءتنا للنتف التي نقلها إلينا المؤرخون ومن خلال محتوى هذه الكتابات، إلى أن المخاطر وانعدام الأمن لم تكن بالشيء اليسير في هذه المناطق «المحررة». وكان هنالك مصدر آخر للفوضى والتدهور الاقتصادي؛ نريد التفكك الذي وقع في خطوط الدفاع والمراقبة التي كانت تصد الرُّحل. وقد شكل اختفاء مناطق الزراعة الجنوبية أول إضرار بحياة الاستقرار في المناطق الداخلية من البلاد. وفي الأخير فالنزاعات اللاهوتية عند مسيحي إفريقيا لم تكن أقل حدة مما عند مسيحيّي المشرق. فالكنيسة التي كانت تلاقي عنتاً كبيراً في التصدي للدوناتية قد ضعُفت في مملكة الوندال من جراء عمليات الاضطهاد، ذلك بأن الأريوسية صارت الدين الرسمي للدولة. ولئن عادت العقَدية الدينية إلى الانتصار من جديد تحت حكم هيلديريك، فإن المجمع الذي دعا إليه بونيفاتيوس أسقف قرطاج وكبير أساقفة إفريقيا في سنة 525، يمكن اعتباره بمثابة فشل، بالنظر إلى العدد المحدود من الأساقفة الممثلين فيه. ويُتبين من القوائم الأسقفية لهذا المجمع والمجامع التي انعقدت بعده مدى العنت الشديد الذي وقعت فيه الكنائس الإفريقية منذ عهد القديس أغسطين. فلم يقتصر الأمر على اختفاء الكثرة الكثيرة من الأساقفة، بل تدخل فيه كذلك خصوصيتها المحلية والانكماش الذي صارت إليه من جراء تفكك الدولة الرومانية. وكان الغزو البيزنطي الثاني من هذه الناحية أبلغ أضراراً. فقد أدخل من جديد إلى إفريقيا نزاعات جديدة حول طبيعة المسيح؛ فقد كانت فاتحة الحقبة البيزنطية في إفريقيا بالجدال حول الطبيعة الواحدة للمسيح ونزاع المجالس الدينية الثلاثة تحت حكم جوستينيان، وكانت خاتمتها بمحاولة المصالحة التي قام بها هرقل، والإدانة التي وقعت على الوحدانية بدورها إذ اعتُبرت بدعة جديدة. ومع بداية الغزو العربي نشأ نزاع جديد من المبادرة التي قام بها الإمبراطور كونستان الثاني؛ إنه نزاع تيب، الذي استمر يمزق إفريقيا المسيحية (648). وفي الوقت نفسه تزايدت التعقيدات الاجتماعية، بل والعرقية، في البلاد. فالرومان الإفريقيون الذين كانوا يسكنون المدن والقرى، الموغل بعضها في الجنوب، من قبيل المجتمع الفلاحي الذي كشفت عنه الصفائح الألبرتينية على بعد مائة كلم جنوبيتبسة، والموريون غير المترومين والمنحدرون من بعض الأقوام من البربر القدامى، انضاف إليهم الرّحل الزناتيون وبقايا الوندال والجنود الغزاة والإداريون البيزنطيون وهم الشرقيون. وصار هذا المجتمع يزداد انقساماً في بلد قد امّحى فيه حتى مفهوم الدولة. وجملة القول إن الغزاة العرب، وقد كانوا قليلي العدد لكن بواسل، لم يجدوا في مواجهتهم دولة على استعداد لمقاومة ذلك الاجتياح، بل تصدى لهم معارضون متتابعون؛ فيهم البطريق البيزنطي ثم الرؤساء البربر، وإمارات بعد ممالك وقبائل بعد اتحادات. وأما الساكنة الرومانية الإفريقية، المنغلقة خلف أسوار مدينتها، فهي على الرغم من كثرتها الكثيرة لم تكن تملك لا الوسيلة ولا الإرادة للدخول في مقاومة طويلة لهؤلاء السادة الجدد المبعوثين من عند الله. ثم إن الجزية التي فرضها عليها العرب لم تكن بأثقل من الضرائب التي كانت تقع عليها من البيزنطيين، وقد كانت جبايتها تبدو في بادئ في الأمر على الأقل في صورة مساهمة استثنائية في التخفيف من مآسي الحرب أكثر مما هي فريضة دائمة. وأما ما كان يأتي فرسان الله من عمليات السلب وأخذ الغنائم فما كانت من الإجحاف إلا بقدر ما كان يقع عليهم من ممارسات الموريين منذ قرنين من الزمن. سبل الهداية لقد قلنا بوجوب التمييز بين الأسلمة والتعريب. فالأولى تقع بوتيرة أسرع بكثير من الثاني. فقد صارت بلاد البربر مسلمة في أقل من قرنين من الزمن، بينما لا تزال لم تتعرب بالكامل حتى الآن، بعد مرور ثلاثة عشر قرناً على الغزو العربي الأول. كانت الأسلمة والتعريب الأول ذوي طابع حضري في البداية. فقد انغرست ديانة الغزاة في المدن القديمة التي كان يزورها المقاتلون الدعاة ثم العلماء، وهم رحالة متمرسون على المناقشات اللاهوتية. وساهم إنشاء مدن جديدة، وقد كانت مراكز دينية حقيقية، كالقيروان، وهي أول منشأة إسلامية (670م)، وفاس التي أسسها إدريس الثاني سنة (809م)، في الترسيخ للإسلام على طرفيّ البلاد. لقد كان تحوّل البربر في القرى، من صهناجة وزناتة، إلى الإسلام في صورة شديدة الغموض. فقد كانوا مهيإين للتوحيدية المطلقة التي جاء بها الإسلام بفعل التطور الذي شهدته المسيحية في ذلك الوقت، وبسبب من نوع من التبشير اليهودي الذي كان يجري لدى قبائل الجنوب من الرحل، وربما بسبب كذلك من ذكرى تلك القدرة الهائلة التي كانت للإله الإفريقي العظيم، الذي يسميه اللاتين ساتورن، وهو خليفة بعل حمون البونيقي الذي كان تفوقه على الآلهة الآخرين ممهداً للتوحيد. وعلى كل حال فإن تحول رؤساء الاتحادات القبلية الكبيرة قد أدى إلى نشر الإسلام بين الساكنة البربرية. كما وأن الغزوات الظافرة التي خاضها المقاتلون البربر تحت قيادة هؤلاء الرؤساء وراية الإسلام قد كان من الطبيعي أن تتأدى بهم للانقلاب إلى الإسلام. ولجأ الدعاة المسلمون إلى ضرب المثل ليستميلوا إليهم قلوب السكان في المدن، خاصة في القرى. فقد كان ينبغي أن يظهروا لهؤلاء المغاربيين، الذين كانوا شديدي تديّن على الدوام، كيف تكون الجماعة الحقيقية للمدافعين عن العقيدة. فكان الرباط، وهو دير أو قلعة يسكنها جنود من العبّاد المستعدين على الدوام للدفاع عن أرض الإسلام ضد الكفار والمبتدعة، والمستمدين تعاليمهم من منابع العقَدية أكثرها تشدداً. وكان هؤلاء المرابطون يعرفون أن يتحولوا عند الاقتضاء إلى مصلحين متحمسين ونافذين. وكان أولئك من لمتونة الذين أقاموا رباطاً بالقرب من السنغال (أو في جزيرة على نهر السنغال) من وراء تأسيس إمبراطورية المرابطين التي استمدت تسميتها من اسمهم، ولحقها تحريف إلى الإسبانية بإكراهات التاريخ. وعندما بات الإسلام مضطراً للركون إلى سياسة دفاعية صار الرباط العسكري يحمي الساحل من غارات البيزنطيين ثم الفرنجة ونورمانديّي صقلية؛ وبعض هذه الرباطات، كالتي في سوسة وفي الموناستير، تعتبر قلاعاً حقيقية. وأما المناطق غير المهددة فإن الرباط فقد فيها طابعه العسكري ليصير مقراً للدعاة الدينيين الذين يحظون بالكثير من التوقير. وقامت في وقت قريب إلينا زوايا سيكون من المبالغة أن نعتبرها المطابق للهيئات الدينية المسيحية، بحكم استنادها إلى مراكز الدرس الديني؛ فكانت الزوايا هي الوريثة للرباطات القديمة. وترتبط هذه الحركة، التي غالباً ما داخلتها صوفية شعبية، بالأولياء أو المرابطين، وهو اسم آخر اشتُق كذلك من «الرباط». وقد ساهمت ظاهرة الأولياء كثيراً في إتمام أسلمة البوادي والقرى مع القبول ببعض الممارسات السابقة على الإسلام، لكنها لا تنال من إيمان المؤمن. وأما الخطر الأكبر على العقَدية السنية فقد جاءها من الدعاة الخوارج الذين وفدوا من المشرق في القرون الأولى للإسلام. فلئن قاموا بنشر الإسلام بين القبائل، خاصة منها الزناتية، فلقد قاموا بفصل جزء من البربر عن العقَدية الإسلامية. ولئن تسبب الشيعة الخوارج لبلدان المغرب في الكثير من الويلات فإن الفضل يعود إليهم في المحافظة خلال كل العصور، بما فيها العصر الحالي، على قوة دينية أقلية، لكن مثالية بصلابة إيمانها والتشدد الذي يميز طباعها وعاداتها. وظهر دعاة آخرون ورحالة كبار اضطلعوا بنشر المذهب الشيعي. ونعرف بالنجاح الباهر الذي تحقق لأحدهم؛ ذلك هو أبو عبد الله، لدى قبائل كتامة، فلقد كان من وراء قيام الدولة الفاطمية. وينبغي القول إن تلك العصور التي يبدو لنا أن الناس فيها كانوا في أوروبا كما في إفريقيا محكومين بحياة أقرب إلى حياة المعتقلات بسبب من انعدام الأمن، قد كان فيها الدعاة الدينيون يسافرون كثيراً ويضربون بعيداً في أنحاء المعمور ويتلقون العلم من مشاهير العلماء وينذرون أنفسهم لخدمتهم إلى اليوم الذي يتحقق لهم فيه الوعي بما باتوا يحوزون من معرفة ومن سلطان فيصيرون بدورهم شيوخاً، ومنهم من يستن لنفسه مذهباً جديداً. ومن جملة هؤلاء كان ابن تومرت، مؤسس الحركة الموحدية. وقد كان ابن ياسين من قبله اضطلع بهذا الدور في تأسيس الحركة المرابطية. لكن كانت هنالك أجزاء من بلاد البربر لم يدخلها الإسلام إلا في وقت متأخر؛ ولا نريد بها الجهات حيث كانت المجموعات الملتحمة من الجبليين المستقرين، فلقد وجدنا هؤلاء على العكس سرعان ما صاروا يضطلعون بدور مهم في الإسلام المغاربي، على غرار ما فعل كتامة ومصمودة، بل نريد الجهات حيث كان كبار الرحل في الهقار القصي وفي جنوب الصحراء. والذي يبدو، حسب ما تدلنا تقاليد الطوارق، أن هؤلاء قد تحولوا إلى الإسلام في وقت مبكر جداً، على أيدي صحابة الرسول، لكن هذا التحول إلى الإسلام، ما لم يكن شيئاً خرافياً، فإنه لم يكد يكون له من نتائج. ويدخل في هذه الحكايات كذلك حضور عقبة إلى فزّان من قبل حتى أن يتم بناء القيروان. وبقي لعبادة الأوثان وجود عند السبإيين إلى حين تعرضهم للغزو الطوارقي. وقد قام بعض الدعاة، أو الأنبياء [كذا!]، بإعادة إدخال الإسلام إلى الهقار، ولكن لم يحوزوا فيه نجاحاً كبيراً. ولا يبدو في الواقع أن الأسلمة الحقيقية لهذه الأقوام قد وقعت قبل القرن الخامس عشر. بل إن هنالك بلداً ناطقاً بالبربرية لم يتحول أبداً إلى الإسلام؛ إنها جزر الكناري التي كان سكانها الأصليون، القونشيون، إلى حين تعرضهم للغزو الإسباني النورماندي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لا يزالون على الوثنية.