في هذا الحوار نتأمل مع الشاعر و الحقوقي عبد الرفيع جواهري الرئيس السابق لاتحاد كتاب المغرب مسار هذه المؤسسة الثقافية و مسؤولياتها الجديدة في ظل المتغيرات التي يعرفها المغرب ، والرهانات التنظيمية لمؤتمرها المقبل و السبل المقترحة لخروجها من أزمة الجمود التنظيمي لتقوم بمهمتها في نشر التنوير الفكري في قلب المجتمع . الشاعر عبد الرفيع جواهري يناقش أيضا المفارقات الثقافية للمغرب المعاصر و بروز نزوعات التقليد و المحافظة و مسؤولية السلطة الحاكمة في تقزيم أهمية الورش الثقافي و تحجيم دوره في التحديث السياسي و الإصلاح الشامل .. التقيناه بمراكش فأجرينا معه هذا الحوار . { يبدو أن التحولات التي عرفها المغرب في غضون السنة الماضية، وخاصة تلك المتعلقة بالدستور الجديد و نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة ، تفرض ضرورة تجديد مهام اتحاد كتاب المغرب . كيف تتصورون مهام و مسؤوليات الاتحاد في الوضع الراهن؟ يجب ألا ننسى أن اتحاد كتاب المغرب، ليس سوى جمعية ثقافية محدودة الإمكانيات. وهي رغم أهميتها في المجال الثقافي المغربي، والدور الذي لعبته في تاريخنا الثقافي، إلا أنها في الوقت الراهن تمر بمنعطف صعب لم يسبق لها أن مرت منه ، مما يستدعي التفكير خلال مؤتمرها المقبل في إعادة النظر في قانونها الأساسي ، بما يضمن دمقرطة أجهزتها المسيرة و المقررة . إن تجديد آليات اشتغال اتحاد كتاب المغرب ، كانت مطروحة قبل الدستور الجديد ونتائج الانتخابات التشريعية، لكن مما لاشك فيه، ان تلك الظرفية تستدعي دينامية جديدة ، و وسائل عمل متطورة، وهذا يتطلب في نظري إعطاء الأولوية للبعد الديمقراطي في الهيكلة عن طريق: تقليص صلاحيات المكتب التنفيذي و حصرها في تنفيذ قرارات المجلس الإداري . توسيع صلاحيات المجلس الإداري و الرفع من عدد أعضائه المنتخبين ، باعتباره الجهاز التقريري بعد المؤتمر ، بما يضمن تجنيب المكتب التنفيذي أي جمود مثل الذي وقع . إثراء أسلوب العمل الجماعي عن طريق لجن وظيفية ، تكلف كل واحدة منها بعمل محدد ، تحت إشراف المكتب التنفيذي . مثلا لجنة وظيفية خاصة بمجلة آفاق و مطبوعات الاتحاد . لجنة و ظيفية خاصة بتفعيل صفة المنفعة العامة و هكذا .. بدون إعادة هيكلة الاتحاد ، لا يمكن الحديث عن مهام و مسؤوليات يمكن أن يضطلع بها في الوضع المغربي الراهن . إن ما عرفه اتحاد كتاب المغرب من جمود نابع من طبيعة الهيكلة التي جعلت المكتب التنفيذي هو الكل في الكل ، حتى إذا ما وقع مشكل بين أعضائه توقف عمل المنظمة . لذلك نأمل أن يتخطى اتحاد كتاب المغرب تلك العقبة في مؤتمره المقبل، لينصرف إلى العمل الثقافي الذي هو من صميم اختصاصه، لاسيما أن مسؤوليته في الظرفية الراهنة تقتضي إعادة الاعتبار للتنوير الفكري بنشر قيم الحداثة في مجتمع أصبح فريسة للنزعات الغيبية المتطرفة والمسلكيات الخرافية (قضية المهدي المنتظر وقضية الفرق الشبيهة بالكتائب الوهابية التي تسمح لنفسها بإيقاع العقاب في الشارع العام ضد المواطنين تحت ذريعة « الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر « على سبيل المثال). إن من مسؤوليات الاتحاد مواجهة المد الخرافي الذي يهدف إلى تديين السياسة و تسييس الدين و نشر فقه الحسبة ، في مواجهة حرية الإبداع الأدبي و الفني ، و مصادرة حق الاستمتاع بألوان الفن السينمائي و مختلف ألوان الفرجة . كل ذلك يستدعي من اتحاد كتاب المغرب القيام بدوره التنويري داخل المجتمع بتعزيز ثقافة القرب سواء عن طريق الأنترنيت أو عن طريق الشراكة مع المؤسسات التعليمية ، و دور الشباب وجمعيات الأحياء التي تشتغل في المجال الثقافي إلى غير ذلك من أنواع الشراكات الأخرى . { خلال مرحلة هامة من تاريخه ظل اتحاد كتاب المغرب في حالة تماس قوية مع الحياة الحزبية ببلادنا و صراعاتها ، أدمجته في حلبة نزال سياسي تحمَّل فيه مهام يقول البعض أن مبررات وجودها قد اندثرت اليوم . هل تعتقد أن استقلالية الاتحاد كهيئة ثقافية عن المؤسسة الحزبية قد صارت واقعا ؟ و ما ردكم على الذين يقولون إن اتحاد الكتاب عندما كف عن الارتباط بحلبة الصراع السياسي تحول إلى مجال لحرب المنافع الشخصية الصغيرة لبعض مسيريه ؟ تاريخيا كان اتحاد كتاب المغرب يعكس التنوع السياسي للمنظومة الحزبية الوطنية و الديمقراطية ، باعتبار أعضائه ينتمون إلى مكونات تلك المنظومة . وعند اشتداد الصراع من أجل الديمقراطية أصبح الاتحاد، هو الترجمة الثقافية للنضال السياسي الحزبي . و على هذا الأساس كان استقلال اتحاد كتاب المغرب يعني الاستقلال عن السلطة الحاكمة، في حين أن الأحزاب الوطنية كانت بالنسبة له تقع في نفس الخندق المدافع عن الحرية و الديمقراطية . من هنا لم تكن الاصطفافات الحزبية داخل الاتحاد تضع أمامه أي إشكال . وقد نتج عن هذا نوع من التوافق في توزيع المهام داخل المكتب المركزي على اساس التمثيلية الحزبية، و ظل الوضع على هذا المنوال ردحا من الزمن ، إلى أن بدأ الفرز الحزبي بين يسار و يمين . لكن ، عندما دخلت الأحزاب في توافق مع النظام السياسي و اقتعدت كراسي الحكم ، لم يعد أي منها يراهن على اكتساب موقع في الأجهزة المسيرة للاتحاد . لقد تركوا اتحاد كتاب المغرب يواجه مصيره . لذلك فإن على الاتحاد أن يعتمد على نفسه بتحصين استقلاليته سواء اتجاه الأحزاب أو اتجاه السلطة الحاكمة . في هذا السياق بإمكان اتحاد كتاب المغرب فتح حوار جدي مع المؤسسات الاقتصادية و المالية بالمغرب ، باعتباره حائزا على صفة المنفعة العامة و التي تسمح لتلك المؤسسات بدعمه ماليا حيث يجيز لها القانون بإدخال ذلك الدعم في بند المصاريف التي لها الحق في اقتطاعها من الأداءات الضريبية . { من الملاحظ أن وضعية الكاتب داخل المجتمع المغربي جد هشة ، بل تكاد تحتل موقعها في الهامش المنسي سواء لدى الدولة أو لدى المجتمع . ما السبيل في نظركم لفرض الوضع الاعتباري للكاتب المغربي و تقوية مكانته ؟ و من يتحمل المسؤولية بالضبط في هذا التهميش ؟ هل الدولة أم المجتمع أم الكاتب نفسه ؟ يستمد الكاتب الحقيقي مكانته الرمزية من إنتاجه الأدبي والفكري، لكن ذلك متوقف على فضاء المقروئية، أي على وجود قطاع واسع من القراء، و بالتالي قيام مجتمع قارئ، تشكل القراءة لديه تقليدا راسخا . فهل نتوفر على هذا المجتمع القارئ ؟ الجواب للأسف سلبي. والسبب الرئيسي هو انتشار آفة الأمية، التي تصيب تقريبا نصف المجتمع بالمغرب . يضاف إليها الفقر و الهشاشة . لنأخذ على سبيل المثال مؤشر قراءة الصحف . حسب إحصائيات الأممالمتحدة، فإن متوسط مبيعات الصحف بالمغرب في 2006 هو 13 نسخة لكل ألف نسمة. في حين في فرنسا يساوي 20 ضعفا مقارنة مع المغرب. إن السلطة السياسية لم تقم بمسؤوليتها في تحرير المجتمع من آفة الأمية ماعدا القيام ببعض الحملات التقليدية التي أثبتت التجربة عدم فعاليتها . هذا من جهة ، أما من جهة أخرى ، فإن السلطة الحاكمة لا تعطي للمسألة الثقافية الأهمية المطلوبة ، في حين كان يجب أن تعتبر الثقافة اختيارا استراتيجيا من اختيارات الدولة . للأسف فإن الأنظمة الشمولية ، التي عرفها تاريخ البشرية هي التي تعي الأهمية المركزية للمسألة الثقافية ، لكنها تستعملها في خدمة أنظمتها (على سبيل المثال الجدانوفية في عهد الاتحاد السوفياتي سابقا و النازية بألمانيا في عهد هتلر). { يرى البعض أن نتائج الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها ليست فقط نتيجة لمعطيات اجتماعية و سياسية ، بل هي دليل واضح على أزمة ثقافية في مجتمع متردد بين قيم التحديث وقيم التقليد . بل يرى البعض أن التصويت كان لصالح رؤية ثقافية أكثر منه لصالح برنامج اقتصادي . ما رأيك؟ لاشك أن مظاهر التقليدانية موجودة بالمجتمع المغربي ، لكنها بدأت تتقوى بالخصوص مؤخرا عبر تنظيمات تستغل الدين سياسيا. قبل سنة 2002 و خصوصا في أواخر التسعينات كانت هناك فرصة تاريخية لجعل المغاربة يلتفون حول شعارات اليسار ، الذي تسلم لأول مرة الحكم رغم الظرفية الصعبة ومقاومة التغيير من لدن لوبيات الريع الاقتصادي والسياسي . غير أنه في سنة 2002، بعد إقالة حكومة اليوسفي والخروج عن المنهجية الديمقراطية بتعيين وزير أول تقنوقراطي ، رغم أن الاتحاد الاشتراكي أحرز على الأغلبية النسبية في الانتخابات التشريعية ، ارتكب الحزب الخطأ القاتل بعدم ترتيب النتائج السياسية عن الخروج عن المنهجية الديمقراطية ، الأمر الذي كان يقتضي العودة إلى المعارضة ، وبدل ذلك شارك الحزب في حكومة خارجة عن المنهجية الديمقراطية ، و عوض أن يتراجع عن الخطأ الأول ، ارتكب الخطأ الثاني بالمشاركة في حكومة عباس الفاسي كل ذلك أدى اليسار ثمنه الفادح في الانتخابات التشريعية. لقد ساهمت أخطاء اليسار في تقوية النزوع نحو التقليدانية ، بينما استثمر دعاة التقليد وجودهم في المعارضة ، أي في الموقع الذي كان على اليسار أن يشغله في 2002 . من المؤكد أن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ليست نتيجة لبرنامج اجتماعي واقتصادي وسياسي، إنها محصلة مركبة من نزوع تقليدي في المجتمع ،غذته أخطاء اليسار الذي ظل على كراسي الحكومة طيلة عقد من الزمن بعيدا عن المخاضات التي تعتمل داخل المجتمع ، و هي أيضا نوع من التصويت العقابي . { من المفارقات التي تخترق مجتمعنا المغربي هو أنه في الوقت الذي توسع فيه هامش الحرية والديمقراطية، تراجع فيه النزوع التحرري لدى الأفراد الذين صاروا مشدودين أكثر إلى ثقافة محافظة تحد من حريتهم . ألا يدعونا ذلك إلى قلب المعادلة التي اعتمدها المغرب في صراعه من أجل الديمقراطية و التحديث ، و ذلك بجعل إنجاح ورش التحديث السياسي رهينا بنجاح ورش التحديث الثقافي؟ هذا الطرح يعيدنا إلى تذكر سؤال الإصلاح في سياقه التاريخي المغربي ، و كيف انطلق ببلادنا منذ منتصف القرن 19 على إثر هزيمة الجيش المغربي في موقعة إيسلي ، و حرب تطوان ضد الجيش الإسباني التي أدت إلى احتلال هذه المدينة . فلنتذكر جهود الحسن الأول لتوجيه البعثات الدراسية إلى أوروبا و تحديث بعض البنيات المخزنية ، وهي محاولات تزامنت مع إرسال بعثة مماثلة من طرف اليابان و أخرى من طرف الصين . لكن في الوقت الذي نجحت فيه التجربتان اليابانية و الصينية فإن مآل التجربة المغربية كان هو الفشل. ذلك أنه بعد عودة البعثة إلى المغرب واجهت عقلية متخلفة و خصوصا لدى فئة من العلماء المنغلقين ، الذين أفتوا بزندقة أفراد البعثة لارتدائهم الزي الأوروبي . و من المناسب هنا التذكير برأي الأستاذ جرمان عياش، حول أسباب فشل الإصلاح . و ما يهمنا منها هو ما سماه بالدور الحاسم في كل حركة إصلاحية ، و هو العامل الثقافي . ذلك أن الفكرة السائدة لدى مغاربة القرن 19 حسب جرمان عياش لم تكن فكرة التقدم ، بل فكرة التقهقر ، فكرة من يرون على حد قول عبد الرحمن بن هشام أنه « فسد الزمان و أهله ، فلا حول و لا قوة إلا بالله « . إذن .. لابد من ورش التحديث الثقافي أولا، لإنجاح ورش التحديث السياسي ، و لا سبيل إلى ذلك التغيير إلا عن طريق ما يسميه غرامشي ب» الهيمنة الثقافية « بدل فكرة « السيطرة « التي يقوم عليها الفكر الماركسي . و المؤهلون لإحداث تلك الهيمنة الثقافية هم المثقفون العضويون حسب تعبير غرامشي .. { يرى البعض أن وزارة الثقافة فشلت في تدبير السؤال الثقافي ببلادنا ، بل ربما لم تهتم به أصلا، و يطالب البعض بإلغائها من الهيكلة الحكومية . ما هو تصوركم لهذا الموضوع؟ فعلا فإن وزارة الثقافة فشلت في تدبير السؤال الثقافي ، لكن ذلك ليس مدعاة لإلغائها . إنها بغض النظر عما طرحتم تشرف على حماية التراث المعماري والأثري و الإثنوغرافي والمتحفي ومختلف الثروات الفنية الوطنية، والحفاظ عليها وترميميها . إن فكرة إلغاء وزارة الثقافة، في غير محلها، خصوصا وأن عددا من الدول الديمقراطية مازالت تتوفر على وزارة للثقافة . ونعطي مثالا من دولتي الجوار المتوسطي إسبانيا و فرنسا، فإنهما مازالتا محتفظتين بتلك الوزارة رغم تغيير الاسم حسب التشكيلات الحكومية المتوالية، حيث أصبح اسمها في إسبانيا وزارة التربية والثقافة، وفي فرنسا وزارة الثقافة و الاتصال. لذلك، بذل الإلغاء، فإنه يتعين تفعيل دور تلك الوزارة في نطاق اختصاصاتها حسب ما تحدده لها النصوص القانونية المنظمة لها . ولا سبيل إلى ذلك التفعيل إلا بتزويدها بالإمكانيات المالية الكافية . فمثلا : من اختصاص الوزارة إحداث وتسيير المؤسسات الثقافية للتأهيل والتعليم الفني و الثقافي . و هذا يحتاج إلى ميزانية كافية لتنفيذ ذلك . نفس الشيء نقوله بالنسبة لتطوير وتنمية مجالات المسرح والموسيقى و فنون الرقص والفنون التشكيلية والفنون الشعبية وغيرها من الأمور التي تضطلع بها مديرية الفنون . نفس الشيء بالنسبة للخزانات والنهوض بالكتاب وطبعه ونشره وترويجه، ودعم شبكة الخزانات العمومية، والنهوض بالقراءة العمومية من خلال حافلات القراءة والمكتبات المتنقلة، والعمل على ترجمة الإبداعات الثقافية، فهل تتوفر مديرية الكتاب وغيرها من المديريات الأخرى بالوزارة على الإمكانيات المالية لإنجاز ما سبق ذكره؟ لكن قبل ذلك و بعده، هل هناك استعداد لدى السلطة الحاكمة، لإعادة النظر في مفهومها السطحي للثقافة ودورها في المجتمع؟ هل تتوفر الإرادة السياسية الحقيقية لجعل الثقافة ضمن الاختيارات الاستراتيجية للدولة المغربية؟ تلك هي القضية الأساسية والباقي مجرد تفاصيل.