هل كان الاتحاد السوفياتي يقف وراء الانقلاب العسكري الثاني بزعامة الجنرال أوفقير؟ خبر قد يثير الاستغراب بحكم أن الاتحاد السوفياتي المنحل لم تسبق الإشارة إليه نهائيا في الكثير من الروايات التي تطرقت إلى الإنقلابين الفاشلين سنة 1971 و 1972 رغم الحديث في أكثر من مناسبة عن علاقة ما ربطت بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالقادة العسكريين الانقلابيين. هذا الخبر أوردته جاسوسة أمريكية شهيرة وهي الدوقة آلين رومانونيس في كتاب لها معنون ب «المؤامرة المغربية» وتعتبر أن الجنرال أوفقير كان وراء الانقلاب الثاني الفاشل وكان المذبوح والكولونيل اعبابو يخضعان لأوامره, وإن كان قد نجح في التغطية والتستر على علاقاته بالاتحاد السوفياتي بشكل أثار إعجاب المخابرات الأمريكية ,كما نجح في أن يجعل الحسن الثاني يثق فيه بشكل أعمى. لعل الذي غاب عن الكثير من الباحثين في الروايات المتعلقة بمحاولتي الإنقلابين العسكريين هو البعد الدولي، بمعنى مشاركة دول أخرى وخاصة الدول الكبرى بشكل مباشر أو غير مباشر في المحاولتين. والمثير أن مشاركة دول كبرى في الانقلابين عامل بقي مهملا للغاية رغم أن العالم كان يعيش حربا باردة وصراعا قويا بين موسكووواشنطن لبسط نفوذهما في مختلف البقاع وخاصة الهيمنة على المناطق الإستراتيجية ومن ضمنها المغرب. وكانت هذه العملية إما تجري بطريقة سلمية من خلال تعزيز العلاقات الدبلوماسية أو التفكير في الانقلابات. ولهذا، فعقد السبعينات شهد أكبر نسبة من الانقلابات في العالم خلال القرن العشرين، وكلما كان يقع انقلاب يجري الترحيب به من هذا المعسكر أو الآخر. ويبقى المغرب بموقعه الجغرافي خاصة في جبل طارق منطقة استراتيجية تخطب وده الكثير من الدول. ولهذا كانت واشنطن تعمل جاهدة على الإبقاء على نفوذها العسكري في المغرب وتترك لفرنسا النفوذ الاقتصادي وتحول دون تسرب الاتحاد السوفياتي واستقطاب مسؤولين مغاربة. الكثير من المعطيات تجعل من رواية الجاسوسة الأمريكية ألين رومانونيس ذات مصداقية، وهي خمسة معطيات أساسية، الأولى تتعلق بالتوجه اليساري الخفي للكثير من القادة العسكريين المغاربة، والثانية التنسيق بينه وبين اليسار في لحظات معينة، والمعطى الثالث جاهزية الأسطول السادس الأمريكي للتدخل في المغرب عند كل محاولة انقلابية ثم نفسية الجنرال أوفقير الذي كان يشعر بخيبة الأمل من الغرب وهو ما كشفه تقرير أمريكي وأخيرا تقرب الملك الراحل الحسن الثاني من موسكو ابتداء من المحاولة الانقلابية الثانية. الجاسوسة الأمريكية, صاحبة أطروحة تورط الاتحاد السوفياتي في الانقلابين العسكريين هي جاسوسة أمريكية، تعتبر مرجعا لوكالة المخابرات الأمريكية. اسمها الحقيقي ألين غريفيت وولدت في نيويورك سنة 1923، واستقطبها جهاز المخابرات الأمريكي سنة 1943 عندما كان يعرف وقتها ب OSS وأرسلها للعمل في شركة أمريكية للبترول في مدريد كغطاء له، ونفذت عمليات جريئة في الحرب العالمية الثانية. وعندما أصبحت المخابرات في هيئة جديدة والمعروفة حاليا بوكالة الذكاء الأمريكي C.I.A استمرت في التعاون معها حتى سنة 1986، تاريخ انسحابها النهائي بعد عملية استخباراتية في السالفادور. استطاعت الزواج من دوق اسباني سنة 1947 وهو لويس رومانونيس أحد أكبر نبلاء هذا البلد الأوروبي وكان يعرف هويتها جيدا، وهو الزواج الذي فتح لها أبواب العائلات الملكية والأرستقراطية في أوروبا ومنها نحو القصر الملكي المغربي, حيث ربطت علاقات قوية بالملك الحسن الثاني ومحيطه. وكانت زوجة الجنرال فرانكو، كارمن فرانكو هي التي قربتها من محيط الملك الحسن الثاني. هذا الزواج والمكانة الإجتماعية الجديدة جعلها تنفذ عمليات بين الحين والآخر على مستويات عالية جدا. آلين رومانونيس وبعد انسحابها سنة 1986 حصلت على ترخيص من وكالة المخابرات الأمريكية للحديث عن بعض عملياتها, لكن بدون تقديم الكثير من المعطيات التي تمس طرق عمل الوكالة أو تكشف عن هوية الكثير من الشخصيات الثانوية التي اعتمدت عليها المخابرات وربما تستمر في التعامل معها. آلين رومانونيس التي لا تخفي تاريخها وتفتخر بأن ما قامت به كان لصالح «الحرية ضد المعسكر الشرقي» كتبت خمسة كتب حتى الآن في قالب يجمع بين التقرير المخابراتي والأسلوب الروائي. واشترت شركة أونفرسال الأمريكية كتبهما لتحويلها إلى سلسلة من الأفلام ومن ضمنها كتاب «المؤامرة المغربية» التي كان ينوي المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ تحويله الى فيلم لكنه لم ير النور حتى الآن. مصادر متعددة ومقربة حتى من القصر الملكي المغربي وقتها أكدت أن آلين رومانونيس كان يتم استدعاؤها للمغرب بين الحين والآخر لحفلات الصيد وبعض المناسبات الوطنية، وربطت علاقة طيبة مع الكثير من الشخصيات وإن كانت بعض أطراف النظام لا ترتاح لها لأنها كانت تعتبرها جاسوسة. وتبرز في كتابها «المؤامرة المغربية» أن صديقا مغربيا مقربا تسميه «رشيد» كان قد أخبرها بمعطيات حول التخطيط للانقلاب قد تعرض للتصفية في ظروف غامضة وتعتقد أن أوفقير كان وراء عملية القتل، كما تشك في تصفية ضابط مغربي كان مقربا من العملاء الأمريكيين لقي حتفه بشكل مثير في انقلاب الصخيرات. تبرز آلين في كتابها أن الاشتباه في وجود ليبيا والاتحاد السوفياتي وراء العملية الانقلابية سنة 1971 كان معروفا بشكل نسبي من طرف المخابرات الأمريكية التي حصلت على تقرير عبر وساطة إسبانية كان في حوزة دبلوماسي مغربي سربه أحد الدبلوماسيين الليبيين (يعتقد أنه أحد أنصار الملكية الليبية التي كان قد أطاح بها معمر القذافي سنتين قبل انقلاب الصخيرات) ويتضمن لائحة أسماء مكتوبة برموز سرية لضباط مغاربة يعلمون على الاعداد لانقلاب عسكري. وتؤكد آلين رومانونيس أن بعض المغاربة كانوا يعرفون جيدا ما يدور من تخطيط للإنقلابات، ولكنهم لم يكونوا يجرؤون على إخبار الملك الحسن الثاني لسبب بسيط، ويتجلى في صعوبة لقاء الملك وبالتالي ضرورة المرور عن طريق وسطاء قد يكونون بدورهم متورطين أو عملاء لرجال نافذين في الدولة. وتؤكد أن كل من تجرأ وحاول إخبار الحسن الثاني كان يعرض نفسه لاحتمال التصفية الجسدية. فالمعادلة سهلة، مسؤول ما يتهم آخرين بالتخطيط للإنقلاب يعني تعريضهم لخطر الإبعاد من محيط الملك وقد يتطور الأمر الى الاعتقال والسجن وربما حتى التصفية من طرف النظام، ويذكر أن الوحيد الذي كان يتجرأ علانية على اتهام أوفقير مثلا هو الدكتور الخطيب. (الترجمة الإسبانية للكتاب) وعلاوة على التقرير، تكتب رومانونيس أن المخابرات الأمريكية حصلت من عميل لها من وسط المخابرات السوفياتية على نص برقية بعث بها مسؤول ما (يعتقد أنه ضابط عسكري رفيع المستوى) إلى جهة في الخارج ووصلت إلى موسكو وتتضمن العبارة التالية « الحاج ومجموعته سيتوجهون إلى مكة خلال عشرة أيام». وبعض فك رموز هذه الشفرة، تبين أن هناك مخططا لبعض الضباط لاغتيال الملك الحسن الثاني خلال رحلة صيد, كان هناك الكثير من المدعوين لها ومن ضمنهم زوجة الجنرال فرانكو التي كانت مصحوبة بآلين رومانونيس. هذه الأخيرة لا تستبعد أن كوماندو أجنبيا كان سيشارك في تنفيذ العملية كذلك لتكون هناك مفاجأة كبرى، بمعنى زرع الفوضى وتمكين الضباط ذوي النزعة الانقلابية من السيطرة على مقاليد الحكم بسهولة. وتؤكد أن حساسية التقرير ومصداقية معطياته دفعت المخابرات الأمريكية الى العمل على منع الإطاحة بالنظام الملكي المغربي لأن المغرب حليف رئيس للولايات المتحدة في إفريقيا والعالم العربي والعالم. ونجاح كل انقلاب عسكري يعني حرمان الولاياتالمتحدة من قواعد عسكرية مهمة، مع ما يترتب عن ذلك من تغيير المناخ السياسي في شمال إفريقيا وأن نظاما عسكريا يساريا يمكن أن يسبب الكثير من المتاعب ليس فقط للولايات المتحدة وإنما لدولة مثل اسبانيا. وتكشف آلين رومانونيس في كتابها المترجم إلى الإسبانية منذ سنوات أنها بعض استشارة شخص ذو ثقة, نصحها بإبلاغ الأمير الراحل مولاي عبد الله حتى يخبر شقيقه الحسن الثاني لأنه الوسيط الأمين. وتنشر في الكتاب الحديث الذي دار بينها وبين الأمير مولاي عبد الله عندما أطلعته على مضمون ما يجري، البرقية والتقرير، فأكد لها أن «القصر» يتوصل بالكثير من الشائعات وبعضها تكون بدافع الإنتقام وأنه لا جدوى من إزعاج شقيقه الملك إذا لم تكن هناك معطيات دامغة. وتضيف أن الأمير تغير عندما ذكرت له أنه من ضمن الأشخاص الذين كانوا يعرفون خبر التخطيط للإنقلاب شخص ثقة اسمه عبدول مات في ظروف غامضة للغاية. خبر مقتل هذا المغربي الذي لا تكشف عن هويته جعل الأمير مولاي عبد الله يهتم كثيرا بالموضوع لأنه يعرف الشخص وجعله يشتم رائحة وجود خطر حقيقي لكنه في ظل غياب أدلة قوية لا يمكن اتهام القادة العسكريين بالتخطيط للإنقلاب في ظرف كانت تمر منه البلاد بتوتر مع الجزائر. واتفقا على استمرار الاتصال بينهما عبر وسيط كان الأمير يثق فيه، وهو شخص رباه الملك الراحل محمد الخامس وأصله من الصحراء، كما أن الحسن الثاني يثق كثيرا فيه. وتعتبر آلين رومانونيس أنه رغم جميع المحاولات التي أبدتها المخابرات الأمريكية للتوصل إلى العقل المدبر وإخبار الحسن الثاني بشبكة الضباط الذين ينسقون مع ليبيا والاتحاد السوفياتي إلا أنها فشلت في ذلك، ووقع الإنقلاب الشهير بكل ما خلفه من قتلى وجرحى وضربة قوية للملكية المغربية. وشارك في محاولة رصد خيوط الضباط المغاربة الانقلابيين عدد من عملاء ومسؤولي المخابرات في مختلف العواصم، الرباطومدريد أساسا ثم الجزائر وبيروت وباريس ضمن أخرى. فالمخابرات كانت تعي جيدا أن عملا من هذا النوع في بلد مثل المغرب تتواجه وتتصارع فيه الكثير من أجهزة الإستخبارات العالمية يتطلب اتصالات معقدة وعلى مستويات مختلفة حتى لا يتم رصد الشبكة الحقيقية للانقلابيين. تبرز آلين رومانونيس أن التحاليل التي قامت بها المخابرات الأمريكية، ونعني في هذا الصدد، القسم المتخصص في شؤون شمال إفريقيا رفقة العملاء الذين كانوا في المغرب لم يقتنعوا أبدا بأن الجنرال المذبوح كان هو العقل المدبر للانقلاب الأول الذي جرى تنفيذه في الصخيرات يوم احتفال الحسن الثاني بعيد ميلاده. وتبرز في فقرة من كتابها ويتعلق الأمر بجلسة أجرتها مع بيل كاسيي الذي سيصبح لاحقا مديرا المخابرات الأمريكية في عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان «وقال بيل كاسيي: هناك أمر لا معنى له وغير مفهوم. الجنرال المذبوح ليس من طينة الرجل الذي يمكن أن يتزعم مؤامرة. فمنصبه العسكري لا يخول له السلطة الكافية والتأثير اللازم على عدد كبير من الجنود لتحريكهم. فالتجربة علمتني أنه عندما يكون هناك عدم استقرار وسط الحكم، فالعادة أن هناك حوتا كبيرا (شخصية نافذة) وراء كل شيء، بطبيعة الحال أكثر من المذبوح... ونظر إلي وهو يشرب السيجارة ويحرك شفيته، تعبير يصدر عنه عندما يكون في تفكير عميق، ثم خاطبني: - الأمر لن ينتهي هنا. أراهن أنه سيحدث شيء درامي من هذا النوع في المستقبل القريب». وكان السفير الأمريكي في الرباط، روكويلير نبه وزير الخارجية الأمريكي وقتها ريتشارد نيكسون أنه لا يجب الثقة في تصريحات الجنرال أوفقير عندما يؤكد أنه موالي للغرب، فهناك شكوك كثيرة حول صحة كلام الجنرال وأن تصرفاته تدعو للريبة كثيرا. ورغم تركيز عملاء المخابرات الأمريكية على رصد تحركات الضباط المغاربة إلا أنهم اصطدموا بحاجز لا يمكن تجاوزه ويتجلى كما تكشف رومانونيس في «الثقة العمياء التي كان يضعها الملك الحسن الثاني في الجنرال أوفقير». هذه الثقة هي التي جعلت الجنرال يخطط للمحاولة الانقلابية الثانية بهدوء وأحيانا علانية عندما كان يعقد لقاءات مع ربابنة سلاح الجو ويحاول نسج علاقات مع اليسار. وتكتب الدوقة رومانونيس أن المحاولة الإنقلابية الثانية التي حاول تنفيذها الجنرال أوفقير وفشل فيها, كشفت وقتها أن الاتحاد السوفياتي يقف وراء أوفقير ووراء المحاولة الفاشلة. كتاب رومانونيس يعتبر أن عملاء الاتحاد السوفياتي استطاعوا التغلغل في الكثير من أجهزة الدولة المغربية وتركز بالخصوص على جاسوس عرف بالكثير من الأسماء مثل ميشيل ديبون وميشيل دي بونفيل وكان اسمه الحقيقي هو ميخائيل ألماطوف، كان يقدم نفسه على أساس أنه مواطن فرنسي. وجرى إعداده من طرف جهاز المخابرات الشهير «كا جي بي»، حيث تعلم التقاليد الفرنسية ونسب نفسه إلى منطقة في ألزاس لوريس وكان يتسرب إلى الكثير من الدول العربية بصفته فرنسيا. وتعتبر أن هذا الجاسوس قام بأدوار معينة في نسج علاقات مع بعض القادة العسكريين والتأثير فيهم كما استطاع الوصول إلى دواليب الدولة عبر إمرأتين، الأولى تسميها صاحبة الكتاب فاطمة والثانية سليمة، كانتا على علاقة قوية بمختلف مستويات الحكم في الرباط. وهذا المعطى يدل على الأهمية الكبيرة التي كان يوليها الاتحاد السوفياتي للمغرب، أي معرفة ما يجري فيه وإمكانية تعزيز النفوذ أو تغيير الحكم. واستطاعت واشنطن معرفة تفاصيل دقيقة حول تورط أوفقير مع الاتحاد السوفياتي من خلال استنطاق دقيق لعميل من «كا جي بي» كان يعمل لصالح المخابرات الأمريكية ولجأ الى الولاياتالمتحدة ويسمى سيرج لبديف. وكشف هذا الأخير أن أوفقير كان ينسق مع الليبيين عبر المخابرات السوفياتية، ولجأ الى حيل دقيقة حتى لا تنكشف هويته من طرف المسؤول الرئيسي للمخابرات السوفياتية في الرباط ولا من طرف أي عملاء جهاز مخابرات أجنبي أو مسؤولين مغاربة وأنه كان على اتصال بالمخابرات السوفياتية خلال السنتين الأخيرتين عبر قنوات معقدة. وتبرز رومانونيس أن سي آي إيه وقتها أدركت لماذا تغاضى الجنرال أوفقير عن السماح لعميل سوفياتي من مستوى عال جدا بالتسرب الى اسبانيا انطلاقا من المغرب دون إخبار اسبانيا ولا الولاياتالمتحدة ,لأنه كان يرغب في السيطرة على المعلومات لحماية نفسه وتقديم خدمات لموسكو مقابل دعمها للإنقلاب.