شهد اليوم السادس من انطلاق الدورة الرابعة والستين لمهرجان كان السينمائي الدولي عرض واحد من أهم أفلام الدورة. يتعلق الأمر ب «شجرة الحياة» للمخرج الأمريكي تارانس ماليك (ولد عام 1943) وهو من المخرجين المقلين في الإنتاج، حيث لم يخرج سوى 5 أفلام طيلة 38 سنة، أثارت كلها اهتمام الجمهور واهتمام نقاد السينما وعشاقها في آن معا. ففي العام 1973 أخرج أول أفلامه: «بادلاندس» (لعب بطولته مارتن شين وسيسي سباسيك)، الذي يتناول جريمة حقيقية وقعت بولاية داكوتا في خمسينات القرن الماضي؛ ثم أتبعه عام 1978 بفيلم «أيام السماء» (بطولة ريتشارد جير وبروك آدامس) عن عامل زراعي يقترح على حبيبته أن تتزوج برجل غني يحتضر هو رب الضيعة التي يشتغلان فيها على أساس أن ترثه بعد موته؛ ليصمت المخرج عشرين سنة كاملة يعود بعدها بفيلم «الخط الأحمر الرقيق» ((1998 - بطولة شون بيت ونيك نولتي- عن رواية سير- ذاتية للكاتب جيمس جونس تتناول الصراع على كوادالكانال خلال الحرب العالمية الثانية؛ ثم بفيلم «العالم الجديد» ((2005 - بطولة كولن فاريل وكريستوفر بلومر- عن الصراع بين سكان أمريكا الأصليين والمستعمرين الإنجليز للقارة في القرن السابع عشر. في الفيلم الجديد لتارانس ماليك نجد تعميقا للبحث، أو للتساؤل في الحقيقة، حول كنه الكائن البشري وجوهر علاقته بالآخرين وبالكون الذي يعيش فيه؛ وذلك انطلاقا من السيد أوبريان وطبيعة العلاقة الموجودة بينه وبين أبنائه الثلاثة وزوجته في أمريكا خمسينات القرن الماضي، والتي لا تختلف في شيء عن العلاقة الموجودة داخل الأسرة الأمريكية بوجه العموم، وتطورها في الزمن، سواء أثناء الخمسينات أو وصولا إلى وقتنا الحالي. فالسيد أوبريان (لعب دوره براد بيت الذي هو في الوقت نفسه منتج الفيلم) يحرص على تربية ابنه الأكبر بصورة تمكنه من مواجهة عنف المجتمع، حسب تصوره، لذلك نجده يتعامل معه بعنف شديد يؤدي إلى اعتقاد الإبن أن أباه يكرهه ومن ثم يصل به الأمر إلى حد التفكير في قتله بل وقتل أخويه اللذين ولدا بعده معتقدا أنهما حرماه من حب والديه الذي كان يستأثر به لوحده. إلا أن الأب سرعان ما سيندم على اختياره هذا مرتين: أولهما حين يتم طرده من العمل (ويكتشف أن العنف الحقيقي هو عنف رأس المال وتشييئه للإنسان)، وثانيهما حين يموت الإبن الأكبر في الحرب، دون أن تنفعه تربيته العنيفة في الانفلات منها، ويخلف مأساة تلقي بظلالها على الفيلم برمته (هل يستطيع الفرد لوحده، ومهما بلغت قوته، أن ينتصر على عنف الحرب؟). إننا ننظر إلى لحظة الفقد هاته التي حصلت في الخمسينات انطلاقا من الوقت الراهن، وذلك عبر ذكرى الأخ الميت الحاضرة باستمرار في ذهن الأخ الأصغر (لعب دوره شون بين)؛ كما ننظر إليها في ارتباط مع حركة الكون برمته اعتمادا على رحلة يقودنا المخرج عبرها (في مرحلتين: بداية الفيلم ونهايته) إلى اللحظة التي ولد فيها الكون قبل 14 مليار سنة، وولدت فيها الأرض قبل 4 مليارات وخمسمائة ألف سنة... ثم إلى اللحظة التي تنتهي فيها الحياة، بموت الشمس، بعد عدة مليارات من السنوات. لتحقيق هذا الهدف يقوم المخرج بالاشتغال في اتجاهات متعددة: بناء عالم خيالي تماما اعتمادا على الصور الافتراضية والمؤثرات الخاصة (يحيلنا في كثير من أجزائه على رائعة ستانلي كوبريك « 2001، أوذيسا الفضاء»)، ثم الاعتماد، فيما يتعلق بالعالم الواقعي للسرد، على كاميرا محمولة تقترب من الشخوص أكثر من اللازم إلى حد أنها تقتحم عليهم حميميتهم وترغم المشاهد على التماهي معهم؛ واللجوء إلى عدسة تغير منظور الرؤية الاعتيادي وتحيل الخطوط القائمة إلى منحنيات وخطوط مائلة... إضافة إلى اختيار مؤلفات موسيقية جنائزية ترافق الفيلم من بدايته إلى نهايته لتذكرنا، وعلى نحو مستمر، بوفاة الإبن، وبمأساة الأب الذي كان يحلم بأن يصير موسيقيا فوجد نفسه مجرد مسمار في آلة رأسمالية ضخمة يمكنها أن تستغني عنه في أي لحظة وتواصل سيرها وكأنه لم يكن موجودا في يوم من الأيام؛ كما تذكرنا بالكون القادم من عدم والمتجه نحو عدم لا يمكننا أن نواجهه بغير الحب: «الوسيلة الوحيدة للوجود هي أن نحب»، كما تقول إحدى شخصيات الفيلم،أن نحب الآخر وأن نحب الحياة.