لا يتردد فيليب ميريو، أحد أبرز الباحثين الفرنسيين في حقل التربية، في وصف نفسه ب « المناضل البيداغوجي «. وبالفعل ، وبالإضافة إلى عمله في أسلاك مختلفة من التعليم ، أصدر ميريو العديد من المؤلفات وشارك في تنظيم عدد لا يحصى من الندوات كما ساهم في إنتاج أفلام وبرامج تلفزيونية تهتم كلها بمجالي التربية والبيداغوجيا . وإذا كان فيليب ميريو، الذي يدعو إلى «بيداغوجيا مفارقة» ، يدرس الآن علوم التربية في جامعة ليون 2، فقد عين مديرا ل«المعهد الوطني للأبحاث البيداغوجية» سنة 1998، لكنه لن يمكث في هذه المؤسسة أكثر من عامين، إذ سيقدم استقالته من إدارتها احتجاجا على الإكراهات التي واجهته في أداء مهمته . ومن بين أهم ركام مؤلفات فيليب ميريو نذكر على سبيل المثال «التعلم... نعم، لكن كيف»، «البيداغوجيا بين القول والفعل»، «المدرسة أو الحرب الأهلية» (مع مارك غيرو)، «المدرسة كآلة»، بالإضافة إلى «نظرتان للمدرسة «. في المقال التالي يصوغ فيليب ميريو 32 مقترحا مؤسسا لأفق التربية الديمقراطية والتكوين على المواطنة. 1 التربية ليست سيرورة صناعية، بل هي مرافَقَة لانبثاق ذات حرة. ولذا لا يمكن إخضاع أي نظام تربوي ل « واجب النتائج». وبالمقابل، فهو ملزم ب « واجب الوسائل « وبضرورة الكشف، بشفافية، عن كل الوسائل التي يوظفها بهدف مواجهة الفشل المدرسي، هذا الفشل الذي يخلق أزمات فردية واجتماعية ويرهن مستقبل المجتمع، كما يولد تكلفة اجتماعية باهظة مع مرور الزمن . 2 في رحاب المجتمعات الديموقراطية، ترتبط التربية جوهريا بالتربية على الديموقراطية: إنها تُكَوِّن مواطنين قادرين على فهم العالم، والتحديد الجماعي للمنفعة المشتركة، والعمل من أجل إقرار تضامن أوسع بين الناس وبين الشعوب. 3 التربية مسؤولية جماعية أمام المستقبل، وهي تُكَيِّف مآل العالم. يتحمل، جماعيا، هذه المسؤولية كل من الوالدين، المدرسين والأطر التربوية، الجمعيات، الرجال والنساء العاملين في حقل التواصل، الفنانين، وبشكل عام مجمل النسيج الاجتماعي. إن « المشروع التربوي « شأن يهم الجميع في المجتمعات الديمقراطية، وعلى كل واحد المساهمة فيه . 4 نظرا لكون التربية تحدد مستقبل الديمقراطية ومصير العالم، فإنه لا يمكن إخضاعها للمنطق التجاري، ولا للمصالح القصيرة المدى للقوى الاقتصادية. ولأن هدفها يتجسد في تكوين مواطنين، فالتربية غير خاضعة لواجب النتائج، كما لايجب قياس مردوديتها باعتماد معايير التنافسية . 5 يفترض تقييم جودة التربية استحضار قصديات هذه الأخيرة. هكذا، وبالإضافة إلى المستوى الدراسي للتلميذ، يجب إدماج المؤشرات المتعلقة بالتكوين على المواطنة في مثل هذا التقييم، مؤشرات من قبيل: التمرن على اتخاذ القرار جماعيا وعلى الديموقراطية التمثيلية، الاستقلالية في الاستدلال، المقاربة النقدية لوسائل الإعلام، المبادرات التضامنية، تطور خاصية الإبداع... 6 رغم عدم تمتع التربية بسلطة مطلقة بسبب إعمالها في رحم سياقات سياسية واقتصادية معينة، رغم ذلك فهي تتوفر على هوامش حقيقية للفعل. ومن واجب المربين والمربيات تحديد هوامش الفعل هذه ليستطيعوا تطوير بيداغوجيا للحرية داخلها. 7 يعتبر الوالدان المربيين الأولين، لكن ممارسة دور الوالدين فِعْل غير قابل للارتجال. إن التحولات الراهنة في البنية العائلية تفرض التفكير في شروط ممارسة دور الوالدين، كما تفرض ذلك، بصفة عامة، تحولات الأوضاع الاجتماعية. وتلزم كل هذه التحولات الدول بتوفير تكوين في حقل ممارسة دور الوالدين، تكوين تستفيد منه خاصة فئات السكان الأكثر هشاشة. 8 إجمالا، وبهدف مواجهة معطيات العالم المعاصر الراهنة، فإنه من الواجب تشجيع كل الوسائل في مجال التفكير حول التربية لفسح المجال أمام الآباء والأمهات والمدرسين والفاعلين الاجتماعيين للعمل المشترك حول قضايا ممارسة السلطة واللجوء إلى العقوبات والتمرين على القراءة النقدية وحسن توظيف وسائط الاتصال.. 9 تحتل المدرسة موقعا متميزا ضمن مختلف الفاعلين التربويين، إذ يتجسد هدفها في المساهمة في انعتاق المتمدرسين عبر نقل المعارف إليهم. ويتم الانعتاق هذا، في نفس الآن وبشكل غير قابل للفصل، عن طريق طبيعة المعارف وطرق تدريسها . 10 يُستلزم في المعارف المدرسية أن تعبد السبيل أمام الطفل ليفهم العالم الذي يعيش في كنفه، وليعرف، خاصة، مختلف مراحل البناء التدريجي للإنسانية: ظهور العالم والإنسان، تطور مجتمعات الحق والقانون، تحرر الإنسان من قوى الطبيعة، تشييد المعارف على أنقاض مختلف أشكال الخرافة، الاعتراف التدريجي بكرامة كل البشر، الجهود الهادفة إلى مزيد من التضامن والمناهِضة لكل أنوع الانطواء أو الديكتاتورية. هذا، ومن الواجب أن تستند صياغة البرامج المدرسية إلى إبراز هذا التطور نحو مزيد من الحرية والتضامن، وإلى العوائق التي واجهته. 11 وإذا كان من الضروري إدماج هذا السند في البرامج منذ سنوات الدراسة الأولى، فإن التمدرس ابتداء من السنة الثالثة من العمر يجب أن يصبح حقا تعترف به كل الدول، وهو حق يمثل آلية ناجحة لمحاربة اللامساواة الناتجة عن الوضع الاجتماعي أو المحيط الثقافي. 12 لا مناص، خلال مرحلة التمدرس الإجباري، من تحرير التربية المدرسية من نمطية التصنيف الجامعي للمواد المدرسة. أجل، هذا التقسيم مشروع إبيستيمولوجيا، لكنه لا يضمن تكوين المواطن في حالة مجرد نقله إلى المواد المُدَرَّسة. يجب أن تنطلق التربية المدرسية من «قضايا» يفترض أن يتعلم كل مواطن طريقة تدبيرها وحلها، وليس من تصنيفات بين المواد راسخة في قارة المعارف العالمة. وهكذا، توظف المواد حسب تصنيفها الجامعي على أساس كونها «مواد مساهمة « في النشاط المدرسي، وليس على أساس كونها مُهَيْكِلة له . 13 يمكن تجميع مجمل المعارف المدرسية في صنفين كبيرين من «المعارف العرضانية»: معرفة التواصل شفويا وكتابيا وجسديا، باستعمال الرياضيات وتكنولوجيات التواصل ولغة حية ثانية على الأقل بالإضافة إلى اللغة الأم. معرفة الإبداع بواسطة الكلمات والجسد ومواد مختلفة، الإبداع عبر مقاربات متميزة وسيرورات خلاقة، فرديا وجماعيا . هذا من جهة، ومن جهة ثانية ، واستنادا إلى حقلي « المعارف العرضانية» السالفي الذكر، يجب أن يتم الاهتمام، خلال مرحلة التمدرس الإجباري، بثلاثة حقول من المعارف الخصوصية المؤهلة للتشبع بمواطنة واعية ومتضامنة: التربية على الصحة والبيئة والتنمية المستدامة . التربية العلمية والتكنولوجية المؤهلة لمعرفة طريقة اشتغال الآلات التقنية ذات الاستعمال اليومي، ولضبط أعطابها، وهي تربية تؤدي كذلك إلى استيعاب الإشكاليات المرتبطة بوضع وتوظيف العلوم . التربية على المواطنة عبر استكشاف تاريخ ظهور الديمقراطية، وعبر اختبار مبادئ وآليات هذه الأخيرة في إطارات وحول مواضيع توافق مراحل نمو الطفل. 14 يجب أن تكون مناهج تعليم المعارف المدرسية متشبعة، هي الأخرى، بفلسفة الانعتاق. ولبلوغ هذا الهدف، فلا بديل على تقديم المعارف على أساس كونها إنجازات بشرية تحققت عبر مختلف مراحل انعتاق الإنسان، وأنها ليست نماذج مثالية أزلية وجامدة . 15 يجب أن يؤهل التكوين المدرسي كل الأطفال للتمييز التدريجي بين ما يندرج في إطار « العلم « وما يندرج في إطار «الإيمان»، بين ما ينتمي ل «المعرفة» وما ينتمي ل « الرأي «، بين ما يهم « الموضوعية العلمية « وما يهم « المعتقدات الفردية أو الجماعية». ليس من اختصاصات المدرسة تشويه ما ينتمي لحقل الاختيارات الشخصية، بل هدفها تلقين ما يصلح للجميع. 16 وبالإضافة إلى هذا، يجب أن يقود التكوين المدرسي التلميذ إلى « التفكير بنفسه «، وأن يسلحه بحس مقاومة كل أشكال هيمنة عشيرة أو جماعة أو قبيلة. ومن واجب البالغين مساعدة الطفل على عدم الانصياع للتأثيرات الهادفة إلى تنميط الناس، وخاصة التأثيرات التجارية. 17 وبصفة عامة، يجب أن يضع التكوين المدرسي نصب أعينه تنمية الفكر النقدي (للتلميذ). وفي هذا السياق، فلا بد من إيلاء اهتمام خاص لقراءة الصورة والتعامل مع وسائل الإعلام. 18 يجب أن تحترم مناهج التكوين المدرسي كرامة وحرية الطفل. وكلما تقدم التلميذ في السن، وكلما كان بإمكانه ذلك، فلا مناص من إشراكه في اختيار هذه المناهج . 19 من واجب المدرسة مواجهة مسخ المعارف المدرسية إلى مجرد بضائع ، وخاصة عن طريق مواجهة هيمنة النقط . وهكذا ، فكل تقييم يتطلب كذلك، وبشكل دائم، أخذ تطور التلميذ ونمو شخصية بعين الاعتبار . 20 ولمواجهة منزلق تبضيع المعارف المدرسية، أصبح مطلوبا من المدرسة توظيف « بيداغوجيا التحفة». وهو ما يقتضي إنجاز أعمال فردية أو جماعية من طرف التلميذ لتتويج مختلف الأنشطة المدرسية ، أعمال يفرض فيها الإتقان وتتطلب من التلاميذ تجاوز العراقيل واكتساب المعارف . أما المدرسون، فإنهم يرافقون هذه الإنجازات ويولون كامل الاهتمام لتطور كل تلميذ; كما يمكنهم استعمال سلما لقياس هذا التطور، وهو سلم يجعل التلاميذ يموقعون أنفسهم داخله انطلاقا مما هو مطلوب منهم. لا يجب ، في كل الأحوال، معاقبة عمل تلميذ ما ب « نقطة سيئة « ورميه في سلة المهملات، بل يفترض إنهاء الأعمال غير الجيدة ودفع أصحابها إلى مزيد من الإتقان . 21 إذا كانت بعض قواعد تسيير المدرسة غير قابلة للتفاوض (مهام المؤسسة ، البرامج ، حظر العنف، احترام التجهيزات المشتركة..)، فإن بعضها الآخر قابل للتفاوض مع التلاميذ وِفْق آليات بيداغوجية مُهَيْكَلة ومنظمة من طرف المدرسين (مجلس التلاميذ. وفي هذا الإطار، تؤول إلى البالغين مهمة مساعدة الأطفال على تشييد « المِلْك المشترك« على تحديد شروط فرض احترامه . 22 لا يجب أن تشمل العقوبات الطرد . إن التلميذ ، حين يرتكب خطأ، يضع نفسه تلقائيا خارج الجماعة، ولذا، فمن اللازم التفكير في عقوبات تسمح له بالاندماج مجددا في المجموعة والحصول على مكان ضمنها، مع احترامه للآخرين . 23 ليست الأقسام المكونة من مجموعة متجانسة من التلاميذ أو من الأطفال ذوي مستوى واحد سوى شكل ، من ضمن أشكال أخرى ، لتنظيم المدرسة . ولقد صار اليوم ضروريا تنويع أنماط المجموعات التلاميذية للاستجابة لمتطلبات الأطفال : مجموعات معتمدة على المستوى والحاجيات ، مجموعات الأنشطة ، مجموعات المتابعة .. وفي ذات الآن ، أصبح من المفروض تنويع أشكال العمل : التدريس الجماعي، العمل في مجموعات مقلصة العدد ، الأبحاث التوثيقية ، العمل المُفَرَّد ، ورشات الإبداع .. 24 تضطلع المدرسة العمومية بمسؤولية ولوج كل التلاميذ إلى المعارف التي تدرسها. وتأسيسا على هذا المعطى ، فمن الخطأ الاكتفاء بتلقين الدروس وترك أمر استيعابها رهينا بالعمل الفردي للتلميذ أو بمساعدة الأسرة له. إن تأطير الدراسة جزء لا يتجزأ من مهام المدرسة العمومية . 25 من واجب المدرسة العمومية توفير آلية وشخص للإجابة على أسئلة كل تلميذ في وضع صعب. ومن المفروض عليها كذلك عدم صد الأبواب أمام التلاميذ والآباء وإجبارهم على التوجه إلى الهياكل الخاصة أو المؤسسات التعليمية التجارية. 26 في المدرسة العمومية، من المرفوض توجيه التلاميذ بناء على فشلهم في بعض المواد، بل يجب أن يتم التوجيه على أساس التربية على الاختيار طوال سنوات التمدرس. 27 يجب ألا يُقَارَب التوجيه نحو المسالك المهنية على أساس كونه عقوبة تبخس كفاءة التلميذ، وعلى المدرسة العمومية الإقرار بتنوع الكفاءات واختلافها، والاعتراف بأهمية مختلف مسالك التكوين. 28 ورغم إلزامية عدم تقمص العائلات لدور هيئة التدريس ، فمن واجب المدرسة تهيئ الهياكل اللازمة لاستقبالها والرد على كل أسئلتها، سواء تعلقت بالتطور الدراسي لابنائها أو بأنشطة المدرسة نفسها . 29 لا يمكن فرض تحولات المدرسة وإصلاحها على المدرسين من طرف الحكومات دون استشارتهم، ودون تزويدهم بالتكوين الملائم لمواكبة التحولات والإصلاحات . وإذا كان من حق الحكومات الحسم في نهاية المطاف في مقتضيات «الصالح العام»، فإنه لا يجوز لها معاملة المدرسين باعتبارهم مجرد منفذين. 30 يفرض على السلطات العمومية إنشاء الهياكل اللازمة للتنقيب على الأعمال البيداغوجية المنجزة في المؤسسات التعليمية ، وتحليلها والتعريف بها. وعليها كذلك تشجيع تبادل الخبرات وضمان الإشعاع للمنجزات . 31 يجب إيلاء الأولوية لتكوين المدرسين وتكوينهم المستمر، وتدبير ذلك بواسطة هيئات مختصة تلبي طلبات هؤلاء ، مع تقديم الدعم والمساعدة للجمعيات والحركات البيداغوجية التي توفر التكوين للمدرسين والمدرسات. 32 تشكل هذه المقترحات محطة أولى في أفق إعادة البناء الضرورية ليوطوبيا تربوية قادرة على مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين، وهي مقترحات قابلة للإغناء من طرف كل الرجال والنساء المؤمنين بكون حتمية « تذكر المستقبل « تفرض نفسها أكثر من أي وقت مضى .