- 1 - الجهات الخمس : المرابطي من الباحثين تشكيليًا عن ما قًلًّ ودًلًّ من الصور والعلامات، وكان لافتا لمشاعر الخلق ، محيرا لأذهانهم ، لغزا يراودهم في حالة السراء والضراء، فالقليل من اللمسات والنادر من الإشارات يكفي لتأثيث قطاعات واسعة لاتستوعب حدودها العين، وبالتالي يطول الكلام عنها وفيها دون أن يفي بالغرض المطلوب. لكن اللوحة تستغني عن معايير الكثافة والقياس والحجم ، وتضع كل هذه العدة جانبا، وعلى وجه السرعة تجر العالم من خناقه، تطرحه أرضا كبساط قديم يثلج العين بأضوائه الكاشفة. * الرجل يفعل فعلته وينسحب إلى الخلف، تاركا للآخرين إمكانية إعادة تمثيل الحالة وتسجيل الموقف، انطلاقا من قناعة ذاتية صرفة مستقلة عن أي توجيه مسبق، قد يضرب نزاهة المشهد برمته في الصميم، لكنه وهو بصدد تنزيل هذه الصنعة المحفوفة بشتى المخاطر على خشب أو قماش أو ورق يتسلح بقدر لا يستهان به من الصمت. إنه الصمت المرتفع ، الطالع توا من جهة ما في القلب يصعب على كل لسان مهما بلغ شأنه ترسيم موقعها بالإسم : هل هي شرق أم غرب أم شمال أم جنوب القلب ؟ ما موقعها بالضبط ؟ ! أم أن القصة وما فيها تجري خارج حدود بوصلة الجهات الأربع التي تحاصرنا ليل نهار، وكأن أرض الله غير واسعة. أو لكأن جهة ما خامسة ليست في علم أحد قد تكون طور الكمون وإن فرشاة الفنان لقادرة على استجلاء خطواتها الأولى نحو النشوء والنبوغ والارتقاء بغية ألا تبقى خارج نطاق سيطرة اليد واكتشافاتها الخالدة. بصمت أعلى : المرابطي في غنىً شبه تام عن كلامه وعن كلام الغير، يمر بصمت يفكر بصمت يدخن بصمت أعلى يرسم بأقدم الأبجديات حرصا على الصمت. وهو من خلال فصاحة الصمت هذه ، يهيئ المتاه بل يحفزه كي ينمو ويتراكم على بعضه إلى أن يطفح الكيل، ويصل السيل زباه. والمرابطي هو المرابطي لا يتزحزح قيد أنملة أمام رطل الكلام المتحين فرصةً ثمينةً لتنغيص الأعصاب دون رحمة أو شفقة. وفي خضم هذه المنازلة غير المتكافئة أصلا، يفضل المرابطي البدء والختم بتكميم الأفواه تارة وترميم الشقوق وسد الثقوب تارة ثانية، أعني تلك التي يدخل منها الكلام على عواهنه ليلقي بظلاله المعدية خلسة في جنة الصمت ، فيصيبها بالهذيان. لكن المرابطي بالمرصاد يحرص مملكته بالليل والنهار ، يضيئها بألوان في مقتبل العمر. يخاف عليها أكثر، وعلى هذا الأساس يضعها في عينه، مستوعبا كنوزها عن قرب، وعلى الراغبين في تقاسم مفاتيحها لزوم الصمت.وتعصيب الآذان فلا طائل من الكلام ولا خير يُرجى من السمع، يُستحسن في هذا السياق أن يجرب الواحد في لقطة عابرة، أن يصير أصم أبكم على سبيل المثال فحصريا في هذه اللحظة لا غير، يتأتى الإحساس العميق بشعرية الإشارة أكثر وجمالية الرموز ونشاط الحركات وحيوية السكنات فكل من جانبه وموقعه يقول كلمته المختارة بعناية من القاموس الفصيح للأوان، في إعرابٍِ بليغ عن رغبة عارمة تروم تأهيل البصر والبصيرة لنقل حرارة الصورة بحذافيرها حيةً دون أعطاب تذكر. - 2 - أرض منزوعة البشر : أعمال المرابطي في مجملها استحضار وجداني لأزمنة وأمكنة غابرة، سكنت أدهاننا بقوة وهجرتها بنفس القوة أو تزيد . وهي لا يضيرها في شيء تعليق سؤالها الوجودي إلى حين غير مسمى، ذلك أن البقية الباقية في حوزتها من نَفْسِِهَا الأبية وإن كانت طي الكتمان أو تعيش وراء الأستار في كمون ، فإنها تشكل بمفردها منجزا متميزا في البناء والإعمار، يأخذه الحنين باستمرار إلى سابق عهوده المشبعة، إلى حدود اليوم والساعة، حتى نخاعها بنزعة البقاء على قيد الحياة . حتى ولو تعلق الأمر بالعيش في متاهات بالجملة، وعلى أراض منزوعة البشر والضمير إلا من بقايا آثار ورسوم ومآوي للأولياء، وخيام للصالحين كلها جنبا إلى جنب، تشكل ناراً على عَلَم. النار التي ستأتي وإن طال الزمان على الأخضر واليابس من الطالحين، هؤلاء الذين تخلوا عن أبسط مسؤولياتهم تجاه من سبقهم إلى الحياة، وأقلها رفع حالة الإهمال الذي يرقى إلى مستوى التشفي عن أضرحتهم ومستقراتهم بالعناية وفق المستحق ، وهذا أخَفُ ما يُطلب كأضعف الإيمان. لأصابعه قوة دفع خماسي: لا ننسى كون المرابطي، يتمتع بأكثر من عين تتسع بما رَحُبَت، وبأكبر الأصابع ميلا إلى النبش في صُرة الأسرار المتوارثة أباً عن جد، يعجبني الرجل حين يترك باب التصرف أمامها مفتوحا من جهتين : أولا : لاختيار ما يناسب تطلعاتها في بناء وجهة نظر قادرة على توليد الصور وتهييج معانيها، في سياق محكوم بثنائية قطبية، يطبعها الأخذ والرد، ومعنى الحضور والغياب، وسؤال الموت والحياة وأيهما الأولى بجواب شاف، من شأنه تهدئة الأوضاع سلميا بما يخدم حالة النفس ويرقى بها تدريجيا نحو التحسن من مكفهرة إلى صافية ومن هائجة إلى قليلة الهيجان ، وهكذا دواليك ، فبين الكثرة والقلة وبين تخفيف ما نزل ما أمكن، وتكثيف ما يمكن، يَتَحقق صدق التوقعات نصب العين، بتكامل الأضداد، وتعايش المفارقات على اختلاف مشاربها وعقدها، تحت سقف واحد، بعنوان واحد، هو سقف اللوحة وعنوانها المتعالي عن الأرض بسنوات عديدة. ثانيا : لاختيار مدى لياقتها على الإقلاع في سماوات الإبداع، ومسح الأجواء، ثم الهبوط بعد ذلك كله على المدرج الآمن لأرواحها الهندسية. لم لا..؟ فلعيون المرابطي سالفة الذكر أَجْنحةٌُُُُ وفي أصابعه قوةُ دفع خماسي، وعليه فمعظم طلعاته الفنية مباركة لا تخيب الظنون، سيما وأنها تتم في أجواء مقدسة، تفوح بعطر وجدان وثيق الصلة بشجرة أنسابه الشريفة، هي ما يسعفه حقًا، في التنقل بخفة فراشة، من فكرة إلى فكرة، و من مرتفع إلى منخفض، ومن سهل إلى معقد عن الإحاطة والإلمام. صمت الأبجدية وصوت الصورة: يكفي تحناوت فخرا بل يكفيها رسما.هي المحظوظة عن باقي الأصقاع والنواحي، لأن رجلا هو المرابطي ذاتاً وصفاتاً اختار بمحض فنه المُقام بين ظهرانيها في مَقَام يكاد يكون موسيقيا ثريا بالألحان، أو بالأحرى الألوان، حين تنزل على النفس خيرا وسلامًا يرميان إلى توازن الأبجدية والصورة وهما يتعانقان في وئام، يرفع مقام تحناوت كمدينة بحجم الكف إلى مصاف وطن واسع الذكر لا تغرب عنه الألوان. أو إلى سمفونية مرئية تتوجه إلى العين قبل الأذن ، وبذلك يكون من رأى، ومن لمس، ومن ذاق، هو غير من سمع عن مقام المرابطي المرفوع في صحة المدينة إلى آخر جرعة في النهار أو في الليل، أو في كأس واسع النظر هو يقيناً كأس المرابطي الشفاف بنصفيه المليء والفارغ زيادة عن اللزوم .