تأخذني الطائرة فجرا من القاهرة إلى باريس. أقلب نظري في تضاريس أوروبا، من جزر اليونان، وجبال الألب، نمر عبر إيطاليا ونصل إلى سماء باريس الرمادية رغم يقظة الصيف. لم يعد مطار تشارلز ديغول أنيقا كما كان منذ عهود. يصادرون زجاجات الماء. أختم جوازي وأتجه إلى طائرتي نحو مونبيليه. في المطار الصغير المتقشف أبحث عن من يستقبلني ويأخذني إلى بلدة سيت حيث المهرجان الشعري العالمي. أجد رجلا لا يتحدث الإنجليزية متكئا على حائط عند باب الخروج بكسل ويحمل يافطة كتب عليها اسم المهرجان. أخرج لأدخن فأجد الشاعر البحريني مهدي سلمان يبحث عن من يستقبله، أيضا. نعود للداخل ونجد شاعرة وزوجها ونسلم عليهما ثم نكتشف أنهما إسرائيليان. نخرج مرة أخرى ونرفض الذهاب بصحبة الإسرائيليين في سيارة الفرنسي الذي كان يحمل اليافطة ونأخذ تاكسيا إلى سيت. سيت جزيرة تربطها الجسور إلى اليابسة. نصل إلى فندقنا ? آزور - على القنال. في الفندق المتواضع لا شيء يوحى بالخدمة أو الرفاهية. أتحفظ عليه وأطلب تغييره. وأقضي ليلتي الأولى فيه في صهد وضيق. غرفته زنزانة ضيقة بلا مراوح وبحمام أصغر من دولاب ملابس في حضانة أطفال. قالوا لي إنهم خصصوه للشعراء الخليجيين ولا أدرى لماذا عزلوهم عن بقية الشعراء! فيما بعد ذهبنا إلى حفلة العشاء الذي أقيم في باحة مدرسة والتقينا بمنظمي المهرجان وبقية الشعراء الضيوف الذين تجاوز عددهم المائة وخمسين من مختلف أنحاء اوروبا والمتوسط وافريقيا واميركا اللاتينية والعالم العربي وتركيا وإيران وغيرها. كان عدد الشعراء العرب المدعوين يتجاوز الثلاثين شاعرا وشاعرة. وستصبح تلك المدرسة على هضبة جبلية ملتقانا اليومي للغداء بطاولاتها الخشبية الممتدة وأشجارها وقدور البوفيه والطباخين المتطوعين وأطشات الغسيل التي نودع فيها أطباقنا ومعالقنا وكوؤسنا كل نهار. ثم نذهب للإفتتاح ويقرأ أربعون شاعرا منا قصائده على مسرح أقيم في حديقة الماء تصاحبنا الموسيقى ويحضر الجمهور مستلقيا على العشب وجالسا على الكراسي تحت ضوء القناديل ونور القمر. ألتفى فاطمة الشيدي الأديبة العمانية وأتعرف عليها بعد أن سبقنا التعارف عبر الإنترنت والنصوص، وهادي سلمان الشاعر البحريني الذي فصل من عمله في الصحافة بسبب آرائه خلال أحداث وثورة البحرين المستمرة، ومحمد الدميني من السعودية وحمد الفقيه الذي يشارك للمرة الأولى في مهرجان شعري خارج وطنه، كما ألتقي السكندري علاء خالد والقاهرية غادة نبيل، وعدد آخر من الشعراء. أستيقظ على صوت الكلاب في الباحة الخلفية للفندق وأذهب للفطور. الطباخ يرتدي باروكة شقراء طويلة ويغني بصخب ونحن نتناول خبز الباجيت والجبنة والمربى والقهوة. جمهور الشعر أخرج بصحبة فاطمة الشيدي وحمد الفقيه لنمشي على البحر باتجاه مكتب المهرجان فلا مرشد لنا سوى خارطة صغيرة. نتجه نحو الجبل ونضيع في الأزقة لساعتين على الأقدام ونسأل من نصادفه في الطريق عن الإتجاهات. البلدة جميلة وقديمة وحميمة وهادئة والناس في شئوونهم الصغيرة يتمتعون بالمقاهي وينزهون أطفالهم وكلابهم في سلام وأمان. العجائز يحملون شنط الخوص والخبز والخضار ويصعدون الجبل إلى بيوتهم الصغيرة القديمة والتاريخية البحرية. ثمة ساحة صغيرة تحولت إلى معرض كتاب خلال المهرجان. قراءات شعرية في كل مكان منذ الصباح الباكر وحتى آخر الليل: في الشوارع والساحات والمقاهي والقوارب والمدارس وباحات البيوت. نصل إلى قرية الإحتفال الشعري، شوارع جبلية وبيوت متراصة وتاريخية، بشر سيتمعون من الشرفات وموسيقيون يعزفون هنا وهناك. مطاعم صغيرة كالخيم أقيمت لوجبات عشاء الضيوف. الأغلبية تشكو من سوء السكن وانعدام الخدمة وعدم وجود مرافقين ومرشدين. البعض تم استضافته لدى عدد من العائلات، أو في نزل بعيدة، أو مأوى للعجزة أو سكن للطلاب، والبعض في فنادق صغيرة، وقلة في الفنادق الكبرى التي لا تزيد على الثلاثة نجوم. نستلم أوراق المهرجان وبرنامج القراءات الشعرية اليومية ويتم تسليمنا مصروف جيب وتذاكر للطعام وأطلب تغيير الفندق على أن أتحمل نصف التكاليف ويكون لي ذلك فأنتقل إلى فندق باريس القريب من الفعاليات، ثم أشارك في قراءتى الشعرية الثانية بعد أن قرأت في الليلة السابقة في حديقة الإفتتاح. إختار المترجم مقاطع من كتابي «الجمال العابر» بشكل غير متسق وهي قصيدة لها وطأتها الروحية علي وكانت كل ما توفر للتكرار عبر القراءات اليومية للمهرجان. وكان غريبا أن أقرأ مقاطع منها مجهدة وتأملية يشغلها سؤال الموت والإرث الشرقي العربي أكثر من الحياة في مكان يضج بالحياة وشؤونها الصغيرة الممتعة والمسالمة لجمهور غربي واندهشت من تفاعله مع شعر مثقل الكاهل بإرثنا الذي ما زلنا نحياه. قرأت بصحبة عدد من الشعراء العرب والفرنسيين ومن المكسيك وكرواتيا وغيرها. وفاجأتني شاعرة صماء وبكماء تقرأ الشعر بلغة الإشارات وقدمتنا الشاعرة الفرنسية جوزيان جيسوس -بيرغى، وهي محبة للعرب وأشهرت إسلامها وكتبت قصائد في الجزائر والمغرب تم ترجمة بعضها إلى العربية. أما الشاعرة البكماء - الصماء فقد كان هناك من يترجم شعرها كلمات بالفرنسية، وكانت مدهشة، فالصمت عم المكان وحتى الشجر بدا مصغيا لها والطيور والهواء وهي تنفعل بلغة الإشارات وتتدفق في حركة متسارعة الإيقاع. اسمها دجنوبا باثلى وهي فرنسية من مالي - أفريقية. وكان العرب المشاركون هم: محمد الدميني وعبدالسلام العجيلي وحمد الفقي وتشارلس شهوان وصالح دياب الشاعر السوري المقيم في فرنسا والذي وجه إلى عدد منا دعوات المشاركة في المهرجان، وعثمان حسين وعلاء خالد. أتجول تحت شمس المساء بعد القراءة الشعرية وأجد من يناديني في أحد الشوارع ويقبل للسلام علي وألتقى بالإماراتي مصبح خلفان صدفة ولم أكن قد رأيته منذ الثمانينيات آوان عمله بالمجمع الثقافي وهو شبه مقيم الآن في سيت الفرنسية بعد تقاعده من العمل. تمضي القراءات واللقاءات في سيت متتابعة عبر برنامج يومي يتنوع، كان أغربها القراءة في القوارب الصغيرة لجمهور المجذفين الذي لا يتجاوز الخمسة أشخاص. أحضر قراءات في أماكن مختلفة فالشعر يذهب للناس مجانا في باحات المنازل والمقاهي والشوارع والكنائس والمدارس وقمم الجبال والحدائق وغيرها. ألتقي بعدد من شعرائنا الكبار مثل محمد بنيس الذي أسهب في الحديث عن ترجمته لمالارميه إلى العربية، والعراقي عبدالرحمن الطهمازي المناضل الذي لم يترك العراق أبدا في السراء والضراء فيما هاجر معظم جيله الستيني من شعراء العراق إلى أصقاع الدنيا. وألتقى في حوار خاطف ولذيذ التونسي ? الفرنسي عبدالوهاب المؤدب صاحب كتاب «الإسلام يمرض» الذي ترجم إلى العربية بعنوان «أوهام الإسلام السياسي» وصدر في بيروت بعد أحداث 11 سبتمبر وترجم إلى العديد من لغات العالم. كان هناك أيضا العديد من الممثلين والممثلات الفرنسيين يصاحبوننا في قراءة نصوصنا بالفرنسية، وممن قدمونا في الندوات المصرية ? الفرنسية - اليهودية كاثرين فرحى وكان والدها من كبار المثقفين اليساريين في مصر ومن جيل المبدعين السورياليين وجماعة الخبز والحرية وسجنه ثم نفاه عبدالناصر بعد هزيمة 1967. ومن الشعراء العرب الشباب كان هناك أكرم القطريب السوري المقيم في اميركا وعبدالله الكلباني من عمان المعروف بعبد ياغوث والتونسي الشاعر والنحات صلاح بن عياد وسعاد سالم من ليبيا. كما شارك سعيد هادف الجزائري المقيم في المغرب وكذلك طيب لسلوس من الجزائر أيضا، وفينوس غيتا خوري اللبنانية الفرنسية المخضرمة وميشيل قصير وصالح ستيتة. وكان ملفتا وجود عراقي في صحبة دائمة لشعراء اسرائيل ويتهجم على العرب كلما إستطاع إلى ذلك سبيلا وهو مقيم في فرنسا منذ زمن طويل اسمه صلاح الحمداني. وقد شارك ثلاثة شعراء من اسرائيل هم: راحيل شالين وآهرون شاباتى وروني سوميك. ومن المشاركين العرب الأردني المقيم في لندن الشاعر أمجد ناصر في صحبة زوجته، واللبناني غسان علم الدين، والمغربى عبدالله رزيقة ورشيدة مدني ومحمد أبوحشيش من فلسطين وطاهر بكري من تونس وغيرهم. وصاحبت الحفلات الموسيقية والغنائية ليالي المهرجان وكان أشهرها حفلة للمغربية ? الفرنسية - اليهودية سافو. وتواجد الشعر والموسيقى التركية والإيرانية واليونانية وغيرها. صعدت الجبل نحو المقبرة البحرية ومتحف شاعر سيت بول فاليري وكان ذلك تجربة في حد ذاتها. ومن الشخصيات التي تمتعت بمحاورتها ومجالستها رئيسة المهرجان ميتاء - فاليس بليد، بشعرها القصير الأشقر والمشعث ولباسها البسيط الأسود ونعالها الخفيف، كانت تهرع هنا وهناك رغم إمتلاء جسدها، موفورة الحيوية، ومنتبهة لكل صغيرة وكبيرة في المهرجان. هي أيضا مديرة متحف بول فاليري وسبق أن نظمت مهرجان لوديف الشعري لسنوات ثم اختلفت مع المدينة وجاءت إلى سيت بالمهرجان وهذه هي دورته الثالثة. كما جلست للحوار مع ممثلة ومخرجة مسرح في الثمانينات من عمرها، أسست في عام 1962 مسرح للمرأة فقط ومازالت تزاول نشاطها بحماس الأمس منتصرة لقضايا المرأة ونصوصها. سألتها ألم تتعبي وتملي منه بعد مرور أكثر من نصف قرن، فأجابتني: لو توقفت أموت! كان مهرجان سيت ممتعا ومتعبا فلا بد من المشي الطويل نحو كل شيء. النوارس والبحر والبيوت والحياة الهادئة والفرحة اللطيفة والبشر بمختلف أعمارهم واللطف المتدفق والأطفال والكلاب والقطط وخبز الباغيت والمقاهي الحميمة واستقبال الجمهور من أهالي سيت أجمل ما فيها. أما لقاء الشعراء العرب فقد اتسم بتعطش للجمال والسلام والشعر والحوار فالجميع أتى تاركا وراءه مصائب أوطانه وتوتراتها فكان اللقاء شبه عائلي وجرت نقاشات غالبها حول الأوطان الجريحة. نرحل بعد إقامة امتدت من 20 إلى 29 يوليو/تموز 2012 عائدين إلى أوطاننا، أسأل المنظمين عن البلدة كيف تكون بعد المهرجان فيردون: نحزن كثيرا لفراقكم. أوروبا المتحضرة تحتفى بالشعر ببساطة ونظام وجمال، فشكرا لها.