المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية، الجهة، والتوازن المجتمعي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 06 - 2011

تؤطر المفاهيم الثلاثة التي وضعناها عنوانا لهذا البحث الإشكالية التي سنتناول موضوعنا من خلالها. ونشير منذ البداية إلى أن هذه المفاهيم متكاملة لأن الوقائع التي سنستند إليها في فهمها مترابطة على عدة مستويات. ومن جهة أخرى، فإن العلاقة بين المفاهيم التي سنستخدمها ليست ذات اتجاه واحد، أي علاقة تحديد أو تبعية، بل ما بينها هو علاقات متبادلة تسمح لنا بالمضي في التحليل من كل واحد منها إلى المفهومين الآخرين. وبعبارة أخرى، ليس لدينا أسبقية لأي واحد من تلك المفاهيم لأن بعضها يوجه الفكر نحو بعضها الآخر.
1) في التوازن المجتمعي
حيث يتعلق الأمر لدينا بالمجتمع، فإننا لن نأخذ بأبسط دلالات التوازن، أي القول بأنه يعني تعادلا بين القوى الطبيعية. فما يهم في توجه موضوعنا ليس هو التعادل، حيث سنوجه بحثنا نحو مظهر الدينامية في الواقع المجتمعي، وندرك التوازن ونستخدمه من منظور هذا التوازن.
تبدو الدلالة البيولوجية والنفسية أقرب إلى مانريد العمل في ضوئه من حيث يعني التوازن فيها التفاعل بكيفية متكاملة بين الوظائف العضوية من أجل غاية هي الحياة، في الحالة البيولوجية، والنمو في الحالة النفسية والعقلية. وماتفيدنا به الدلالة البيولوجية والنفسية للتوازن هو الانسجام في أداء الوظيفة بدلا من الكم أو القوة اللذان يحيلان على معنى التعادل. نستفيد في هذا المستوى أيضاأن التوازن ليس حالة ثابتة ودائمة لأن هناك اختلالات تقع في الوظائف، فيلزم عن ذلك فعالية لاستعادة التوازن وإعادة التنظيم الذاتي في بعض الأحيان. وهو مايعني في حياة الجسم الحي، كما في الحياة النفسية، وجود جدل مستمر بين التوازن والاختلالات الحادثة، وضروة فعل مستمر لإعادة التوازن أو لإضفاء التوازن من جديد.
يبدو المجتمع في الحالة التي نتحدث عنه فيها بصيغة التوازن أقرب إلى الكيانات البيولوجية والنفسية منه إلى كل واقع فيزيائي. ففيه توازن واختلال، وهو في حاجة مستمرة إلى العمل من أجل استعادة التوازن فيه، لأن الحياة تتوقف على هذا العمل المستمر.
المجتمع مكون من مكونات بشرية مختلفة لها فعاليتها فيه، والتوازن المجتمعي هو أن تكون لهذه المكونات المجتمعية، وضمنها للأفراد الذين ينتمون إليها، الشروط التي تسمح لهم بالحياة وبأداء الوظائف المجتمعية التي ترجع إليهم. ويختل هذا التوازن عندما تغيب أو تضعف تلك الشروط. وهناك ميكانزمات متنوعة داخل المجتمع للحفاظ على التوازن أو لاستعادته عند حدوث اختلالات.
التوازن المجتمعي حالة مطلوبة بالنسبة لكل مجتمع هي التي تتاح فيها لكل المكونات البشرية والمؤسساتية الشروط التي تسمح لها بالفعل في الصيرورة العامة للمجتمع. لكن، خارج إطار كل خطاب امتداحي يحيط به المجتمع نفسه بقصد إظهار نفسه في حالة توازن مستقر، فإن التاريخ يبرز أن حياة المجتمعات على اختلافها لاتخلو من مظاهر الاختلال التي نجد لها تعبيرات مختلفة عنها لدى المكونات المختلفة للمجتمع.
عندما نبحث في التعبيرات عن الاختلالات نجد السؤال مطروحا فيها عن علاقتها هي ذاتها بتلك الاختلالات. وقد اختلفت هذه المظاهر من حيث حجمها بالنسبة للمجتمع، ومن حيث قوتها والعواقب الناجمة عنها، ثم من حيث مدى قدرتها على الخروج بالمجتمع من اختلالاته واستعادة التوازن فيه. فتاريح المجتمعات يتحدث في كثير من الأحيان عن ثورات قامت من أجل استعادة التوازن إلى المجتمع. لكن هذا الشكل من الأحداث يكون هو ذاته نتيجة للاختلالات القائمة في المجتمع في زمن حدوثها، كما أن وقوعها لايكون ممكنا دائما في المجتمعات المختلفة. وهناك مظاهر احتجاج أقل مما ذكرناه، لأنها قد تكون احتجاجات قطاعية، مثل التوقف عن العمل في قطاع معين للإنتاج، أو احتجاجات تهم جهة معينة في أي بلد نتيجة لبعض المشكلات الخاصة.
ليس بإمكاننا في حدود هذه الدراسة المضي في أشكال الوعي بالاختلال في المجتمع، وعن التغييرات التي تنجم عنها في إطار التوجه نحو استعادة التوازن إليه، علما بأن السؤال مطروح أيضا حول الاختلالات الناتجة عن تلك الظواهر نفسها. فهذا الأمر في حاجة إلى دراسات مدققة لأشكال الاختلالات الحادثة في المجتمعات، ولميكانيزمات استعادة التوازن فيها. غايتنا محصورة في إبراز ضرورة الوعي بقيمة توازن المجتمع في حياته وفي صيرورته الطبيعية.وتقتضي هذه الغاية البحث عن المظاهر الأساسية للتوازن والاختلال.
لابد أولا من وجود تعاقدات مجتمعية عامة، وأخرى متفرعة عنها، لضمان استقرار المجتمع وتوازنه. فالمجتمع الذي تنتفي أوتضعف فيه التعاقدات المجتمعية التي تنتظم بفضلها الحياة المشتركة في المجتمع الواحد يكون في حالة اختلال ، وليس في حالة نوازن. وهذا هو حال المجتمعات التي تصبح فيها التعاقدات عرضة للاختراق من طرف فئات أو جهات من المحتمع. ويكون المجتمع في مثل هذه الحالة في حاجة إلى ميكانزمات تنظيمية وسلوكية لاستعادة التوازن.
هناك مسألة أخرى تدخل ضمن مانتحدث عنه، وهي التعاقد المجتمعي حول مستوى الحياة وكيفيتها. ونقصد هنا أنه ينبغي التوافق داخل المجتمع على حد أدنى من الحياة يوازيه حد أدنى من الأجور الملائمة له. مثل هذا التعاقد هو ما يكفل للجميع ضمان الحد الأدنى من الإمكانيات المادية التي يستطبع بها كل فرد من المجتمع تلبية حاجاته الأساسية التي ترتبط بها حياته. أما عكس هذا الوضع، فهو الوضع الذي تتعاظم فيه الفروق بين الفئات المجتمعية. فحين تصبح الفوارق معطاة لكل ملاحظة للواقع المجتمعي، وحين يصبح جزء من السكان دون التمكن من الحاجات الأساسية للحياة، يصبح الوضع المجتمعي فاقدا للتوازن. لذلك نرى أن سياسات المجتمع ينبغي أن تتجه بالضرورة إلى العمل من أجل ضمان الحد الأدنى للحياة بالنسبة لكل مواطن، كما أنه يكون عليها العمل باستمرار من أجل تحسين وضع الفئات الكبيرة من الناس لضمان استقرار المجتمع وتوازنه.
لغياب التوازن المجتمعي على هذا المستوى الذي انتهينا من ذكره آثار سلبية على مسار المجتمع. فالمواطن الذي لايضمن له المجتمع الحد الأدنى من الحياة لن يشكل أبدا ذاتا متقبلة بصورة إيجابية لكل الدعوات التي يوجهها إليه خطاب يدعوه إلى الاندماج في بعض المثل التي تأخذ صبغة وطنية: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتحديث المجتمع، والعدالة المجتمعية، والمساهمة في التنمية. يحس المواطن الذي يوجد دون الحد الأدنى من الحياة أنه غير معني بهذا الخطاب، وأنه يوجد خارج إطار الحياة التي يقع الحديث عنها.
نشير أيضا إلى توازن آخر مطلوب بالنسبة لكل مجتمع، وهو الذي يكون بين السياسات المالية والاقتصادية، والسياسات المجتمعية والتربوية والتكوينية والثقافية والرياضية. هناك، حقا، سياسة تهم كل قطاع من قطاعات الحياة والإنتاج في المجتمع، غير أنه من المطلوب كذلك وجود تخطيط شامل يوازن بين تلك السياسات ضمن أهداف مشتركة تتعلق بالرفع المستمر من مستويات الحياة والإنتاج في كل مظاهرها.
لكل اختلال في توازن السياسات آثاره السلبية على نمو المجتمع، وهذا لأن السياسات المختلفة تتعلق بأبعاد الإنسان كلها. الاختلال في هذا المستوى يقود إلى مظاهر نقص في الحياة الإنسانية. ودون أن ندخل في تفاصيل كل الاختلالات التي قد تمس هذا الجانب أو ذاك، فإننا ننطلق من موقعنا في المجال الثقافي والعلمي لنشير إلى الحالة التي لايأخذ ضمنها البعد الثقافي المكانة التي يستحقها بين أبعاد الإنسان. فلهذه الحالة أيضا عواقبها التي لاينبغي التغافل عنها.
الإنسان كائن ثقافي، وتلك ميزته عن بقية الكائنات التي تشترك معه في العلاقة بالمحيط المادي. وهذا البعد الثقافي للإنسان هو الذي تأسس عليه التاريخ الثقافي والحضاري له. ونذهب إلى القول بأن للإنسان حاجة إلى الثقافى مثل حاجاته المادية الأخرى. ولذلك نرى أن السياسة الثقافية جزء من السياسات العامة لكل مجتمع، وان النقص في الاهتمام بالبعد الثقافي للإتسان مظهر من مظاهر الاختلال في المجتمع وسياسات. والمجتمع الذي يوجد به هذا الاختلال يكون في حاجة إلى تقوية سياسته الثقافية لاستعادة التوازن في هذا المجال.
ضعف حضور البعد الثقافي في السياسة العامة التي يضعها مجتمع ما لنفسه يعتبر اختلالا في توازنه، ويحتاج لذلك إلى سياسة تعيد للثقافة مكانتها الطبيعية ضمن كيانه. واستعادة الثقافة لمكانتها ضمن صيرورة الحياة المجتمعية.
2) الجهة: مجال للتوازن والديمقراطية
اعتمادا على هذا المبدإ الذي وضعنا على أساسه خطة تفكيرنا، نقول إن الجهة، كمفهوم وكواقع في الوقت ذاته، ليست خاضعة لتأثير من اتجاه واحد لمفهوم التوازن أو لمفهوم الديمقراطية. فهي تبعا لمنهجنا في علاقة تأثير متبادل معهما في الوقت ذاته.
تبدو الجهة في المعطى الأول لها جزءا من كل هو البلد- المجتمع الذي تنتمي إليه. فهي واحدة من جهات أخرى تنتمي إلى نفس الكل. ويعني هذا الأمر أن الجهات التي تنتمي إلى نفس الكل لها عناصر مشتركة توجد مجتمعة في ذلك الكل: عناصر التاريخ، واللغة، والوحدة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، والأنثروبولوجية والدينية، وغير ذلك مما يمكن أن يختلف من بلد إلى آخر.
الجهة من زاوية أخرى من النظر إليها كل في حد ذاتها، إذ هي بمثابة البنية التي لها خصائصها المميزة عن الجهات الأخرى التي تنتمي معها إلى نفس البلد. كما أن الجهة نظهر، من منظور آخر، بمثابة البنية المندمجة داخل بنية أكبر منها مرتبطة بها بعلاقة جدلية. بتعبير آخر، كما أن هناك من صفات الجهة مايجعلنا نفهم انتماءها إلى البلد، فإن هناك من الخصائص ما يجعلنا نفهم ضرورة التعامل بها ومعها بوصفها مستقلة وذات وجود متميز.
الجهة في مظهرها الأول معطى جغرافي، لكنها تتصف، إضافة إلى ذلك، بكونها إدارية، واقتصادية، ولغوية، وثقافية، وواقعا قانونيا وسياسيا. لاتجتمع في الجهة دائما كل الصفات التي ذكرناها، ومن الصعب تقسيم أي بلد إلى جهات تبعا لتلك الصفات مجتمعة. ولذلك لاتوجد معايير ثابتة لتحديد الجهات لأن هذا يختلف من بلد لآخر تبعا للمكونات التي تدخل في تكوين سكانه. ويعني هذا الأمر عدم وجود نموذج واحد للتقسيم الجهوي.
السؤال المشترك بين جميع البلدان التي وقع تقسيمها إلى جهات هو: ماالذي دفع كثيرا من البلدان في جهات مختلفة من العالم إلى السير في طريق التقسيم الجهوي؟ وما الذي جعل هذه البلدان تخرج من نظام الحكومات ذات السلطة المتمركزة إلى نظام الجهة ذات السلطة المحلية؟
المبدأ الأول للتقسيم الجهوي هو الوعي بأن تعميق التنظيم الديمقراطي للبلاد يتطلب تقسيمها إلى جهات لها استقلال نسبي، من حيث تنظيمها على جميع الأصعدة، عن السلطة المركزية التي تمثل البلاد في وحدتها رغم اختلاف جهاتها ومكوناتها. ففي تطور الديمقراطية في المجتمع، ونتيجة للوعي المتزايد بأنه لايمكن تدبير شؤون الجهات المختلفة لأي بلد انطلاقا من مركز يحدد وحده جميع السياسات التي ينبغي إتباعها في جميع القطاعات الإنتاجية والإدارية والتربوية والتكوينية، انبثقت فكرة الجهة. نميل، طلبا لفائدة الفهم، أن نماثل الأمر الذي نتناوله هنا بنظرة الفيزياء إلى نسبية صلاحية قوانينها من عالم الظواهر الكبرى إلى عالم الجزيئات الصغيرة. فقوانين الظواهر الكبرى، كما تعلمنا الفيزياء المعاصرة، لاتنطبق على الظواهر الصغيرة وغير القابلة للملاحظة المعتادة، وهذا رغم أن هذه الظواهر الصغرى تكون من مكونات الظواهر الكبرى. ونستفيد من هذا المثال قولنا: إن ملاحظة معطيات الجهة قد تكون ممكنة بالنسبة لمن يلاحظها من المركز باعتبارها جزءا منه، ولكن هذه الملاحظة، التي لاتخلو من فائدة عند رسم السياسات للبلاد في مجملها، لن تحيط، مع ذلك، بحقيقة تلك المعطيات. وبخلاف ذلك، فإن النظر إلى معطيات الجهة انطلاقا منها تساعد على تبين العوامل المكونة لها بصورة اقرب إلى واقعها، وتسمح لذلك برسم سياسة ملائمة خاصة بها. ومعنى هذا من الناحيتين السياسية والإدارية أن المسئول المحلي في الجهة يكزن اقرب من المسئول على مستوى السلطة المركزية من تمثل حاجات الجهة ومن معرفة الوسائل الممكنة والمتوفرة، أو التي يمكن جلبها، للمشاريع التنموية الخاصة بالجهة التي هو فيها. وحتى إذا ماوصفنا معرفة الفاعل المحلي بأنها أكثر موضوعية، فإننا نقول إنه ينبغي أن ندمج في صفة الموضوعية تلك جانبا عمليا يتعلق بالسياسات التي توضع لمواجهة المشكلات المطروحة.
يوجهنا التحليل السابق إلى القول إن التدبير السياسي في حالة التقسيم الجهوي يكون على مستويين في الوقت ذاته. فهناك سياسة عامة ترسم الحاجات العامة والمشتركة للبلاد بكل جهاتها. السياسة العامة في هذه الحالة، وهي التي تصدر عن رؤية البلاد بوصفها كلا واحدا ، ترشد السياسات الجهوية بإعطائها التوجهات العامة التي ستستند إليها. ولكن، حيث أكدنا أن العلاقات التي نهتدي بها تتضمن جدل التأثير المتبادل، فإن المشكلات التي تطرح في الجهات تصبح بدورها مرشدا لملامح السياسة العامة للبلاد ولمخططات التنمية الموضوعة على هذا المستوى.
لكي نعود إلى إطار الرؤية العامة التي انطلق منها تحليلنا، والقائلة بالترابط الجدلي بين المفاهيم الثلاثة الأساسية في هذه الدراسة، فإننا نقول إن التقسيم الجهوي يصبح في حالة وجود اختلاف بين مكونات المجتمع الواحد معطى يعزز التنظيم الديمقراطي للمجتمع، ويمنح سياسات البلاد بعدا يجعلها اقرب إلى المواطن في كل جهة من الجهات، كما ان ذلك التقسيم يستجيب لمطلب التوازن بين جهات البلد الواحد ولمطلب التوازن بين المكونات البشرية بما تحمله من اختلافات ثقافبة بإعطائها حقها من سياسة الدولة ومن صيرورة التنمية.
من زاوية أخرى من النظر، فإن الجهة التي نعتبرها مظهر توازن في المجتمع بين وحدته واختلافاته تكون هي أيضا في حاجة إلى أن يتحقق بداخلها توازن في السياسات الخاصة بها. فالجهة بدورها متضمنة لعناصر مختلفة في حاجة إلى سياسات متعددة: إدارية ، ومالية اقتصادية، وتربوية تكوينية، وتنمية في قطاعات مختلفة، وثقافية تهم الثقافة الخاصة دون إغفال تفاعل هذه الثقافة مع المكونات الثقافية للبلاد في مجموعها. ونقول هذا لأن الجهة، بتحديدها نفسه، ليست جزءا منفصلا عن الكل، بل هي مندمجة مع الكل الذي تنتمي إليه عبر علاقات أخذ وعطاء متبادلين..
يبدو تبعا للطربقة التي حددنا بها ظهور فكرة التقسيم الجهوي للمجتمع أننا لم نفصل تفكيرنا في الجهة عن تفكيرنا في الديمقراطية والتوازن السياسيين والمجتمعيين في الوقت ذاته. فالجهة كما وصفناها محل للتوازن بين المكونات المجتمعية من جهة، وللتوازن بين السياسات التنموية والثقافية من جهة أخرى.
3) الديمقراطية: إطار
شامل للتوازن
ما القول الآن في الديمقراطية في إطار دراستنا الحالية؟ الديمقراطية هي الإطار الشامل للتوازن المجتمعي، وهي كذلك الإطار الذي يأخذ فيه التقسيم الجهوي للبلاد معناه.
الديمقراطية هي الشرط العام للتوازن المجتمعي. فهي تكون كذلك، في نظرنا،بالنسبة لكل مجتمع تتعدد مكوناته وتختلف من حيث أصولها وتطوراتها. الديمقراطية، أولا، توازن بين الدولة والمجتمع، وذلك بتعرف كل طرف منهما في الآخر وبواسطته. فالمجتمع يتعرف في الدولة القائمة فيه على أساس ديمقراطي سلطة منبثقة عنه لها وظيفة ضمن صيرورة الحياة المجتمعية بصفة عامة. أما الدولة المؤسسة على اختيار ديمقراطي، فإنها تتعرف ذاتها في المجتمع الذي توجد فيه باعتباره مصدر سلطتها وغاية وظيفتها في نفس الوقت.
الوظيفة المجتمعية للدولة الديمقراطية هي تدبير شأن المجتمع في مستواه العام، ورسم الخطط من أجل أن يكون ذلك التدبير ملائما لحاجات المجتمع وتوجهاته. وتكون هذه الوظيفة المجتمعية للدولة مراقبة في النظام الديمقراطي من مؤسسات يتضمنها هذا النطام على الصعيد الوطني والجهوي معا. لكن تطور الممارسة الديمقراطية للتدبير أبانت أنه لايمكن ضبط تدبير الشأن العام وتدقيقه انطلاقا من سلطة متمركزة فحسب، ومن هذا التطور نفذت إلى كثير من المجتمعات الديمقراطية فكرة الجهة باعتبارها تعميقا للممارسة الديمقراطية على المستوى المحلي، عبر إشراك كفاءات الجهة في التفكير في تدبير الشأن العام وممارسته. وحيث إن المجتمعات مختلفة بتاريخها ومكوناتها، فقد ظهرت نماذج متباينة للتقسيم الجهوي تبعا للمعايير المتبعة في كل بلد من أجل إرساء ذلك التقسيم.
الديمقراطية،ثانيا، توازن للمجتمع على صعيد مكوناته. ونعلم اليوم أن التفاعلات والهجرات أدت إلى أن تكون المجتمعات المعاصرة كيانا تختلف مكوناته من حيث أصولها، ومن حيث ثقافتها وأعرافها وعقائدها ولغاتها. ولم يعد من الممكن تدبير شأن المجتمع في مستواه العام دون مراعاة مظاهر الاختلاف التي ذكرناها. لذلك كانت الديمقراطية أفضل اختيار يمكن أن يضمن تعايش مكونات مختلفة في نفس المجتمع، إذ بدونها قد تصبح الاختلافات متوحشة وتكون مصدرا لصراعات مدمرة لوحدة المجتمع والبلد، كما نشاهد ذلك اليوم في جهات مختلفة من العالم. الديمقراطية هي السبيل إلى عقلنة الصراعات ودفع الاختلافات نحو السير في الاتجاه الذي يجعل المختلف مقبولا ضمن وحدة اشمل. وهذا الوعي بضرورة تدبير الاختلاف في المجتمع لكي يتم الحفاظ على وحدته يزدوج في نفس الوقت بالوعي بحدود التدبير المركزي، وهوماقاد كثيرا من المجتمعات إلى اتفكير في تنظيم تدبير المجتمع عل أساس نظام يجمع بين المركزي والجهوي. فالجهة، في هذا المستوى، مجال لممارسة التدبير الديمقراطي في حدودها وفي انسجام مع التدبير على الصعيد المركزي.
إذا كانت الديمقراطية، كما رأينا، توازنا في المجتمع على صعيد مكوناته، فإن الجهة قد تكون بالنسبة إليها مجالا لهذا التوازن في الحالات التي لاتكون فيها الجهة جغرافية فحسب، بل تكون أيضا موقعا لمكون من مكونات المجتمع الثقافية واللغوية. وعلى هذا الصعيد تصبح الجهة مستوى تمارس فيه سياسات لغوية وتربوية وتكوينية خاصة، تستجيب لخصائص سكان الجهة.
لم نتناول بالدراسة معاير التقسيم الجهوي لأنه موضوع مستقل عن موضوعنا الذي كان البحث فيه متعلقا بالجهة من حيث المبررات المبدئية لوجودها في إطار المجتمع المبني على اساس التنظيم الديمقراطي له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.