لحظة مؤثرة تلك التي انهمرت فيها دموع منصف المرزوقي وهو يلقي أول خطاب له كرئيس لجمهورية تونس. فالرجل الذي وهب نصف قرن من حياته مناضلا من أجل الحرية، وعقدين معارضا لنظام بنعلي ، لم يكن يتوقع أنه سيقف أمام ممثلي شعبه ليؤدي القسم رئيسا لمهد ثورات الربيع العربي. لكن بيتي الشاعر أبو القاسم الشابي في انجلاء الليل وانكسار القيد حافظا في دواخله على الأمل ...الذي حققته ثورة 14 يناير هذا العام. لحظة مؤثرة وهو يجيل النظر في هذا الطيف السياسي الذي يتشكل منه المجلس التأسيسي، ويبدو أنه استعاد، وهو يؤدي القسم، أبرز محطات حياة نهلت من كل مظاهر القمع والمعاناة والاضطهاد.. لقد اختطف في عهد بنعلي وعذب وزج به في السجن أكثر من مرة، وفرضت عليه الإقامة الجبرية وسحب منه جواز سفره وحرم من حقوقه المدنية والسياسية وتوج ذلك بنفيه خارج تونس في سنة 2001. حياة منصف هي امتداد لحياة والده محمد المرزوقي، الفقيه والمربي والصحفي والمقاوم ضد الاستعمار الفرنسي ، شخصية ربطت وشائج الصداقة مع الملك محمد الخامس في عقد الخمسينيات عندما كان يحل بالمغرب لينسق بين جلالته والحركة الوطنية التونسية وأساسا مع صالح بن يوسف الذي اغتيل سنة 1961. لم يجد والد الرئيس التونسي الحالي من خيار واسمه على لائحة اغتيالات يقال إن الرئيس بورقيبة وضعها للتخلص من خصومه، لم يجد من خيار سوى لجوئه إلى المغرب ليقضي فيه أكثر من ثلاثة عقود إلى أن أسلم الروح لباريها ودفن بمراكش «المغرب بلدي الثاني إلى يوم يبعثون»، هكذا يلخص منصف علاقته ببلادنا، ليس لأنها المثوى الأخير لمحمد المرزوقي فقط، بل لأنه «استضاف والدي المضطهد ، وفتح لعائلتي المشردة أبوابه واسعة وغرفنا من كرمه ومن حسن وفادته». فبين مراكش وطنجة ترعرع الرئيس الحالي وتلقى تعليمه قبل أن يسافر إلى فرنسا طالبا سنة 1964، ليحصل سنة 1973 على الدكتوراه في الطب ويعود سنة 1979 إلى بلده تونس. في بداية التسعينات زارنا منصف المرزوقي بمقر الجريدة وكان رئيسا للرابطة التونسية لحقوق الإنسان وهو في طريقه للمؤتمر العالمي لحقوق الانسان بفينيا، يحمل معه خارطة مأساوية حول الوضع ببلاده وأهدانا عددا من نسخ مؤلف جديد تم نشره من طرف أصدقاء له بالمغرب بتمويل من الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي. وكنت ولاأزال قارئا لكتبه ومقالاته وحواراته. التقيته قبل ذلك ، وبعد ذلك في أكثر من مناسبة بتونس ، إلى جانب الاساتذة خميس الشماري الذي ترأس الرابطة وهو اليوم سفير تونس باليونسكو، و مصطفى بنجعفر الذي يترأس حاليا المجلس التأسيسي (إلتقيته في شتنبر الماضي أثناء حضوري لمؤتمر الرابطة) . الذين يعرفون منصف المناضل والحقوقي ، لم يجدوا فرقا وهم يستمعون لكلمته الاولى وهو رئيس لتونس. رجل في جمله جرعات حقوق الإنسان، وفي نظراته الصدق بإيمانه بها. فتحية له وكل الدعاء بأن يتوفق في مهمته من أجل تونس الديمقراطية ،ومن أجل بناء المغرب الكبير, فضاؤه الفكري والروحي.